مجلة البيان للبرقوقي/العدد 43/قتل الأطفال

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 43/قتل الأطفال

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1918



يعلم الناس أن العرب في جاهليتهم الأولى كانوا يئدون البنات، ويقتلون البنين، خوفاً من عار يصيب شرف العشيرة من فتياتها، وخشية إملاق من تكاثر فتية العشيرة وغلمانها، إذ كان الرزق في الصحراء شاقاً على أهلها، وكان الطعام لا يظفر به إلا بشق النفس، وتهالك الروح، وكان الطعام لا ينال إلا قسراً، والأكل لا يقع للفم إلا انتهاباً، فخشي القوم أن تجوع بطون الجميع، فآثروا أن يقضوا على أنفس القليل، ليعيش الكثير، وقد يكون في تلك العادة الجاهلية روح من الوحشية والقسوة، ولكنه لا يزال بعد نظاماً اجتماعياً، وتنفيساً للحياة من أن تخنق فينقرض الأهل، ولا يبقى طفل يوأد، ولا وليد يخنق، ولكنا لا نستطيع أن نرتضي ذلك النظام، لأن الرحمة مادة العيش، ولزام الشرائع، ونحن يهون علينا أن نصاب في كثير من فروع الحياة من وراء الرحمة إذ نستخدمها في مواطن غير مواطنها، وتسلم الرحمة من الأذى فتعيش بجانبنا.

ولا يظن القراء أن عادة قتل الطفل والصبية، إناثاً وذكراناً، قد انقرضت إذ بادت الجاهلية الأولى وأن العرب هم واضعو ذلك النظام الخشن وحدهم، وأن الشمس اليوم تطالع العالم فلا تشرف على والد يغيب أصابعه في عنق وليده وتغيب عن الدنيا وتنيب عنها أخاها القمر فلا يدرك إما تخنق طفلتها وهي في نشيجها مفحمة من البكاء، بل لا تزال تلك العادة شائعة في كثير من أقطار الدنيا وبلاد الله، وفي أقاليم لا يعز فيها الطعام، وتخوم سرية بالغذاء وخبأ الأرض والسماوات ففي قبائل الأسكيمو الغربيين يقتل الأطفال لا خشية مسغبة أهلهم وإنما يخنق الضعفاء منهم والمشوهون، ولا يسمح للولدان التوائم بالحياة، لأنهم يعتقدون أن الشؤم واقع بمولدهم، وأن النحس ملم بخروجهم إلى نور الشمس وفي قبائل تسمى الإيبونز في أمريكا الجنوبية يقتلون الأطفال الذكور أكثر من قتلهم الإناث، فإذا أبقوا يوماً على طفل منهم، لم يلبثوا أن يبيعوه ويستبدلوا به زوجة، وأما الفتاة فغالية الثمن سامية القيمة.

وقد أرجع العلماء الكبار مثل هربرت سبنسر ودارون ووستر نمارك وماك لينان عادة قتل الطفل إلى أربعة بواعث، نحن باسطوها للقراء.

فالباعث الأول ثورة غاضبة في النفس وسورة حادة تغذوها الوحشية فقد ذكر دارون أن الرجل في جزيرة تيارا دل فيوجو ومعناها في الإسبانية أرض النار وهي تلك الجزيرة المترامية على سفح قارة أمريكا الجنوبية، يثب إلى طفله فيفدخ جمجمته، لأنه قلب سلة السمك، وفي أستراليا إذ يرى الوالد ضبيه مريضاً يقتله فيضع لحمه فوق النار فيعده شواء شهياً لمائدة الغذاء، وفي بلدان من بلدان أفريقيا اعتاد الصائدون أن يضعوا أطفالهم في حفر الأسد ليغروا الأسد على الوقوع فيها والارتطام في قاعها.

والباعث الثاني هو تنازع البقاء ففي بولينزيا إذا أجدبت الأرض وحل المحل وضع السكان ضريبة من اللحم الآدمي يقدم من كل أسرة من أسر البلد فلا يختارون إلا جيد تلك اللحمان، وهو لحم الأوزي أي لحوم الأطفال، وفي جزر واي هاي واي يخنقون الأطفال أو يئدونهم بعد الطفل الرابع، لأنهم لا يستطيعون أن يحتملوا أكثر من أربعة أطفال للمرأة وبين القبائل الصائدة والعشائر الحربية التي دأبها الحرب والقتل، يرى الرجال أن النساء لا يستطعن أن يستخدمن كدواب للحمل كما هي في الجماعات الزراعية إذ يعتقدون أن الفتيات قد يقعن في إشراك فتية القبيلة المعادية لهم، ولذلك يقتلون البنات في طفولتهن على أن الدافع الذي كان يدفع جاهلية العرب إلى وأد البنات لا يزال يغري قبائل من الهنود بذلك القتل وتلك سنة فاشية في راجبوتا وغيرها من البطون والعشائر ففي الطبقة النبيلة، وبين أشراف رجبوتا يعتقدون أن من العار الأكبر أن تظل الفتاة بلا زواج وأنه لا يجوز للعذراء أن تتزوج من دونها في طبقتها ومركزها الاجتماعي، ثم لا يزال زواج البنات أمراً غالياً باهظاً يستنفد ثروة والدها، إذ قد يكلف زواج البنت والدها الراجا ما يربي على مائة ألف جنيه فلاجتناب كل ذلك وللتفادي من هذه الأداة جعل كل رجل يقتل نسبة محفوظة من بناته.

والباعث الرابع أن يكون سبباً من الأسباب الاجتماعية أو شرعة من الشرائع السياسية فقد كان الأطفال في اسبارطة وفي كثير من بلاد الرومان القدماء يقتلون بأمر الحكومة إذا كانوا ضعفاء أو مشوهين.

وقد كان أرسطو وأفلاطون يمتدحون تلك الشرعة ويمجدونها ويرون سدادها ورجاحتها، وإن كان الناس اليوم يعيبون على الفيلسوف نيتشه أن خرج إليهم بذلك المبدأ الذي كان أبوه أرسطو وهو سيد فلاسفة الأرض يحترمه ويؤمن بصلاحه.

على أن جريمة قتل الأطفال ليست سيئة تشين أهل الممالك البعيدة عن تخوم المدينة، بل لا تزال شائعة في أهل الحضارة، ومدنية القرن العشرين، وكم نسمع عن أطفال وجدوا طريحين في عرصات الطرق أو مخنوقين وملقاة جثثهم في ركن من أركان الدور والحوانيت، وهي كثيراً ما ترجع إلى الجنون أو الكراهة الشديدة التي لا موجب لها للطفل أو للزنا مخافة العار الذي يصيب الأم من مولد طفلها.