مجلة البيان للبرقوقي/العدد 43/أحداث الشهر

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 43/أحداث الشهر

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1918



النكبة الأهلية الكبرى

من أكبر أحداث هذا الشهر أكتوبر في مصر، نازلة ألمت بساحة هذا البلد فأدمت القلوب، وسحت لها العيون، وعم الأسى الأرواح، وحد عليها عالم الأدب، وعطل العالم النسوى من أكبر فخره وأروع حليته، وأنهد ركن من النهضة الأدبية التي نحن بسبيلها، وفقد عالم التفكير علماً خفاقاً من أعلامه، وخسر طلاب التهذيب والدعاة إلى الإصلاح والواثبون إلى ترقية الأسرة المصرية والسمو بها إلى التربية الحديثة القويمة، عنصراً من ألزم العناصر لرقي الأسرة، وهادياً من أسمى الهداة إلى السنن الصالح، والتهذيب المنشود، ذلك أن اغتالت المنون سيدة من كرائم الكاتبات، وزوجاً من خيرة الأزواج، وابنة رجل من مشيخة الأدب، وأهل الأسماء النبيلة، والذكر الرفيع، والعمل الصالح، فلم يبق في مصر إنسان فتح في حياته صفحات كتاب، ولا رجل أدرك شيئاً من تاريخ النهضة الحديثة، ولا زوج عرف فضل الزوجة الكريمة المهذبة، ولا أب اعتز بفلذات كبده، وازدهى بكرائم بناته، إلا جزع للنبأ، وطار لبه للمصاب، فبكى العلماء والأدباء والمتأدبون وعامة القراء في أثر تلك الراحلة الكريمة، إذ فقدوا أدباً رائعاً، وتفكيراً طلياً طريفاً، وخواطر عليها أثر الإخلاص والنبل والسمو الذهني، وابتأس الأزواج إذ غاب عن حياة الأسرة المصرية المثل الأعلى للزوجة، والقدوة الحسنة لحياة العشيرة، واذكروا مصاب زوج أسيف كان عزيزاً بتلك النعمة العظيمة، فخوراً مغتبطاً بتلك النفيسة الغالية، وتقطعت أكباد الآباء، وزفرت زفرات الشيوخ، إذ انتهى إليهم جزع أب كان خير الآباء لخير البنات، وكان بكنزه العظيم عزيز الجانب، وكان بتلك السيدة الممتعة الأدب، المستضيئة الخاطر فرحاً قرير العين.

تلكم هي المرحومة ملك ناصف، باحثة البادية، التي لها الشأو البعيد في الأدب، والسهم الأكبر من البحث، والنصيب الأجزل من الفلسفة العصرية، والخواطر الجميلة المهذبة، سيدة هي فخر نسائنا، وكاتبة في طليعة أديباتنا، أخذت الذكاء والفضل مطبوعاً، وجرى في غريزتها من أبيها حفني ناصف، الشاعر الحلو الأغاريد، الفكه القريض، الجم الأدب، فتجلى فيها أدبها الخصيب، وذكاؤها المفرط، غريباً شاذاً نادراً آية عجب ودهشة، في وسط عالم نسائي ما فيه إلا معجبة بسوارها، مزهوة بأقراطها، ومزركشة بأثوابها، وحرائ معاطفها وإلا من برزة خلت من خفر وحياء فأخذت الظهور في عالم الأدب مصيدة، وبدت بين الكتاب والكاتبات لتتم لها الأحبولة، وادعت العلم وتكلفت التفكير، ولا تفكير ولا علم إلا بأمور نسائيتها وسخفها، ولذلك كان رحيل سيدة فضلة وكاتبة بليغة ومفكرة رائعة التفكير، أوقع في النفس من وفاة رجال عديدين من النافعين، وطائفة من العظماء الكبار الأذهان، لأننا نستطيع عن الرجال تأسياً، ولهم بديلاً وإضراباً، ولكن فقد كاتبة نحن في أشد الحاجة إلى قلمها وذهنها وروحها السامية أبلغ أثراً من ذلك وأعظم وقعاً، إذ هيهات أن تجود الأقدار بمثلها، وهيهات أن يخرج العالم النسائي في مصر ضريبة لها إلا على فترة من القرون وهون من الأجيال، وإذا كانت الطبيعة تضن على الدنيا بالعظيم فتدع بينه وبين التالي له صفحات خالية في سجل الدهر ولا تخرجه إلا بعد أن تعد له العدة من الظروف والوسط والزمن، فهي لا تزال أضن بالعبقريات، وأبخل بالسيدات العظيمات، لأن العظمة عنصر غريب لا يوافق النساء، والعبقريات منحة لا تزين الغانيات، ولكن الأقدار تتخير المرأة التي تصلح لغرضها الذي تريده القوة الإلهية فتحبوها بكل الألوان والمستلزمات التي تطلبها العظمة والعبقرية، ولذلك كانت السيدة التي يؤتيها الله تلك الهبة أروع من الرجل الذي قد يمنحها، ولو أنت أردت أن تحصي عدد النساء العظيمات في تاريخ أمة من الأمم، لما أعجزك الإحصاء، ولا شرفن عليك من خلل القرون والأجيال، فإذا هن قلائل وإذا بك ترى بين كل منهن والتالية لها زمناً طويلاً، وعهداً بعيداً.

فكيف عمركم الله نستطيع صبراً على نكبة أهلية كهذه غمت حياة الشعب جميعاً، وتناولت أهم فروع عيشنا فنزلت بها، ولكنا خلقاء بأن نتجمل بالصبر، طوعاً أو كرهاً، ونسوق العزاء إلى الثاكل الذي دمي فؤاده من أثر نكبته، ذلك الشيخ الجليل، والأديب الممتع العذب المحضر، وإلى الزوج الأسيف المحزون، الذي ألم به هذا المصاب العظيم، فكان منه ذا أثرين، وهد منه ركنين، إذ فقد زوجه الصالحة، وربة بيته العامر، وكان من هذه الناحية زوجاً، ثم خسر ضوء ذلك الكوكب الذي كان متسامياً في أفق الأدب والتفكير، وكان من هذه الوجهة أديباً متعلماً مهذباً، ولكن حسب ذلك الزوج الكريم، عبد الستار بك الباسل فخراً أن زوجه ستروح وإن غابت عن حياة هذه الأرض، في القلوب، وذكرها في الأسماع، وطيب أحدوثتها في الأفواه، وإن الله قد أراد لها نعمة الخلود.

هذا وسنأتي على ترجمة حياة الفقيدة ملخصة بقلم حضرة الأستاذ الأديب الشيخ مهدي خليل المدرس بمدرسة عبد العزيز الأميرية مع اختيار شيء من منظومها ومنثورها في العدد القادم إن شاء الله.