مجلة البيان للبرقوقي/العدد 44/الأستاذ ويلسون

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 44/الأستاذ ويلسون

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 10 - 1918



رسول السلام

ونهوض العالم الجديد لإطفاء نار العالم القديم

دخلت أمريكا الحرب العامة، وهي المرة الأولى في تاريخ تلك الديمقراطية العظيمة التي إنما أسست على السلام، لا للحرب ولا للقتال والصدام، سمع فيها الناس جميعاً باشتراكها في حرب الإنسانية العامة على حين أنها بعيدة عن ميدان القتال بآلاف الأميال، ولا مطمع لها في أرض، ولا صالح لها في مستعمرة، ولا مطامع لها تمد إليها عينها، ولا أغراض تريد من دخول الحرب تحقيقها، بل وثبت من مكانها فاجتازت الأوقيانوس يقودها رجل عظيم، ويحركها رأس جبار، لإطفاء نار الحرب، وتهدئة تلك الجنة التي تولت أهل العالم القديم، وتسكين سورة تلك الحرب التي كادت تودي بالحضارة العظيمة، حتى استطاع ذلكم الرجل النادرة رسول السلام أن يظفر بالاحترام والتقدير للجميل والاعتراف بالصنيع المحمود، من كل رجل يحب الحق، وينتصر للحرية، ويجنح إلى السلام.

وقد قرأنا في إحدى المجلات الكبيرة بحثاً طلياً ممتعاً كتبه عضو مشهور من أعضاء البرلمان البريطاني عن الأستاذ ويلسون رئيس تلك الجمهورية الكبرى، وهو بحث جديد لم ينشر نظيره في الصحف، ولم يكتب ضريبه في المجلات، فإن الكاتب - وهو مستر اكونور - ظل أعواماً عدة يدرس آراء ويلسون وكتاباته، ويعجب بمبادئه السياسية، وزار أمريكا فلبث فيها عاماً أو يزيد، صرف أكثره في واشنطن، وزار ويلسون وتحدث إليه، حتى استطاع أن يصور الرجل الصورة التامة الحقيقية، وقد آثرنا أن ننشر ذلك البحث الجميل الممتع، تخليداً لأكبر شخصية في التاريخ الحديث، وتقديراً لعظمة نصير الإنسانية الضعيفة، ومؤيد الدعوة إلى السلام العام.

هذا الرجل هو وليد المتحف والمكتبة وابن أمريكا وإيرلنده، وإن فيه لجميع ملامح العنصرين، ولم أر قبله رجلاً تبدو عليه دلائل أصله، وأمارات الجنس الذي انحدر عنه، في روعة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها فإن جده وجدته هبطا من مقاطعة الصتر وكان الجد صحفياً صفوة عمره، وكان والده قسيساً عصرياً مستنيراً، ولهذا كان الجد والأب من الطبقة المهذبة، وكانا معاً من أهل المواهب الذهنية، وكانا قارئين مشغوف بالقراءة ودارسين مولعين بالبحث والدرس، فإذا كان مستر ويلسون اليوم من كبار العلماء والباحثين، ورجلاً من أكبر المفكرين، وسيداً عظيماً في عالم الأدب وميدان الخطابة، فإنه إنما أوتي جميع أولئك رأساً من أجداده وعشيرته، والوسط الأول الذي نشأ فيه، ولئن كان تربى في كثير من المدارس، وتخرج من عدة من الجامعات، فإن الفضل في جميع مشاعره الأدبية، وعظمته الذهنية، يعود إلى أبيه، وعن أبيه أخذ كذلك الروح المجونية في الحياة، المحتجبة في تضاعيف التعبير الشديد وعبوسة اللغة التي يتكلم بها، وذلك التقطيب الذي يبدو في معارفه، وقد حدثني أولياؤه وخلطاؤه عنه فقالوا إن صورة الفوتوغرافية لا تشبه حقيقته عند الذين يعرفونه، فإن الجبين العالي والفم المنطبق الشفتين، الثابت التقطيب والفك القوي، والصدغ العريض، والملامح المتجهمة، إنما تقدم للناس صورة ويلسون آخر يخالف ويلسون الذي يعرفونه، ولعل ذلك راجع إلى الثقة بالنفس، لأن الثقة بالنفس تكسب الوجه شيئاً كثيراً من الرزانة والوقار لا حقيقة له في النفس التي تختفي وراء ذلك الوجه، فإن وردر ويلسون المعروف في الحياة الخصوصية وبين الأصدقاء والخلطاء يتجلى وفي عينيه بريق ساطع، وفي فمه حركة مستمرة، وشفتاه لا تفتران عن الابتسام وإن تراءى في صورة الفوتوغرافية مقطباً، وأكبر مزايا ذهنه أن الكاتب الذي أولع بقراءة كتبه ولبث طول حياته ثابتاً على مطالعة تواليفه هو الروائي شارلز دكنز ومنه استمد قوة الملاحظة، وأدرك معرفة جميع الذين حوله، وإن نظر إليهم عن كثب في وسط الزحام العظيم أو في غمار الحفلات وسهرة الملاهي والاجتماعات، أو وهو مشغول الذهن بإعداد الخطابات، وإنه ليعود قافلاً من احتفال أهلي عظيم حيث الأمور تنهك الرجل الكبير وتذهب راحة الوالي العظيم السلطان، غير متعب ولا متراخي القوي، لأنه اعتاد أن لا يجد لهواً إلا في ملاحظة الناس الذين حوله، ولا يبهجه إلا الاطلاع إلى الذين يحوطونه.

