مجلة البيان للبرقوقي/العدد 44/مطالعات

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 44/مطالعات

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 10 - 1918



شعر الفلاسفة

من المعروف أن العلماء ومن إليهم من الفلاسفة وجماعة النظار الذين ألفوا البحث المنطقي وألفهم حتى ملك عليهم أمورهم لا يستطيعون أن يقولوا شعراً جيداً يبارون فيه سادة الشعر، لأن العلماء إنما يستمدون من عقولهم ومعلوماتهم التقريرية، أما عواطفهم فقد أطفأ العلم جذوتها فترى لذلك شعرهم فاتراً لا يهز العاطفة ولا يحرك الأرواح، أما الشعراء فإنما يناجونك بوجداناتهم وإحساساتهم ويفرغون قلوبهم في كلامهم إفراغاً، فهم لذلك يزلزلون القلوب زلزالاً ويعبثون بالعواطف عبثاً شديداً لا قبل للإنسان بالجمود إزاءه ما دام لا إنسان بلا قلب وسلطان القلوب والأهواء، فوق سلطان العقول والآراء، بيد أنه على الرغم من ذلك ترى لبعض كبار الفلاسفة شيئاً من الشعر البارع الجيد لا يكاد بتخلف في معنى الشعر عن شعر الفحول فضلاً عن أنه يمتاز بالمعاني الفلسفية الرائعة، فمن أولئك الفلاسفة الذين ضربوا بسهم صائب في الشعر أبو علي الحسين بن عبد الله بن يوسف المعروف بابن شبل البغدادي المتوفى سنة 474 فقد كان هذا ابن شبل كما قال صاحب طبقات الأطباء حكيماً فيلسوفاً ومتكلماً فاضلاً وأديباً بارعاً وشاعراً مجيداً، ونحن نختار له هنا شيئاً من شعره - فمن ذلك قصيدته الفلسفية المشهورة التي تستأهل أن نأتي عليها كلها في البيان - قال:

بربك أيها الفلك المدار ... أقصد ذا المسير أم اضطرار

مدارك قل لنا في أي شيء ... ففي أفهامنا منك انبهار

وفيك نرى الفضاء وهل فضاء ... سوى هذا الفضاء به تدار

وعندك ترفع الأرواح أم هل ... مع الأجساد يدركها البوار

وموج ذا المجرة أم فرند ... على لجج الدروع له أوار

وفيك الشمس رافعة شعاعاً ... بأجنحة قوادمها قصار

وطوق في النجوم من الليالي ... هلالك أم يد فيها سوار

وشهب ذا الخواطف أم ذبال ... عليها المرخ تقدح والعفار

وترصيع نجومك أم حباب ... تؤلف بينه اللجج الغزار

تمد رموقها ليلاً وتطوى ... نهاراً مثل ما طوى الإزار فكم بصقالها صدي البرايا ... وما يصدى لها أبداً غرار

تبارى ثم تخنس راجعات ... وتكنس مثل ما كنس الصوار

فبينا الشرق يقدمها صعوداً ... تلقاها من الغرب انحدار

على ذا ما مضى وعليه يمضي ... طوال مني وآجال قصار

وأياماً تعرفنا مداها ... لها أنفاسنا أبداً شفار

ودهر ينثر الأعمار نثراً ... كما للغصن بالورد انتثار

ودنيا كلما وضعت جنيناً ... غذاه من نوائبها ظؤار

هي العشواء ما خبطت هشيم ... هي العجماء ما جرحت جبار

فمن يوم بلا أمس ليوم ... بغير غد إليه بنا يسار

ومن نفسين في أخذ ورد ... لروح المرء في الجسم انتشار

وكم من بعد ما ألفت نفوس ... جسوماً عن مجاثمها تطار

ألم تك بالجوارح آنسات ... فكم بالقرب عاد لها نفار

فإن يك آدم أشقى بنيه ... بذنب ما له منه اعتذار

ولم ينفعه بالأسماء علم ... وما نفع السجود ولا الجوار

فأخرج ثم أهبط ثم أودى ... فترب السافيات له شعار

فأدركه بعلم الله فيه ... من الكلمات للذنب اغتفار

ولكن بعد غفران وعفو ... يعير ما تلا ليلاً نهار

لقد بلغ العدو بنا مناه ... وحل بآدم وبنا الصغار

وتهنا ضائعين كقوم موسى ... ولا عجل أضل ولا خوار

فيالك أكلة ما زال منها ... علينا نقمة وعليه عار

نعاقب في الظهور وما ولدنا ... ويذبح في حشا الأم الحوار

وننتظر الرزايا والبلايا ... وبعد فالوعيد لنا انتظار

ونخرج كارهين كما دخلنا ... خروج الضب أحرجه الوجار

فماذا الامتنان على وجود ... لغير الموجدين به الخيار

وكانت أنعماً لو أن كونا ... بخير قبله أو نستشار أهذا الداء ليس له دواء ... وهذا الكسر ليس له انجبار

