مجلة البيان للبرقوقي/العدد 45/روايات البيان

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 45/روايات البيان

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 1 - 1919



مسألة محتاجة إلى بوكاسيو

لا أظن أنك تستطيع أن ترتضي لنفسك لقب الرجل العادل أو تنسب إلى نفسك الإنصاف إذا أنت اعتدت أن تهب الوليد الذي لا يزال يناهز العامين من العمر في كل ذات صباح، وفي العشي والأصائل، قطعة من الحلوىـ، ثم يدعوك الاقتصاد وينذرك نذير الحرب، ويطالبك مراقب لجنة المواد الغذائية أن تمنع عن ذلك الوليد تلك الحلوى، وتحرمه تلك الهدية، فتقطع عنه هذا الراتب، وتحول بينه وبين ما تعود فإن الطفل ولا ريب لن يدرك إذ ذاك حججك، أو يستمع إلى منطقك، أو يفهم السبب الذي من أجله أنكرت عليه هذه اللذة العذبة التي كان ينعم بها من قبل، بل أنه لا مراء فاتح يديه، باسط ذراعيه، معول في وجهك، مطالبك بالحلوى مستكثر منها، وسيهز قبضته في الهواء، ويعض أصابعه سخطاً متألماً، وينام على وجهه فوق الأرض وينطلق في بكاء مستطيل وصياح، على أنه لا يلبث أن يرى أن لا بجدوى من دموعه، على أنه لا يلبث أن يرى أن لا بجدوى من دموعه، على أنه لا يلبث أن يرى أن لا بجدوى من دموعه، على أنه لا يلبث أن يرى أن لا بجدوى من دموعه، على أنه لا يلبث أن يرى أن لا بجدوى من دموعه ولا نفع من عبراته، فيحتال الحيل، ويريد المخلص وربما اعتزل في مكان قصي واستبدل الذي شر بالذي هو خير، واستعاض عن أكله قطعة الحلوى بقطعة من الفحم.

إن حرباً قلبت الدنيا رأساً على عقب كحربنا هذه لا يكون منها ولا ريب إلا أن تحدث أحداثاً في نظرنا للحياة، وتغير الآداب وتدخل أموراً وعبراً في الخلق والاجتماع.

ومن الصعب أن نتوقع من أبناء آدم أن يتخلوا دفعة واحدة عن طلابهم السعادة ويقفوا عن نشدان الهناء، إذ ينهض في الأفق صوت الطبلة الأولى الداعية إلى السلاح المنادية القوم إلى الأمة والتجالة على ميدان الحياة، على أن سواد الناس مع ذلك استطاعوا أن يحتالوا لذلك حيلهم. ويتخلوا عن سعيهم، وقد حبست السعادة اليوم بعد أن طبقت كالثياب في الدواليب، وأغلق عليها بالقفل، واستعاض عنها الملايين من الناس تلك الأثواب الرهيبة الأليمة - أثواب الأسى والحداد - وبذلك قام السواد الأعظم من الناس بالمستحيل، والأمر الذي لم يكن في الحسبان، إذ صبروا على فقدان السعادة وجلدوا على تبدد العناء، واعتصموا عنه بأجمل العزاء، ولكن هناك قليلين من الخلائق المعذبة الطاهرة الأذهان البريئة النفوس، البلهاء الضعاف القلوب أولئك الذين لا يستطيعون صبراً، ولا يجدون تجملاً بعزاء، أولئك الذين يصرخون في أثر سعادتهم الضائعة وهنائهم الزائل، ويرفعون الأذرع طالبين قطعة الحلوى التي منعت عنهم متوسلين جازعين لهفى على تلك الفاكهة الصغيرة التي حرموا منها.

من هذا الفريق الأخير كانت شيلا سورسيل لها ذهن طفل، وقلب وليد، وكانت تعمل أنها حسناء، وكانت بما تعلم فرحة، وكانت بحسنها جذلى مبتهدة، وكان لهوها أن تقف ساعات أمام المرآة تطيل في وجهها وتقصر، وتبتسم لصورتها، وتقطب، شأن الطفل الصغير، فإذا أغضبها شيء من معارف وجهها أو بزتها، ونفضت خيوط قبعتها، فإنما كان ذلك منها لأنها كانت وهي طفلة غضوب، تعض أناملها، وإذا غنت فرحاً واغتباطاً، على مشرق الشمس ومطلع ذكاء من خدرها، أو إذا مس لج البحر عند الشاطئ بدنها الناعم يوم الاستحمام فكذلك كانت في طفولتها الأولى، حتى لقد أصبحت وهي في التاسعة عشر على طفولتها التي كانت تنم عنها وهي في العاشرة.

فإذا كان هذا أمرها، وتلك خليقتها، فلا عذر ولا شفيع لأبويها أن يفارقا الحياة في مبتكر عام 1914 ويرحلا يداً في يد إلى عالم الأرواح، ويتركاها وحدها بلهاء كأشد ما كانت بلاهتها وهي وليد تدرج في البيت.

ولقد كان الثلاثة ينعمون بالسعادة لا تفوتهم فرصة تستطيع أن تجعل الحياة أسعد وأبهج إلا أدركوها واستقبلوا سوانحها، ولكن لم تلبث فجأة بلا نذير ولا إعلان ولا نبأ، أن نكست أعلام السعادة، ولم يبق للفتاة شيلا إلا قلب معذب ودار قفراء وموقدة لا عشيرة حولها، وحساب ثروة طيبة في المصارف.

ولما كانت تجهل ماذا تصنع بهذا التراث، ولا تدري ماذا تفعل بهذه التركة أوت إلى فندق في مدينة يورتموث، وانطلقت تبحث عن السعادة التي فقدتها.

والأقدار دأبها أن تردف النكبة بأخوات لها، وتجيء بنوائبها متلاصقة متسابقة، إذ ما كادت شيلا تحس أن أحزانها قد بدأت تزول، والأسى يخف، حتى فكرت الأمم أن تعلن الحرب وتنادي بالقتال.

فلم تدرك شيلا شيئاً عن الحرب، ولم تفهم المعنى الذي وراء هذه اللفظة، وإنما حسبتها مسألة من مسائل الصحف والجرائد، على أنها أسوة ببقية الإنسانية شعرت بتلك اليد الباردة التي مست قلب أمتها في خريف عام 1914.

وكانت شيلا إلى ذلك العهد لا تدري شيئاً كثيراً من طبائع الإنسان، ولكن الآن جعل هذا المخلوق يبدو لناظريها في منظر جديد ومظهر غريب خطير، وعلمت إذ ذاك أن الشقاء والاضطراب والأحزان قد هاجمت العالم، واحتشدت في الأرض، ولما لم تجد ذراعاً رحيمة رؤماً تفزع إليها وأحضان أم حنون تهبط فيها، جعلت تنظر إلى الأسى الذي حولها صعقة آسية حزينة على أنها لم تلبث أن شعرت بشيء من التسخط وأحست روح التذمر تجول في صدرها، إذ شعرت بأن الحرب قد أساءت إليها ولم تسيء هي إلى احد من أهل الدنيا وأن الحرب قد جارت عليها واعتسفتها بدون ذنب ولا جرم. ورأت أن لا دخل لها في الحرب ولا يد ولا سهم ثم هي قد مست حياتها وجرت عليها ذيولها المظلمة وامتزجت بعيشها وتغلغلت في ثنايا روحها.