ومن هذا يستطيع المرء أن يصف ويلسون على الرغم من أنه من أصل إيرلندي بأنه أشد الأمريكيين أمريكية، لأن الذهن الأمريكي إنما ينظر إلى الأمور الرزينة رزيناً، وإذا باشر عملاً - كهذه الحرب مثلاً - فلا يدعه حتى يتهمه، ويهجم عليه بصبر لا رحمة لنفسه فيه ولا إشفاق، ولكن العادة أن الأمريكي لا ينظر إلى الأمور نظراً محزناً رزيناً جد الرزانة، لأن الأمريكي لا يزال يحب المجون والتهييص ولاسيما في الحديث، حتى ليخيل للإنسان أن الأمريكان أقرب إلى الفرنسويين أرواحاً ومشاعر منهم إلى الانكليز أو الاسكوتلنديين، والأمريكي لا يريد أن يلوح رزيناً ولكن البساطة - وهي الخلق السائد في ذلك العالم الجديد - تجعل الرزانة إذا هو اتخذها مضحكة متباينة، ولذلك - على الرغم من معارف ويلسون المتجهمة ولهجته القاسية التي تدل على حدة الطبع وحمية النفس، وتوقد الوجدان - لا ينبغي أن تحسب الرجل على رزانة مصطنعة غير طبيعية، ولا يجمل أن يظن الرجل متكبراً متغطرساً صلفاً كما اعتاد الناس أن يحسبوه ولكن من بين الفضائل التي أخذها عن أبيه وتعلمها عن والده هو أن يكون رجلاً بين الرجال، وكل إنسان عرف ذلك القسيس الشيخ المهذب، وإن لم يكن إلا أستاذاً للعلوم الدينية الغامضة - يعلم أنه كان يكسب فؤاد المرء بتلك الحرية والصراحة في الحديث التي يستمدها من قلب طيب كريم بين جوانحه.

فلما انتقل الأستاذ ويلسون من التدريس في الجامعة لكي يتقلد ولاية مقاطعة نيوجرسي كان الناس يذهبون إلى أنه سيصبح لعبة في أيدي السياسيين العمليين ولكن ظهر بعد ذلك أن نيوجرسي تلك المقاطعة الصغيرة أصبحت أرقى مقاطعات الولايات المتحدة الأمريكية في القضاء والتشريع والحكم والإدارة، ولو أننا قارنا ويلسون وهو حاكم تلك الولاية به وهو اليوم على رأس مملكة عظيمة، لرأيناه في الأولى صغيراً بالنسبة إليه الآن، ولكن عندما يذكر تاريخ الماضي يعلم الناس أن أعماله في تلك المقاطعة كانت مثالاً من أبهر الأمثلة على رجل برلماني وقائد حمي يسوس الحوادث والرجال ويسوقهم إلى غرضه الذي يعمل له.