تحير فيه كل دقيق فهم ... وليس لعمق جرحهم انسبار

إذا التكوير غال الشمس عنا ... وغال كواكب الليل انتثار

وبدلنا بهذي الأرض أرضاً ... وطوح بالسماوات انفطار

وأذهلت المراضع عن بنيها ... لحيرتها وعطلت العشار

وغشى البدر من فرق وذعر ... خسوف للتوعد لإسرار

وسيرت الجبال فكن كثبا ... مهيلات وسجرت البحار

فأين ثبات ذي الألباب منا ... وأين مع الرجوم لنا اصطبار

وأين عقول ذي الأفهام مما ... يراد بنا وأين الاعتبار

وأين يغيب لب كان فينا ... ضياؤك من سناه مستعار

وما أرض عصته ولا سماء ... ففيم يغول أنجمها انكدار

وقد وافته طائعة وكانت ... دخاناً ما لقاتره شرار

قضاها سبعة والأرض مهدا ... دحاها فهي للأموات دار

فما لسمو ما أعلا انتهاء ... ولا لسموك ما أرسى قرار

ولكن كل ذا التهويل فيه ... لذي الألباب وعظ وازدجار

وقال يرثي أخاه وكان اسمه أحمد:

غاية الحزن والسرور انقضاء ... ما لحى من بعد ميت بقاء

لا لبسيد بإربد مات حزناً ... وسلت عن شقيقها الخنساء

مثل ما في التراب يبلى الفتى فالح ... زن يبلى من بعده والبكاء

غير أن الأموات زالوا وبقوا ... غصصا لا يسيغه الأحياء

إنما نحن بين ظفر وناب ... من خطوب أسودهن ضراء

نتمنى وفي المنى قصر العم ... ر فنغدو بما نسر نساء

صحة المرء للسقام طريق ... وطريق الفناء هذا البقاء

بالذي نغتذي نموت ونحيا ... أقتل الداء للنفوس الدواء

ما لقينا من غدر دنيا فلا كا ... نت ولا كان أخذها والعطاء راجع جودها عليها فمهما ... يهب الصبح يسترد المساء

ليت شعري حلماً تمر بنا الأيا ... م أم ليس تعقل الأشياء

من فساد يجنيه للعالم الكو ... ن فما للنفوس منه اتقاء

قبح الله لذة لأذانا ... نالها الأمهات والآباء

نحن لولا الوجود لم نألم الفق ... د فإيجادنا علينا بلاء

وقليلاً ما تصحب المهجة الجس ... م ففيم الأسى وفيم العناء

ولقد أيد الإله عقولاً ... صحة العود عندها الإبداء

غير دعوى قوم على الميت شيئاً ... أنكرته الجلود والأعضاء

وإذا كان في العيان خلاف ... كيف بالغيب يستبين الخفاء

ما دهانا من يوم أحمد إلا ... ظلمات ولا استبان ضياء

يا أخي عاد بعدك الماء سما ... وسمو ما ذاك النسيم الرخاء

والدموع الغزار عادت من الأنفا ... س ناراً تثيرها الصعداء

واعد الحياة عذراً وإن كا ... نت حياة ترضى بها الأعداء

أين تلك الخلال والحزم أين ال ... عزم أين السخاء أين البهاء

كيف أودي النعيم من ذلك الظ ... ل وشيكاً وزال ذاك الغناء

أين ما كنت تنتضي من لسان ... في مقام ما للمواضي انتضاء

كيف أرجو شفاء ما بي وما بي ... دون سكناي في ثراك شفاء

أين ذاك الرواء والمنطق الموف ... ق أين الحياء أين الإباء

إن محى حسنك التراب فما لل ... دمع يوماً بصحن خدى انمحاء

أو تبن لم يبن قديم وداد ... أو تمت لم يمت عليك الثناء

شطر نفس دفنت والشطر باق ... يتمنى ومن مناه الفناء

إن تكن قدمته أيدي المنايا ... فألى السابقين تمضي البطاء

يدرك الموت كل حي ولو أخفت ... هـ عنه في برجها الجوزاء

ليت شعري وللبلى كل ذي الخ ... لق بماذا تميز الأنبياء

موت ذا العالم المفضل بالنط ... ق وذا السارح البهيم سواء لا غوى لفقده تبسم الأ ... رض ولا للتقى تبكي السماء

كم مصابيح أوجه أطفأتها ... تحت أطباق رمسها البيداء

كم بدور وكم شموس وكم أط ... واد حلم أمسى عليها العفاء

كم محى غرة الكواكب صبح ... ثم حطت ضياءها الظلماء

إنما الناس قادم أثر ماض ... بدء قوم للآخرين انتهاء

وقال:

إذا أخنى الزمان على كريم ... أعار صديقه قلب العدو

وقال:

قالوا القناعة عز والكفاف غنى ... والذل والعار حرص النفس والطمع

صدقتم من رضاه سد جوعته ... أن لم يصبه بماذا عنه يقتنع

وقال:

ثقلت زجاجات أتتنا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح

خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح

وقال:

تسل عن كل شيء بالحياة فقد ... يهون بعد بقاء الجوهر العرض

يعوض الله مالا أنت متلفه ... وما عن النفس إن أتلفتها عوض