وكان في فؤاد شيلا سوريل نبعات عميقة من نبعات الإحساس والشفقة والرحمة، فلما لم تجد أحداً تفيض عليه من أنهار تلك النبعات، وأمواه تلك الإحساسات، أفاضت بها على نفسها وخصت بها ذاتها فأثارت فيها طائفة من الآلام والهموم، فكان تطوف وتهيم وحيدة معتزلة في بستان الفندق ودروب حائطه وتراضي البحر وعينها ندية بالدمع ثرة بالعبرات.

وأنت تعلم أن كثيرات من النساء يقبحن بالدموع، ولا تحسن في عيونهن العبرات ولكن البكاء كان يلوح جميلاً في عين شيلا سوريل، وكانت الدموع تحسن لديها وتروع وتبدو فاتنة جليلة المظهر، وكانت تلك النقط المريرة الأجاج إذ تنحدر فوق وجنتيها المتوردة وتتحير في خدها المستدير الرخص الناعم تجعل منها صورة حسناء تفتن عواطف الإنسان وتثير أجمل وجدانات القلوب. وكان هذا على الأقل رأى الفتى النبيل إزلي وتوكر الضابط برتبة الملازم الثاني في فرقة الهايلندرز، فقد كان هذا الضابط الفتي الحمي الرقيق العاطفة ينسل فوق عشب الحديقة تحت شجيرات الزنبق يحفظ كتاب القوانين العسكرية. فقد كان في ذلك اليوم بعينه قد ألقى تهمة من التهم على جندي من الفرقة، لا أساس لها من القانون، فانتهز قائد جماعته هذه الفرصة لتأنيبه واستحثه على أن يستبدل كتب الأدب التي فتن بها بقراءة كتب القانون العسكري، فلبث لزلي ساعة يستوعب طائفة من الإجراءات العسكرية والبنود والمواد التي حشدها وضّاع تلك الشرائع الحربية في قوانينهم حتى برمت نفسه بالقراءة وإذ ذاك وقع نظره على الفتاة شيل سوريل، وهي تلوح من فرجة بين أغصان الزنبق.

وكانت شيلا وحدها، وقد جلست فوق العشب، وعيناها نديتان رطبتان ويداها غائبتان في الأغصان تقطف الدانيات من أزاهرها، وأنفاسها صاعدة وزفراتها راجعة، تبعث الرحمة والحنان.

فلما أبصر بها الفتى لزلي وهي على هذه الحال، اتقدت عواطف الفروسية بين جنبيه، فنسي دراسة القانون العسكري وواجبه المدرسي من حفظه واستظهاره، فاسترق الخطى وانسل بين العوسج والأفنان والدوالي، يريد التقدم نحوها، حتى إذا داناها قال بلا روية ولا تفكير إني أقول، هل تعرفين ما أقول، أقول أنك تلوحين مروعة حزينة مغمومة متألمة، أتعرفين ذلك!

فكان جواب شيلا إني لكذلك. ولكني لم أكن أعرف أن إنساناً يستطيع أن يشهد مني ذلك.

قال لزلي: إن المرء ليحزن إذ ينظر إلى وجنتك وخدك على أنني لم أستطع أن أتمالك نفسي، وأرجو أن لا يسوءك ما فعلت

فأجابت بعد تمهل وقد رأت أمامها فتى جميلاً: كلا لا يسوءني ذلك مطلقاً لأنه لا يحسن أبداً أن يكون الإنسان حزيناً متألماً وحده بلا أحد يواسيه.

فأجاب لزلي بكل تحمس: لا يحسن أن يكون الإنسان حزيناً مطلقاً إني أعرف ذلك إذ كنت اليوم غير مبتهج.

فكان جواب شيلا دليلاً على أن عواطفها قد تحولت عن نفسها والتفتت إليه إذ قالت: أتكون حقاً كذلك. هل أنت حزين، ولم الحز؟

قال: وقعت في خلاف والقائد، فعسفني واشتد في لومي

يا الله إنه أمر فظيع.

قالت شيلا: يا للعار. ويا للسوء ألم نقل له أنه كان في ذلك قاسياً لعيناً!

فأجاب الفتى: أنت تعلمين أن الإنسان لا يستطيع ذلك، وأن هناك كتاباً كنت أقرؤه الساعة يقول ذلك. قسوة كله وخشونة ووحشية. وبذلك ترين أن النتيجة تقع على رأس الإنسان وحده، وهذا ما يجعل الإنسان حزيناً.

قالت شيلا: ذن حالك كحالي. إن النتيجة تقع على رأس الإنسان وحده.

قال لزلي: إن لك وجهاً جميلاً ولكن نبئني ماذا يحزنك إنك تلوحين كأنك كنت الساعة تبكين؟.

فأجابت شيلا لقد كنت اليوم في بكاء ولكن الدموع صغيرة ولو لم تتحدث إلي لعظمت دموعي، واستهلت صبيباً منهمراً.

قال: وما سبب بكائك؟

فأجابت: لا أعرف كل شيء في الطبيعة حزين الحرب. . . الحرب. . والناس يقولون أنها ستنطلق كذلك أجيالاً وأعماراً واستزادا الأحزان أحزاناً وتصبح الحياة أشقى وأنكد وأظلم، وأنا لا أريد أن أكون محزونة شقية، فإن أشنع الشنائع أن تفلت السعادة من بين راحتي الإنسان بل أكبر مناي أن أكون سعيدة كل السعادة وأن أكون فرحة حسناء جذلى راضية العيشة، وأن أضحك وأبتسم للأمور التافهة التي تبعث الضحكات والابتسامات ولكن هل أنت ترى أن الإنسان لا يستطيع ذلك. ولذلك يبكي؟

ولم يكن للفتى ليزلي دهن عميق يبحث الأمور ويستقصيها ويقلب فيها وجوه رأيه فبدت له الحجج التي قالتها الفتاة حججاً عاقلة لا ظلم فيها ولا فساد فقد أدرك أن الحرب أمر خطير رهيب، ونتائجها محزنة أليمة، وزاد هذه الفكرة لديه أنه أحس العزلة ورأى نفسه وحيداً، وألفى الدنيا أمام ناظريه صحراء جدباء، قضى عليه أن يشق طريقه فيها منفرداً معتزلاً، وكان هناك شعاع واحد من الضياء يستطيع أن ينتشله من مخالب العزلة وينقذه من الأسى، وهو أن يجد إنساناً مثله متألماً يركن إليه ويختصه بذات نفسه وينفض له أسرار وجدانه، ولذلك لا تعجب أن يأخذ الفتى وهو في أشد انفعالات النفس وحرارة العاطفة تلك اليد الصغيرة البضة التي كانت منذ هنيهات تقطف الزنبق وناضر الزهر، فيشدها في صمت أبلع من الكلام، ويصافحها في سكون أروع من التفاهم، فلما أتم هذا أحس بشيء من السكينة تجري في نفسه وشعر بالطمأنينة، وسرى عنه بعض الألم الذي اضطرم في صدره، ولكي يقيم أساساً أمتن من هذه المصافحة الصامتة ويشيد فوقه بناء صداقة متينة وود عميق، راح يتلو عليها تاريخه واسمه وعشيرته وألقاب الشرف التي ورثها عن أبويه النبيلين، والفرقة التي سلك فيها والرتبة التي تقلدها وقال أخيراً، وأما أنت فإنني أعرفك وإن كنت أود أن أسمع ذلك من شفتيك! 3

فأجابت شيلا سوريل. .