ولعل سائلاً يسأل عن الطرائق والصفات والمميزات التي جعلت حاكم ولاية جرسي قديراً على هذه المعجزات، فليعلم الناس أنه نقيض ما يحسبه الناس والصورة المعارضة لما كان يتأول القوم فيه، فلم يكن أستاذاً غامضاً عليه خشونة العلم وثقل روح العلماء، بل كان محبباً رفيقاً متسامحاً، وديعاً هادئ الطبع، يعرف الرجال ويعرف كيف يسوسهم أو بعبارة أخرى كان رجلاً مفكراً ودارساً باحثاً أوتي رزانة الغرض مع شيء كثير من روح الدعابة، فاستطاع بذلك أن يلقى جميع صنوف الرجال ويمتزج بهم ويكسبهم إلى صفوفه ويظفر بهم في جانبه، ويحركهم كما يحرك حجارة الطاولة وأدوات الشطرنج ومن هذا تعلم أن ويلسون لم يدرس شارلز ديكنز عبثاً وبلا جدوى.

ولكن لا ريب في أن هناك صفات أخرى كان لها الفضل في نجاحه الباهر وذلك أنه كان أميناً، شجاعاً، جلداً رابط الجأش، ولم يكن الرجل أخا عزة مصطنعة وكبر متعمل، ووقار متكلف، ولم يكن من أساتذة الجامعات المزهوين بأنفسهم المعتزين فإذا غلبته المصاعب، وعرضت شدائد لا يستطيع لها مغالبة، ترك مكتبه بكل سكون، وغادر كرسيه الهزاز ومضى إلى منصة المنبر يحدث الناس الحديث ويقص عليهم الأمر، وهو لا يعبأ بأن يقال عنه خطيب مكثار، أو متكلم خداع، بل يعلم أنه إنما التجأ إلى شعبه الذمي يحبه ويدافع من أجله، وينضح عنه.

وهنا انتقل إلى شرح الرجل من ناحية أخرى، فأقول أن ويلسون رجل إنساني، والمخلوقات الإنسانية لا تستطيع أن تثبت على قسوتها التي تحشدها للغرض الذي تضع نصب عينها ما لم توجد لنفسها شيئاً من اللهو لا تستطيع أية قوة أن تعيش بدونه، ولكن الأستاذ ويلسون تابع عمله إلى غرضه بكل ما تستطيع القوة الآدمية، وليس الأمر المدهش أن يكون ويلسون رئيساً للجمهورية، وأن يكون في هذه الساعة الرجل الصالح للرئاسة، بل لقد يكون ادعى للدهشة وأعجب لدى الناس، أن لا يكون كذلك، لأن تقلده الرئاسة ليس إلا نتيجة طبيعية منتظرة لإعداده نفسه منذ رجولته وتدريبه إياها في سبيل الرئاسة، وكما يدرب اللاعب نفسه ويمرن عضله وساقيه وشدة أسره لكي يظهر في ميدان المصارعة والألعاب الرياضية، ظل ويلسون يمرن نفسه لهذا المنصب العظيم الذي يتقلده اليوم وللساعة الرهيبة التي تبدو فيها عظمته العامة المعروفة في الخافقين ولم يكن ويلسون باحثاً طالب علم منذ صغره، إذ ورث ذلك عن أبويه والوسط الذي نشأ فيه، بل كان طول حياته بعد ذلك باحثاً يدرس الشؤون والعلوم والموضوعات التي تخلق برجل يتصدى للحياة العمومية، فقد كان يتناول الرياضيات - أي علوم الرياضة - في جرعات صغيرة تكفي لاجتيازه الامتحانات، حتى لقد روي عنه أنه كان في المدرسة يأخذ أقل درجة - أي النهاية الصغرى - في علوم الفلك، وإنما توفر على إجادة العلوم التي لا بد منها في الحياة العمومية، كالتشريع والاقتصاد السياسي والتاريخ، وهذه هي العلوم بأعيانها التي التجأ إلى تدريسها عندما كان يسعى على الرزق أستاذاً عادياً من الأساتذة، وبتدريسها كذلك زادت معارفه فيها وتوسعت معلوماته ولا أظن أن هناك أدباً من الآداب القديمة أو شيئاً من الأدب الحديث لم يدرسه ويلسون ويأخذه بالشرح والتحليل، وكتب بعد ذلك كثيراً في مسائل التشريع والقانون والأنظمة الاجتماعية.