قال: أنه لأبدع أسماء فتيات العالم، وأجمل ألقاب عذارى الأرض وأنه ليلائمك ويناسبك أشد المناسبة والملاءمة ولكني لا أعرف هل لك عشيرة أم فقدت الأهل!

قالت شيلا: فقدتهم. فقد مات أبوي العام الماضي.

قال: إذن فأنت هنا وحيدة؟ فأومأت برأسها

قأل: أمر عجيب وكذلك أنا فقدت أهلي في العام الماضي ولكن لا ريب في أن المقام بهذا الفندق محزن أليم لك. إن أهله على خشونة لا تطاق.

فأومأت إيماءة أخرى، واسترسل وهو يقول: وأنا أيضاً ليست لي عشيرة، بضع أعمام وأبناء أعمام، وعمات وخالات، وأولئك لا يعدون عشيرة، أليس كذلك.

قالت: بلى.

فسرح لزلي البصر نحو البحر وراح يقول: إن فتى مثلي ليشعر بالوحدة الأليمة ولا أعلم السبب، ولكطن لعلني أريد أن أكون مفهوماً لدى الناس، وأنا لم يفهمني أحد في حياتي.

قالت شيلا: ولا أنا، لم أكن يوماً مفهومة من أحد.

وتولاهما معاً إذا ذاك الحزن أنهما لم يكونا مفهومين لدى الناس ولم يعرفا الصفات التي جعلت كلاً منهما يطلب أن يكون مفهوماً ولكن السبب ظاهر جلي.

قال لزلي: استمعي إلي فقد فكرت ملياً في هذا الأمر، ولكني لم أهتد إلى شيء.

وكان الفتى صادقاً فيما قال، وقالت شيلا أنها كذلك لم تكتشف السر من ناحيتها.

والعزلة أشد الحالات النفسية اهتياجاً للعواطف وإثارة للوجدان، ولذلك لا غرو أن تقول أن الفتى الذي يلتقي بالفتاة ويقنعان بعضهما البعض بأنهما وحيدان منفردان لا يفهمهما العالم، ولا ينيان يتحاضنان ويقع أحدهما في ذراعي صاحبه للتو والساعة.

وكانت شيلا لم تعرف من قبل الهبوط في أحضان إنسان آخر، اللهم إلا أبويها ولكن كانت الطبيعة تثير إذ ذاك فؤادها عواملها ونزعاتها ولذلك استسلمت وهي لا تكاد تدرك السر إلى وحي نفسها إذ تقول أن الضمة التي لم تبعث عليها القرابة وأواصر الدم والعشيرة لا تستحق أن تطرح، بل خليقة بالنوال والرضا، ولما كانت الفتاة مخلصة الطبيعة، نقية الغريزة، لم تر أية ضرورة للتردد والدلال والنفور إذ كان أمامها فتى عذب جميل كان مثلها يطلب السعادة والمراح فلا يجدهما، فتى وحيد حزين معتزل لا يود لو أن الناس فهموه، ولذلك كانت هذه الفرصة قاطعة والنتيجة بينة ظاهرة.

فما عتمت إذ ذاك أن وضعت في ذلك السكون يدها في يده علامة الود وشارة الصداقة.

وتنهد ليزلي وزفر، وقال: تالله لا أعلم السر ولكنني أعتقد أننا نستطيع أن يفهم كلانا الآخر.

وفي ذلك المساء بعينه التقيا مرة أخرى، ومشيا عن تراض واتفاق إلى الخمائل المعتزلة في بستان الفندق، وهناك اقتعدا مجلسين، مستندين إلى جذع سرحة عظيمة ولأن الحب نفذ إلى قلبيهما أشرق القمر، وبسط أشعته اللؤلؤية فوق أديم البحر وتغنت الرياح بغناء غرامي عذب، في أضعاف الفنان المشرقة فوق رأسيهما.

قال لزلي: وقد أدرك أن الشعراء لم يكونوا قوماً حمقى كما كان يظن. يا للذة والعزوبة الفاتنة. يخيل إلي أنني قد أصبحت مفهوماً آخر الأمر.

وهمست شيلا قائلة: وأنا كذلك تقريباً.

وإذا كانت شيلا رأت في عالم التصور والخيال أن هبوطها في أحضان رجل لذة لا حد لها، فلم تكن مع ذلك تدرك أولاً مقدار تلك اللذة، إذ تنفذ وتحقق، وتخرج إلى حيز الفعل، فما عتمت إذ ذاك أن أغمضت جفنيها الواسعين وتنفست من شدة العذوبة واللذة.

وزفر لزلي كذلك وتبين أن خير دواء للزفرات أن يعيد التجربة فأخذها بين ذراعية مرة أخرى.

وما أوسع المعرفة التي تنال من وراء القبلات، إذ لا يلبث الإنسان أن يدرك أنه لا بد من إعادة التقبيل، ولا يكاد المرء يطبع القبلة فوق الخد الأسيل حتى يشعر بأن لا قبل له بإمساك نفسه عن طبع أخوات لها وصواحب، وكذلك كان الحال مع شيلا ولزلي فقد وجدا من التحاضن والعناق لذة لا يستطيعان على السكوت عنها صبراًُ، لذة لا يمكن أن توصف بألفاظ، بل تكرر بمثلها وتعاد.

وصعدت شيلا إلى الفندق على جناح المصعد وتلهف لزلي وقد تركها عند بابه من غيابها، فجعل يأخذ السلالم وثباً ويرمي عدة منها بالوثبات، لكي يلحق بها عند وصولها إلى الطابق ويحلي عينيه منها. قبل أن تأوي إلى المضجع.

قال متوسلاً: متى نتزوج!

قالت: في أقرب وقت من فضلك!

فكانت تلك الألفاظ دليلاً على أنهما صغيران ساذجان مفعمان حباً وحمية وإحساساً.

وكان الزواج عسكرياً والعرس جندياً، وتم بعد أسبوعين من اللقاء الأول، وإن كان كل منهما قد أحس أنه عهد طويل، وفرصة بعيدة، وأنه لا يكاد الإنسان يصل إليه، ولكن أعان لزلي على التسلي والتلهي عن آلام هذا الطول واجباته العسكرية. ووجدت شيلا من الطواف بالحوانيت استعداداً لأثواب الزفاف، ما خفف من عذاب تلك المدة.

، اقيمت بعد حفلة الإكليل مأدبة، واي مأدبة. . إذ كان الجو كله مفعماً بالتهاني، والضحكات، وأصوات فدام الزجاجات، وقناني الشراب، والهتاف والتصفيقات وفي كل مكان وجوه ناضرة مستبشرة، وأيد متصافحة متلازمة، ورقص وغناء.

وحان الموعد، وأزف الوقت، وانطلقت سيارة بالعروسين إلى شهر العسل.

وكان الفندق الذي بلغت إليه السيارة نزلاً سماوياً رائعاً بهيجاً، وجلسا إلى العشاء فوق مائدة صغيرة تطل على ساحل البحر، وجعلا يتساءلان هل أدرك الناس الذين حولهما أنهما عروسان جديدان، وزوجان لم تمض الليلة الأولى على زفافهما، وراحا ينظران إلى بعضهما البعض في أشد الخجل، ممتزجاً بأشد السرور وخانتهما الألفاظ، وتحيرت الكلم في الشفاه فلم يستطيعا من الخجل كلاماً.

فلما فرغا من العشاء تسللا تحت الأشجار اليانعة والأفنان الدانية، وفوق الروابي الشاهقة، ولم يلبثا أن طلعت النجوم ونهض القمر في صفحة السماء وأصبح العالم في ذمة الليل، وتلقى الظلام عهد الأرض، فأعادا الطوفة، وهما لا يشعران وكررا الجولة عن رضا صامت وهما لا يدريان، فما كادا يبلغان النقطة التي ابتدأ التطواف منها، حتى أدركهما التعب وبان في حديثهما، وتجلى في الألفاظ، فضمها إذ ذاك إلى صدره وانزوت في أحضانه، وحيتهما الأضواء الساطعة في النوافذ وتلقتهما الحجرة التي أعدت للعروسين بفرح وزهو.

وفي جلسة الفطور غداة الغد كان وجه شيلا مشرقاً بجمال عجيب لم يكن له من قبل حتى لم يستطع لزلي أن يمتلك جأشه فأمسك بيدها واجتذبها إلى صدره فأسقطت حركته تلك فنجان القهوة فوق الثوب الجميل الذي كان تشتمل به فجرت شيلا إلى الحجرة لتغييره وعدا هو في أثرها لمساعدتها ولم يكن بين العروسين عتاب ولم تحدث ملامة، بل جعل يكرر إنه أمر عجيب، إنه لأمر عجيب.

ولكن هذا العجب لم يذهب يومذاك بل مضى أياماً وظهر سره بعد أيام العسل، وجاءت الأحداث بما كان له شارحاً مبيناً.

واستأجر لزلي بيتاً صغيراً لفتاته فوق الرابية، وجعل على ختام عمله ينطلق إليها مسرعاً متعجلاً، يكاد يصل إليها على جناح البرق.

وفتن فؤاد شيلا أنها أصبحت سيدة بيت وربة أسرة، وحسبا أن الحرب خير ما يبتغى، وحمدا لها الفرصة التي جمعت بينهما ولم يذكرا بلاءها ونكباتها ولم يجدا فيها سوءاً ولا شراً.

ولعل الحرب غضبت إذ رأت منهما هذا الاستخفاف، واستنفرتها هذه السخرية فأرادت أن تعلن لهما عن خطورتها وهولها فأوعزت إلى وزارتها أن تأمر الفرقة التي فيها الضابط لزلي بأن تخف الرحال إلى المشرق.

فذهب لزلي برأس مذهول وذهن مشتت، وقلب واجف، يحمل إلى زوجه هذه أنباء، فبكت من كل أعشار فؤادها، وتشبث الزوجان بنحرهما وأنساهما هذا أحزانهما شأن العشاق والأحباب.

وأعطى لزلي صورته الشمسية إلى شيلا. ووهبته هي صورتها. وكتب هو في ذيل صورته ما أملى عليه الحب، وخطت هي تحت صورتها ما أوحى إليها الفؤاد وفي ليلة ضربت للفراق وكان غداها طالعاً بالبين تعانقا أشد العناق، ولم يتكلما كلمة واحدة، وخرير أمواه البحر يضج عن كثب. والرياح تئن والمطر يعول ويتنفس فوق النافذة.

بين جموع القواد والضباط، وعلى صفير القاطرات، وزحام الأفاريز، اجتذب الفتى لزلي زوجة جذبة الوداع الأخير.

وبكى الزوجان وشكرا الله أن أنعم عليهما بنعمة الدموع، وأرسل عيونهما تسح أحزانهما سحاً، وعلى مقربة منهما وقف ذلك القائد المشرف على الفرقة، يودع امرأة دميمة، وكثيرون آخرون وقفوا يخفون وجوههم وراء الصحف وقطع الجرائد وقد علمت الحرب الجميع أمانة الدموع، وإخلاص العبرات.

وقال لزلي وهو يختنق: إلهي. . أواه. . يا عزيزتي.

وقالت شيلا: لا تذهب. .! لا تدعني.

ولكن لم يلبث أن ارتفع صفير القطار. وبدأت القاطرة تتحرك وفي لحظة انطلق وعادت شيلا فارغة الفؤاد مسرعة إلى المحطة. وحيدة مرة أخرى!

وهاهي الطفلة قد أكلت من قطعة الحلوى، ثم قطعت عنها الآن وحرمت من طعامها. .!

وعادت شيلا عن ذلك الفرح العظيم الذي كانت تنعم به إلى عذاب الوحدة وغمة العز، وآلام الاكتئاب، ورأت صواحبها الفتيات في شغل بعواطفهن وآلامهن عن مؤاساتها، فأحست بثقل الألم وحدها.

فلما اضجعت في السرير الذي كان قد وسع بدنين وضم جسمين، أدركت أثر الوحدة، وجعلت تسائل النفس حزينة ماذا كان من القدر ومنها، ولم تجد في تلك الألفاظ التي قيلت لها، وهي دواعي الخدمة وأوامر الحرب، شفيعاً لظلمها ومعاذير للأسى الذي نالها.

كان ليزلي بطبيعته الجندية، رجلاً لا يجيد التراسل، ولا يعتمد على بلاغة البيان في إنشاء الرسائل ولم يكن أديباً ولم تكن صنعته الأدب والبديع، وقد كتب إليها كثيراً، ولم يتأخر ولم يهمل، ولكنه لم يصب شيئاً من فن الإبداع، ولم تكن له مقدرة على أن يرسم شخصيته والعواطف الثائرة في صدره فوق الورق.