على أن ويلسون أذن لنفسه دهراً وجيزاً أن يتحول قليلاً عن خطته التي اختطتها وهي تدريب نفسه لأجل الحياة العمومية وذلك أن اشترك ورجلاً آخر في إنشاء مكتب للمحاماة في المدينة ولا يصح أن نقول بوجه عام أن أمر الاشتغال بالقانون ومعالجة القضايا مضيعة لزمن الرجل الذي أعد العدة للحياة العمومية، فإن أبراهام لنكولن، وهو ذلك الرئيس القديم الرائع الذي تولى أمر الولايات المتحدة في زمن الحروب الداخلية وكان من أكبر أهل الأدب والخطابة لم يعرف أخلاق الناس، ولم يخبر الأمور، ويدرك أسرار الحياة إلا بعد أن كان محامياً طوافاً يتقلب في البلاد بحثاً عن القضايا، ويجول في المدائن للحصول على المرافعة في الخصومات، ولكن ويلسون لم يكن له طباع ذلك الرئيس - لنكولن ولم تكن نشأته مثل نشأته وكان ولا ريب سيصيب من تضحية نفسه سنين طوالاً للبت في حقوق الأفراد وظلامات الأشخاص تأثيراً في ذهنه وبدنه كان سيكون ذا خطر شديد عليه فيما بعد، على أن حسن الحظ أنقذه من هذه الصناعة، لأن مستر ويلسون لم يخلق ليضحي نفسه للزبائن وأرباب القضايا والحادثات، لأن الله لم يفتح عليه بزبون ولا راجت المحاماة على يده فلم يكن انحرافه عن خطته التي رسمها لنفسه وسلوكه طريقاً غير صالحة له ولا صالح لها إلا أمراً عرضاً لم يلبث أن زال.

وعاد بعد ذلك إلى أمره الأول، ورجع إلى حجرات التدريس، وإلى تعليم الطلاب، وقد ذكرت أن الموضوعات التي توفر عليها ذهن ذلك الرجل هي التشريع والاقتصاد السياسي والتاريخ، ولكن هناك فرعاً من العلم برع فيه وحشد كل ذهنه له، ونعني به الأدب، ولا ريب في أن الولوع بالأدب ورثه عن أبيه، وشجعه والده على الإقبال عليه، ونشأ لذلك عليه من طفولته، ولكن لو لم يرثه عن أبيه، وعن المدارس والجامعات، لكان ويلسون ولا ريب سيروح من نفسه بالأدب ولوعاً، وهو رجل أديب بكل معنى هذه اللفظة، بل لعلني مصيب إذا قلت أنه أكبر أديب في رجال السياسة العصريين وهو قارئ يلتهم في القراءة كل نوع من الكتب، وقد أخبرني طبيبه المشهور الأميرال جرايسون أن من عاداته الخطرة أنه قد يهتم بقراءة رواية من الروايات فيسهر على قراءتها حتى الرابعة بعد منتصف الليل، أي أنه يختلس بضع ساعات من الزمن اللازم للترفيه عن بدنه من متاعب حمله العظيم.