وأخذت شيلا الحنين إليه، وتطلعت روحها إلى رؤية روحه في رسائله، فلم تجد أثراً وجعل الحنين يزداد كلما انصرمت الأسابيع وأصبحت أشهراً.

ولم تكن المدة التي لبثاها معاً في جناب الحب وعهد الزواج تزيد عن ستة أسابيع وكانا فيها في أحضان كل منهما وكانا قريبين متلاصقين فلم يستطع كل منهما أن يدرك أسرار نفس صاحبه.

فلم يكد يحول الحول على الفراق، حتى فقد لديها شخصيته، وأصبح ذكرى مرتبكة حلوة معاً، وطيفاً جميلاً تحوطه الحجب، وكان الوحي الذي ظهر في حياتهما الصغيرة.

وهنا تقوم المسألة، وينهض السؤال يطلب البحث، وهو هل العواطف التي نحسها في أعماقنا من ناحية إنسان تحدث من ذاته وشخصيته، أو من التأثيرات التي يحدثها هذا الشخص، رجلاً أم امرأة، فإذا كان الأمر الثاني، أفلا يجوز أن ينهض إنسان آخر من حجب الأقدار يستطيع أن يحدث هذه التأثيرات بعينها يظفر بعواطفنا التي ظفر بها الأول.

على أن شيلا لم تفكر في هذا الأمر، ولم يخطر على بالها ولكن الأمر الذي لا ريب فيه هو أنها في ذلك الوقت كانت تحن إلى اللذة والبهجة لا إلى الشخص الذي كان يحدثها ولئن كان الرجل هو الذي وهبها تلك اللذة، فإن اللذة كانت أقوى في نفسها أثراً واشد حيوية من واهبها، وإذا كانت اليوم تبكي ليزلي وتطلب أن يرد إليها فإنما كانت في الحقيقة تبكي سعادتها ولذتها الراحلة عنها.

ولم تظهر دلائل على أن ليزلي سيعود إليها، وكانت أصوات الصحراء تحف به، وقلما يجاز للجندي أن يقضي أياماً في المغرب، وعمله لا يزال يناديه في المشرق.

ولعل أشد مآسي الحرب وفواجعها أنها خنقت الحب وأودت به، وهذا هو الجرم الذي يجب أن تؤخذ الحرب به وتعاقب عليه، ويصلى الذين آثارها ويله وجريرته، ولا نظن أن فتاة غفلاً غريرة كشيلا تلك تستطيع أن تتحمل وقع حزنها بلا اعتراف وتصبر على الآلام بلا طلب المؤاسي، والتماس المخفف، وإذا أنت علمت أن اعترافات المصابين في سعادتهم، الذين يعانون آلام الوحدة ومناكد العزلة، لا تصيب في أغلب الأحيان عاطفة الناس الذين يشاركون المعترف في جنسه، فلا غرو ولا عجب أن تكون شيلا قد نفضت هم نفسها وكشفت غمة فؤادها إلى رجل.

على أن قصر المدة التي لبثتها في ظل ليزلي وعدم مقدرتها على أن تدرك نفسيته فيها، لا تزال شفائع لها على أنها اختارت لذات صدرها رجلاً خطيراً مثل جفري ستايتون ذلك الذي خصته باعترافها، وركنت إليه واعتمدت على مؤاساته.

وفي العالم فكرة شائعة لعلها انتشرت بفضل كتاب الروايات والقصيين وهي أن الرجل الذي يغتصب ظلماً وعدواناً زوجة رجل آخر ليس إلا رجلاً مجرماً شريراً مشهود له بذلك، وهو في الكتب معروف، بتبيينه في التو واللحظة، بلهجته المخادعة وهيئته الخلابة، وملاحة حديثه وحلاوة محضره، وفيض ألفاظه، وقارئ الروايات لا يلبث أن يدرك في لحظة واحدة أنه إزاء رجل ينشر الإثم، ويعيث في الأرض بغياً وفساداً، ولكنه عند كاتب الرواية ليس إلا رجلاً طيباً وشخصيته حلوة في عرض روايته، ولكن واآسفاه، أن هذا الرجل المخادع في الحياة الحقيقية، بعيداً عن الحياة الروائية وعالم القصص، ليس من هذا الضرب، ولا يشبه هذه الصورة، وإلا لو كان ذلك كذلك لاستطاع رجل من دعاة الآداب والمهيمنين على أخلاق الأمم والناصبين أنفسهم حكاماً على الفضيلة وأنصاراً لها، أن يعين رجلاً من رجاله ليمشي أمام هذا الإنسان المخيف بعلم أحمر حتى يحترز العذارى من شره، وتفتح الفتيات والسيدات أعينهن فلا يقعن في أشراكه.

إن هذا الإنسان الذي يخشاه الناس ويختصونه بمقتهم لا يزال كسائر الناس، وهو مثلنا جميعاً وهو رجل خير من أكرم خلق الله، وهو إنسان مقبول محبب نعرفه جميعاً ونحبه ونمد إليه يد الود، وتهتز قلوبنا فرحاً بعناقه وتخفق أفئدتنا ابتهاجاً إذ تلتقي بخفقان فؤاده، وليس له إلا هفوة صغيرة، ولا عيب فيه إلا ضعف واحد، ولكنه لم يحدث ذلك الضعف، ولم يلتمس تلك الهفوة، ولم يبتكرها لنفسه ابتكاراً، ولا يبين سوء القصد في عينيه، ولا تنم معارف وجهه عن فساد نيته بل كل ما يعيبه أنه مفرط العاطفة، بعيد مدى الفتون، مستسلم إلى شهوة نفسه، تارك مقادته إلى وجدانه، فهو يحس آلام الناس، ويألم لها أشد الألم، ويصيب من هموم غيره أحدُّ العذاب، وأشد الأسى، فإذا أراد أن يخفف منها ويؤاسي صاحبها، ويزيل عنه آلامه أغفل كثيراً من الاعتبارات، لا تبلغ في أهميتها خطورة ذلك الأسى الذي يحاول أن يبدده عن ذلك القلب الكبير.

وكان جفري ستايتون هذا مستجمعاً كل صفات الرجل التام، وكان على جميع ما يحب الناس أن يكون عليه الرجل، فقد كان شهماً تضطرم في جوانحه عواطف الفروسية وكان حيياً ناصع صفحة لاقلب وكان رقيق الجانحة لا يبلغ قلب من القلوب الإنسانية حد عطفه ومدى رفقه وحنانه، وكان مؤمناً مستمسكاً بعقائده الدينية وكان مؤدباً ما شئت من حسن أدب، طيب اللقاء ما شئت من كرم عنصر، وكان من فرط أدبه يتلعثم إذا تحدث إلى الغرباء عنه، ويتعثر في النطق إذا جلس إلى رجل لم يلتق به من قبل وكان يحن إلى الحرب والاشتمال ببردة الجندي والرحيل إلى ميدان القتال ولكن الأطباء إذ فحصوه هزوا رؤوسهم وقالوا أنه لا يليق لخوض غمراتها لأن له قلباً ضعيفاً وكانوا في حكمهم على حق.

ففي بعض مجالسه ونزهاته التقى بشيلا سوريل، فوجد كل في صاحبه ناحية يشبهه منها، وألفيا أنهما متماثلان من عدة وجوه.

وأشد ما فتنها منه لأول وهلة تلعثمه وفرط حيائه، ورأت في تعثر منطقه دلائل رجل حيي طيب القلب جبان الفؤاد فلم يلبثا بعد دهر قصير أن مال كل بنفسه إلى صاحبه، ورأت أنها مسارعة إلى الإفضاء بأسرار همومها إليه والتحدث أمامه عن آلامها وأحزانها.

فلم يكن منها إلا أن قال وهو يتلعثم، ليتني أستطيع أن أؤدي لك أمراً ولكن شيلا هزت برأسها. فكانت هزتها المحركة له إلى العمل المهتاجة في نفسه بواعث الاحتيال على تخفيف أساها.

وانطلق ودهما مسرعاً، ومضى الولاء بينهما يعدو ويستبق، حتى أصبحا على ممر الأيام صديقين حميمين، وكان رثاء كل لرفيقه عظيماً، وراج جفري يحدثها عن ليزلي كثيراً ويتكلم أمامها عنه، وهو في أكرم لهجة، وأرفق حديث، بلا نية في إساءته، ولا قصد إلى غيبته أو سعي إلى فساد ولكنه مع ذلك كان يحاول عبثاً أن يقنع نفسه بأن هذا الزوج الغائب خليق بمثل هذه العروس ورأى جلياً أن ليس في الدنيا كلها رجلاً يستطيع أن يسبغ عليها السعادة التي تستحقها والهناء الواجب لها، ولكنه لم يفه بكلمة واحدة عن هذه العقيدة، ولم ينطق ببنت شفة عن ذلك أمامها، إذ تأبت عليه فروسيته أن يدع لشفتيه حق التلفظ بها، وأنكرت عليه الشهامة أن يبوح بما يكنه صدره، فذا عسعس الليل، واضطجع في فراشه، لم تغمض عينيه، وباتت نفسه رهينة عوامل كثيرة، ومضت روحه تستعيد آلام تلك الفتاة وسوء حظها، ولعله في تلك الظلمة قد دعا الله دعوة أو دعوتين، وانطلقت شفته تتمتم ضراعة أو ضراعتين، لأنه كان رجلاً مخلصاً لربه الدين، مؤمناً عميق الإيمان.

وكانت صداقته لها على أتم الحزم، وكانا صديقين، ولا شيء أكثر من ذلك، والطبيعة هي الملوم، والذنب ذنبها، ولا أصر عليهما ولا عتب ولا ذنب، إذا تعدت صداقتهما بعد ذلك حدود المودة فخطت متقدمة إلى عاطفة أخرى هي الحب!

وقد اعتادا أن يطوفا طوفة صغيرة تحت ضياء الأنجم الزهر، إذ يتكلمان عن أمور تافهة وسخافات بذلك الوقار وذلك الجد الذي تقال به عظائم الأمور وأعقل الأحاديث، وقد تخرج من شفتيها على رغم من إرادتها لفظة اسمه بلا تكلف ولا احتشام ولا تسويد، وهي واقفة بباب دارها بعد طوفة المساء، ومادة يدها إليه بتوديعة الليل، فيبتسم ابتسامة صغيرة ممتزجة بالأسى، وينطلق مطرق الرأسي في صمت مفكراً في طريقه إلى داره.

ولكن ذات ليلة أخذ برأسه جنون عظيم، فبدلاً من أن يشد يدها في حرارة التوديع، كما هي عادته في ختام المطاف كل ليلة، همس إليها بلا لفظ مسموع، ولا صوت يصل إلى الأذن، بل بإشارة صامتة وشفة مقفلة، وفم مستطيل، يطلب قبلة. .!

فجرت شيلا إلى البيت وأقفلت وراءها الباب بعجلة مرعبة، ولم يثب إليها رشدها إلا وهي واقفة في بهو الدار مختنقة الأنفاس من غير ما تعب ولا لغو من عدو أو جري ولأنها تذكرت إذ ذاك أنها كانت مصعدة الأنفاس كذلك يوم ألفت نفسها في أحضان ليزلي وبين ذراعيه، عجبت وأخذتها الدهشة وراحت تسائل النفس حيرة أية قوة مجهولة جعلتها إذ ذاك تشعر بما شعرت به من قبل، لقد كانت الزفرات نفسها الزفرات تلك، ولكنها لم تكن واحدة. . فقد أحست اليوم أن السعادة على منال يدها ولكن هيهات أن تصل يدها إليها. .

وأبصرت فوق المتكأ خطاباً من ليزلي وقد كتب إليها على سبيل تخفيف آلامها وإرسال السكينة إلى فؤادها يقول أنه على خير حال لأن الرجل لا يكتب كثيراً عن الآلام التي يسعر بها في الفراق وعلى شط النوى إلا خلال الأشهر الثلاثة الأولى، وبد ذلك يصبح ظلاً فقط أو طيفاً في ذهن قارئ رسالاته، لأنه يأخذ إذ ذاك في تخفيف لهجة الحزن في صحائفه، وقد يكون حينذاك في أشد آلام النفس، وقد يكون رهن عذاب لا يطاق. ولكن تأبى عليه مشاعره إلا أن يرسل برد السكينة إلى حبيبه أو وليه أو أليف نفسه.، فيخطئ في أغلب الأحيان ويحدث هفوة قد يرى مغبتها في المستقبل.

فلما تناولت شيلا ذالك الكتاب بيدها وفي نفسها تلك العوامل التي أثارها ذلك الحادث لم تجده إلا بارداً ولم تر سطوره إلا قسوة وخشونة وإحساساً ميتاً، وقام ذلك أمامها دليلاً على أنه قد نسيها والتمس منها السلوى، واشتف كأس التلهي حتى الثمالة ليخفف ذكراها من فؤاده.

وكانت شيلا لم تدع منذ أيام السبيل لشؤونها وعبراتها، فذا بكت يوماً من أيام البين فقد كانت تمكث الساعات الطوال ودمعها يسح بلا انقطاع ولا حاجز يرده، فجعلت الآن تبكي ثم تكفكف عبراتها المهراقة هوناً، وتحملق البصر في صورة ليزلي وهي بين يديها وتحاول أن تعيد ذكراه في فؤادها، وتجدد الأثر الذي كان له في جوانحها، ولكنها واآسفاه لم تفلح في ما قصدت إليه فإنه بدا لعينيها أثراً تافهاً ضئيلاً في تلك الصورة لا يوحي شيئاً من عهود تلك الأيام التي قضتها في أحضانه.