ولعلكم سائلون ما أحب شيء إلى ذهنه في القراءة، فأقول أنني كلما قرأت أو سمعت خطب الرجل، لا أفتأ استنتج منها أنه هذب أسلوبه من كثرة قراءة الأدب اليوناني القديم فإن أكبر مزايا ذلك الأدب هي البساطة المتناهية وقوة التعبير والوضوح، والوضوح هو لازمة من لازمات البساطة، ولو أنت استعدت إلى ذهنك القطع والمختارات التي آثرت حفظها من الأدب اليوناني القديم وآثرت في فؤادك أشد التأثير وهزت روحك هزاً، لرأيتها أبسط ما يكتب ولألفيتها خالية من التعمل والطلاء وخذ لذلك مثلاً قصة موت سقراط التي وضعها أفلاطون في كتابه فيدو. . . فإنك لا تجد في أضعافها شيئاً من المحسنات، بل هي نهاية في البساطة والوضوح، على أنها تصل إلى أعماق الأعماق من الأفئدة، وكان حدسي هذا وأخذي بالظنة في الأسباب التي هذبت أسلوب الأستاذ ويلسون حقاً وصواباً كما عرفت ذلك من بعد إذ نبأني صديق له أن ويلسون درس جميع خطابات الخطيب اليوناني العظيم ديموستنيس حتى استطاع أن يقرأها في اليونانية بكل سهولة ولباقة كأنه يقرأ في كتاب انكليزي، والذين يذكرون ديموستنيس يعلمون أن أول مزايا خطبه المأثورة هي البساطة المتناهية، بل لقد حدثني من أثق بحديثه أن ويلسون حتى الساعة وهو في وسط متاعبه الرسمية لا ينى يعود من الحين إلى الحين إلى فتح تاريخ ذلك الخطيب العظيم يتلمس من خطبه الوحي ويستنزل منها الإلهام ويتطلب العزاء والحكمة والهدى، وأنا أذهب إلى أن ويلسون استمد أسلوبه العجيب أيضاً من سادات الأدب الفرنسوي وهو أقرب آداب الغرب في بساطته إلى آداب اليونان، وهذا التفاني في الأدب لم يكن وراءه غرض إلا إعداد نفسه للحياة العمومية، وهذا التهذيب الذي كان يستعد به الرجل لم يكن معروفاً للعالم، ولاسيما أهل السياسة ورجالاتها فلما طلب إليه أن يترك هدوء المدرسة وسكون المدرسين إلى ضجة الانتخابات وجلبة الحياة السياسية، ظن الناس أن أمامهم رجلاً جديداً عليها حديث العهد بشؤونها فلم يلبثوا أن عجبوا إذ رأوا إزاءهم رجلاً مدرباً منذ عهد طويل عليها، ويوم كان يدرس ديموستنيس ويعني كلمة الجوامع، لم يكن يقصد بذلك إلى الجلوس في امتحان الجامعات، ونيل نمرة طيبة فيه، وإنما كان يريد من ذلك غاية أكبر ومقصداً أسمى، وهو إعداد نفسه لمنصة المنبر ومواقف مجلس التشريع في ترينتون وواشنطن وإعانته مزية أخرى على أمره، فقد منحته الطبيعة صوتاً أجش عميقاً فهذبه وأخذه بالمران والتدريب في الأندية ولكنه لم يكن يريد أن يكون مغنياً، بل خطيباً مفوهاً، وكان تهذيب صوته، أشبه بتهذيب المغنين أصواتهم لأنه عرف علم ضبط تنفسه عند الكلام ولعل هذا هو السبب الذي جعل صوته، وإن لم يكن جهيراً مرتفعاً يصل إلى آخر رجل في الصفوف المتأخرة من الزحام العظيم في القاعة الرحيبة وجعل كل كلمة ترن في الفؤاد فتأخذ مجامعه.

والآن أصل إلى النتيجة الباهرة من هذا التدريب الذي أعده لنفسه وهو ويلسون في مقعد الرئاسة، فهو في كثير من الوجوه قد أعاد استخدام الطرائق التي سلكها في ولايته على مقاطعة نيوجرسي، وأنقذ الجمهورية الأمريكية العظيمة من كثير من أخطارها الكبرى، وكانت العادة من زمن بعيد أن الرئيس يلقي الكلام إلى المجلس قولاً ملفوظاً - لا خطبة مكتوبة - ولكن لما ولي على الجمهورية الرئيس جفرسون جعل يتلو خطاباته في رق مسطور، ولعل ذلك لأن مقدرته الكتابية كانت أسمى من براعته الخطابية، فاحتذى الرؤساء بعده حذوه وطرسوا على آثاره، ولكن جاء ويلسون فحطم هذه القيود وذهب بأثر تلك السنة ولم يدع بينه وبين نواب الأمة غير قلبه ولسانه.