ومضت شيلا إلى منامتها في حيرة شديدة وأسى بليغ وأمضها النوم ونبا بها المضجع، ولبثت ليلتها على أشد المضض والألم، ونهضت في الصباح مدعوكة مصدعة الرأس مريضة.

وعادها جفري ضحى، فلما نبأته الخادمة نبأ سيدتها، فزع وارتعب وهرع إلى الصيدلية فابتاع عدة من الأشافي الصالحة للصداع، ومر ببائعة الزهر فاقتنى من باقتها أجمل الباقات، وعاج على الفاكهي فاشترى أنضر ما حلا من فاكهته وعذب من ثماره، وجاء من جميع ذلك بما يكفي مائدة حفل عظيم من المدعوين، فدفع به إلى الخادم، لتضعه على عين سيدتها ومستشرف ناظريها، وجعل يعاود الدار مستفسراً عن صحتها ثلاث مرات في وقت وجيز.

على أن شيلا لم تلبث أن شفيت بسرعة عجيبة، وما كاد يقبل المساء حتى رأتهما الرابية يمشيان في دروبها، ويبتنزهان في مجاريها ومنافسها، وبعد أن حمد جفري على مسمعها القوة التي لها الفضل في شفائها، وهي قوة الرحمن في السموات، أفاض يؤنب نفسه ويتلوم ويعتب فؤاده، ويرسل التعنيف أثر التعنيف، ويطلب المغفرة، ويسأل الصفح، وإذا نحن أردنا أن نختصر حديث ساعتين كاملتين فنخرج منه عناصره فقد ولبه وصميمه، فما كنا واجدين إلا عبارات قصيرة لا تزيد عن هذه: إنني لوحش ضارٍ. . يا لحماقتي، لقد كنت قاسياً لعيناً. .

وجواب الفتاة على ذلك: كان ينبغي أن لا تسألني ذاك الذي سألت. إني أعرف أنك لم تستطع أن تتمالك نفسك ولكن لم يكن ينبغي. . ثم العبارة الآتية منه. . . لقد كان ينبغي أن أضرب بالرصاص وأستهدف لقذائف البنادق تكفيراً لهذا الذنب العظيم.

ولكنهما مع ذلك لم يكادا يصلا إلى باب الحديقة حيث التوديع. حتى لبث جفري في مكانه لا يتحرك. . ووقفت هي لا تمد له يدها كعادتها.

وقال: عمي مساءً وقالت: عم مساءً ولكنهما مع ذلك ظلا واقفين لا يفترقان.

ولم يشعر بغتة إلا وقد وجد أن ما كان بالأمس يسأله كمنحة وهدية وعطاء قد انتهبه الآن اقتساراً وعنفاً واغتصاباً.

وقالت شيلا وهي تتململ وتلوي رأسها وتتخلص من يديه (كلا، كلا) وسقطت القبلة فوق كتفها وشعرها الجميل، ولم تمس الخد الأسيل.

وإذ ذاك - على ضوء القمر، وهو الذي يحعل الناس أشرارً، كما يجعلهم أخياراً، وقفا ينظر كل إلى صاحبه.

وقال جفري في صوت لم يكن به أثر من صوته العادي، بل في صوت مضطرب جديد، لا نستطيع أن نفترق الآن على هذه الحال.

فهزت شيلا رأسها، ولعلها كانت إطراقة نفي، أو هزة إيجاب، لأنها تحتملها معاً، وهمس الضمير في أذن جفري أن ينثني إلى داره وينهي هذا الموطن بكتابة خطاب مستطيل يشرح قضيته.

فمضى في سبيله ووقفت هي ترقبه ويدها فوق قلبها الخافق.

وكتب جفري رسالته، وللحب منطق على هواه الخاص به لا يمشي مع المنطق الآخر ولئن كانت ذنوب غيرنا تحوزننا أشد الحزن وتفت أكبادنا، فإن ذنوبنا لا تزال تجد من الظروف التي تحوطها مبرراً لها وشفيعاً، فإذا كان جفري قد سألها في رسالته أن تفر معه وتأوي في رفقته إلى فندق في أبعد بلاد الله، فقد كان يحس إذ ذاك أنه لم يرد بذلك أمراً حقاً عدلاً لا جور فيه ولا عسف فقط، بل فعلاً شريفاً نبيلاً سامياً محموداً، وإذا كانت السخرية من شرائع الناس والتغلب على الرسوم المقررة في العالم تتطلب التضحية فقد أعد نفسه لها، وتهيأ لبذلها، لعل في تضحيته جميع أمره رداً للسعادة التي فقدتها، وأقنعها في آخر الأمر في رسالته بأن الله ولا ريب سيبارك ارتباطهما ويشد عراه وأردف الرسالة بالحشية الآتية: وسأطلب إجازة من عملي وأنتظر قدومك إلى فندق. . . وستكون السيارة واقفة ببابك بعد حسوة الشاي في المساء ذ يحسن أن لا نلتقي قبل الرحيل أو نصطحب في السفر. ليباركك الله. نحن نؤدي أمراً حقاً.

وتلقت شيلا الكتاب وهي في شربة الشاي في الصباح فقرأته بعين محملقة وأنفاس مترددة وزفير وأنين وألق به بعد تلاوته تحت الوسادة، وأخفت نفسها وراء أغطية الفراش، وتحت اللحاف كان بصيص من النور من أثر انعكاس ضياء الشمس وعلى البصيص راحت تقرأ الكتاب مرة أخرى، وكلما قرأت سطراً ذرفت فوقه عبرة سخينة، وهمست تقول لنفسها، لن أذهب بلا ريب. لن أذهب. لن يغريني أمر في الدنيا وإن عز وغلا، بالذهاب، وآلمها صوتها إذ فاهت بتلك الكلمات.

وجيء إليها بطعام الإفطار فرفضته وتوقعت أن تسمع من وصيفتها فاني شيئاً من كلمات المواساة على أن الخادمة لم تفعل شيئاً من ذلك ولكنها قدمت إلى سيدتها طلباً أن تعفيها من خدمتها فراع الطلب فؤاد شيلا فاحت في وجهها كلا، كلا إنك لا تجدين في هذا الطلب، فأجابت الخادمة وفي قولها لهجة العزيمة الصارمة: إني منصرفة إلى عمل آخر لأني لا أستطيع احتمال المقام في بيت لا رجل فيه فزادت هذه العهبارة من التثير المضطرن في جوانح شيلا ووجدانها.

ومشت شيلا إلى شاطيء البحر، وكان الربيع في كل مكان يتفتح عن جماله والفتان ويرسل أنفاس الحب في أفئدة الشباب، ويهب بعلائله ونسائمه على القلوب النقية النضرة وكأنما يخيل إلى شيلا أن الريح تعزف قائلة إلى السعادة، إلى السعادة. وتحمل إلى أذنها كلمة الخادمة. . لا أستطيع احتمال العيس في بيت لا رجل فيه. .

وأخرجت كتاب جفري مراراً فأعادت تلاوته، ولكنها في هذه المرة لم تهز رأسها كما هوتها من قبل.

وعادت إلى الدار فإذا السيارة بالباب، ولم تشعر بعد لحظات إلا والسيارة تقلها منحدرة في الطريق موفضة إلى الموعد، فنسيت كل شيء وراحت تقول لنفسها وهي مستندة إلى وسائد السيارة وزرابيها أريد أن أكون سعيدة مرة أخرى، وسأكونها الآن!

ولكن على الرغم من أنها أعادت هذه العبارة عدة مرات لم تحس بأن الألفاظ صادقة في مسمعها.

بلغ جفري الفندق في الساعة السادسة من المساء، ولا تزال على الموعد المضروب ساعة ارتقاب، ولكنه ألفى الارتقاب أليماً لا يطاق وتصبب العرق من جبينه، وجعل يرسل الطمأنينة في فؤاده ويكرر: إنني أؤدي أمراً حقاً عدلاً لا ظلم فيه.

ولفت اضطرابه غير واحد من جلساء الفندق فحاول جفري إخفاء انفعالاته وراء صحيفة التيمس وأطلق بصره يجول في أسطرها وأنهارها، وكانت الصفحة التي أمام عينيه تحتوي قائمة بأسماء الذين فقدوا وضلوا من ضباط الجيش ونهض من بين تلك الأسماء اسم فأخذ عينيه فإذا هو يقرأه الليفتننت ل. . . وتووكر من فرقة الهايلندرز قتل في الميدان

فصاح جفي: رباه!

هذا هو الرجل الذي ينتظر هو قدوم زوجته. . . فراح يساءل نفسه هل علمت شيلا بأمر هذا النبأ فإذات لم تكن علمت به وجاءت وهي لا تدري فماذا لعمري هو صانع.

هنا وثبت في فؤاد جفري شهامته وقامت عواطف الفروسية وعوامل الرقة والعطف فوقفت في وجهه، فرأى أن الخطة التي اختطها والنية التي رسمها والحياة التي أعدها يجب أن تلغى وتنسخ وتزول من ذاكرته، فإن سرقته زوجة رجل حي على قيد الحياة، واستلابه من زوج يمشي في مناكب الدنيا امرأته شيء، وسرقته الموتى واستلابهم زوجاتهم شيء آخر، ولئن كان هذا المنطق ضعيفاً غير راجح في بعض نواحيه، إذ كان الموتى قد أصبحوا في نجوة عن شؤون الأرض، بعيدين عن هماهم العاجلة، فلا ريب في أن عواطف المستلب تثور فيه وضميره يأخذ باللائمة، إذا كانت له عاطفة أو أحس بين جوانحه ضميراً.

لذلك أجمع جفري نيته على أن ينزع حبه من فؤاده نزعاً.

ولكنه شعر بغتة بأنه لن تطاوعه قواه ولن يجد له جلداً على أن يخبر شيلا بنباً موت زوجها، وبينا هو على هذه الحال من الحيرة والذهول، وقفت سيارة بالفندق وبانت شيلا على عتبتها حيرى مترددة جازعة.

فنهض جفري ودنا منها وبلا كلمة ولا لفظة مشى بها إلى البهو وصاح بسائق السيارة: انتظر!

ودلف إليها فهمس في أذنها: إذن فقد جئت. .

قالت وهي تتلعثم: أجل. . لقد. . جئت!

قال: إذن فلتعودي أدراجك. . فقد كنا على باطل، وكنا نجري إلى إثم، وكنا قادمين على حماقة وطيش وأنا الملوم وحدي وأنا الذي أستحق التعنيف واسوأتا. . على أين كانت نسيتنا ستسوق بنا. .

قالت شيلا: إني أعرف ذلك!

فأجاب: إذن اذهبي واحمدي الله أننا عرفنا قبل أن نقول لات حين معرفة!

وكان الظلام قد هجم إذ وقفت السيارة بالشارع الملم على دار شيلا، وكانت من اضطرابها قد نسيت المفتاح قبل الذهاب فلبثت تدق الجرس ولم تجد جواباً سريعاً على دقاتها، إذ كانت الخادمة قد أوت منذ ساعات إلى فراشها وهوت إلى نوم طيب عميق.

فدقت شيلا مرة أخرى وقد سمعت صثوت سيارة تدنو من الباب وفي الحال سمعت صوتاً يناديها باسمها العادي، وأحست بعد لحظة بيدين تطوقانها، وبقبلات عنيفة متلاصقة فوق خدها، قبلات عظيمة فيها كل حرارة الحب. بل قبلات لا تصدر إلا عن فم واحد عرفته وخبرت تقبيله!!

وفتح إذ ذاك الباب، ودخل الزوجان البهو وورائهما الحوذي يحملالمتاع.

وقالت شيلا تخاطب الخادم وقد نهضت من نومها مذعورة، أنه قد عاد،، إن زوجي قد عاد!

فلما احتوتهما حجرة الاستقبال، هبط كل في أحضان زوجه وتعانقا واستعبرا، وانهلت الدموع من المحاجر وزفر ليزلي يقول: ألا ترين هذا اللقاء الفجائي عظيماً ما كنت وحبك أريد أن أفسد هذه اللذة الكبرى بإنبائك قبل الوصول بقدومي، وكما كنت أرضى بالعالم كله بديلاً عن هذه البغتة الحلوة المعسولة. إني لم أحس من قبل إحساسي اليوم. ولم أشعر بسعادة كهذه في حياتي. أواه يا زوجتي،، هل افتقدتني في هذا العهد المتطاول، وهل استوحشت البين؟

قالت شيلا: كل الوحشة. . وأمسكت ولم تتم إذ علمت الآن الفرق بين قطعة الحلوى وقطعة الفحم.

وكان القضاء الإلهي قد رسم أن يكون القتيل لورنس وتووكر، ابن عم ليزلي، فتشابه الاسم على جفري ستايتون، وتلك قسوة من الأقدار، ولكنها أرادت باستئثار لورنس دون ليزلي، حكمة كبرى وصلاحاً وخيراً.

هنا بقيت نقطة واحدة استعصى حلها، وهي معرفة الشعور الحقيقي الذي وثب في فؤاد جفري إذ علم بنبأ رجعة الميت، وبعث القتيل.

أترى ذلك الشاب المفعم الفؤاد بالرفق والنبل والخير أحس البهجة العظيمة إذ علم أنه بتنازله عن تلك الفتاة الصغيرة المعتزلة المحزونة خشوعاً أمام اسم زوجها في سجل الموتى، إنما ردها إلى سرير العرس مرة أخرى نقية طاهرة الذيل كما كانت من قبل، أم تراه حزن وابتأس وبكى أمر البكاء. .

هذه مسألة تحتاج إلى عقل شاعر عظيم مثل بوكاسيو

فهل لكتابنا وشعرائنا وأهل الوجدان الحساس بيننا من يتناول هذه الفكرة بالتحليل، ويجيء فيها بالقول الفصل؟.