وهنا أذكر نبذة عن الحياة اليومية التي يعيشها الرئيس ويلسون والعادات التي اعتادها في نظام عيشه، وهي جميعاً مختارة من المعلومات التي كان يدلى بها إلى الصحف طبيبه الخاص - الأميرال جرايسون - ولم يكن لأحد تأثير على ويلسون أشد من أثر طبيبه الخاص، ولما جاء ويلسون إلى الدار البيضاء وارتقى إلى الرئاسة لم يكن على صحة جيدة، وكان ككل المفكرين الذين ينهكون أذهانهم في أعمال شاقة، يعاني مرض عسر الهضم فأكرهه الطبيب على أن يتخذ لنفسه ألواناً من الرياضة، ويختار ضروباً من التلهي والترويح، وكان من ذلك أن اعتاد الرئيس أن يخرج في وقت محدود غير حافل بالجو إذا أمطر أو السماء إذا غامت، أو العاصفة إذا عصفت، فينطلق إلى حلقات لعبة الجولف وهو منذ طفولته ماهر خبير بركوب الجياد ولذا يؤدي أكثر رياضته على ظهور الصافنات، وهو حذر حريص من ناحية طعامه وينصاع لمشورات الطبيب إذا وصف له لوناً من الطعام لا تقبله نفسه ولا يشتهيه، وهو لا يزال يشارك أبناء وطنه وأفراد أمته في الولوع بالحلوى إلى حد خطر، ولكنه استطاع أن يضبط استهتاره هو نا ما، وهو شريب كبير لا شريب خمر وإنما شريب ماء مثلج، فهو أحب شيء إليه، واشتد طبيبه في النصح له بأن يعمد إلى التلهي كذلك بجانب الرياضة فلم يسع ويلسون إلا الانتصاح ومضى يزور دور التمثيل وحفلات الموسيقى وحلقات الغناء على فترات صغيرة من الأيام، ومن أكبر مزايا خلقه أنه قادر على أن يخلع عنه مظهره الرسمي، ويتجرد من شؤون عمله، ويتحرر من مسؤولياته، إذا هو كان في لهوٍ أو ترويج، فلا يكاد يستقر به المقام في مقصورته من دار التمثيل وترتفع الستار عن المسرح، حتى ينسى ويلسون أنه رئيس الولايات المتحدة، وهذا التجرد من الرسميات يتجلى في حلقات لعبة الجولف حتى أن شركاءه في اللعب لا يجرأون على ذكر أية كلمة تتعلق بالشؤون العمومية أمامه وهم لاعبون وقد نسي رجل من الذين كانوا مقربين في تلك الحلقة إليه، ومكثرين من اللعب معه يوماً هذه العادة فذكر أشياء بسبيل ذلك، فلم يسمح له الرئيس بعد ذلك بلقائه أو الاشتراك معه في تلك الحلقة.

والرئيس ويلسون قصاص أحاديث طلبة، ورجل عذب المحضر، مفعم الجعبة من النوادر والحكايات حتى لقد قص على حكايتين أو ثلاثاً يوم لقائي به، وهي حكايات نذكرها في موضوعاتها وظروفها ونجيء بها تأييداً لحديث، أو شفاعة لحكمة أو موعظة.

ذلكم هو الرجل الذي أخذ على نفسه أن ينقذ الدنيا جميعاً من الشبح المخيف الذي عم الأرض: وهو الحرب، وهو الرجل الذي أراد أن ينثر نعمة الحرية في كل ركن من أركان الدنيا، ويعمم الديمقراطية في الشعوب أجمعين، وإذا كان في الدنيا رجل يستطيع أن يؤدي هذا الأمر العظيم الجليل الهائل فهو هو ذلك الرجل الذي أصبح اليوم بغريزته وعقيدته ورأسه وفؤاده سيد أنصار الحرية والسلام العام.

هو الرئيس ويلسون.