مجلة البيان للبرقوقي/العدد 45/مطالعات

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 45/مطالعات

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 1 - 1919



شعر الملوك

لكثير من الملوك والأمراء والأشراف ومن إليهم من ذوي الرآسة والسلطان شعر مختار ينماز عن سائر الشعراء برقته وهلهلته وليونته لأن كل ما يحف بهم من الترف والنعيم والرخاء لا يبعثهم على أن ينهجوا مناهج غيرهم من الشعراء وأن يفتنوا في الشعر افتتانهم وأن يحسنوا في سائر ضروبه إحسانهم

ولله صاحب الأغاني إذ يقول عن أمير المؤمنين عبد الله بن المعتز الخليفة العباسي الشاعر المشهور - وهو الشاعر بحق على الإطلاق من بين الملوك الشعراء - وهذه الكلمة - كلمة الأغاني - من أروع كلماته وقد دافع فيها عن ابن المعتز أحسن دفاع، وهي وحدها صفحة من أبدع صفحات الأدب، قال: وشعره أي ابن المعتز وإن كان فيه رقة الملوكية وغزل الظرفاء وهلهلة المحدثين فإن فيه أشياء كثيرة تجري في أسلو بالمجيدين ولا تقصر عن مدى السابقين، وأشياء ظريفة من أشعار الملوك في جنس ما هم بسبيله، ليس عليه أن يتشبه فيها بفحول الجاهلية، فليس يمكن واصفاً لصبوح في مجلس شكل ظريف بين ندامى وقيان وعلى ميادين من النور والبنفسج والنرجس ومنضود من أمثال ذلك وفاخر الفرش ومختار الآلات ورقة الخدم أن يعدل عما يجانس ذلك من السلام السبط الرقيق الذي فهمه كل من حضر إلى جعد الكلام ووحشيه، وإلى وصف البيد والمهامة والظبي والظليم والناقة والجمل والديار والقفار والمنازل الخالية المهجورة، ولبا إذا عدل عن ذلك وأحسن قيل له مسيء، وإلا أن يغمط حقه كله إذا أحسن الكثير وتوسط في البعض وقصر في اليسير، ولكن أقواماً أرادوا أن يرفعوا أنفسهم الوضيعة ويشيدوا بذكرهم الخامل ويعلوا أقدارهم الساقطة بالطعن على أهل الفضل والقدح فيهم فلا يزدادون بذلك إلا ضعة ولا يزداد الآخر إلا ارتفاعاً، ألا ترى إلى ابن المعتز قد قتل أسوأ قتلة ودرج فلم يبق له خلف يفرطه ولا عقب يرفع منه وما يزداد بأدبه وشعره وفضله وحسن أخباره وتصرفه في كل فن من العلوم إلا رفعة وعلواً - إلى أن قال: وكان عبد اله حسن العلم بصناعة الموسيقى والكلام على النغم وعللها وله في ذلك وفي غيره من الآداب كتب مشهورة ومراسلات جرت بينه وبين عبيد الله بن عبد الله بن طاهر تدل على فضله وغزارة علمه وأدبه، ولقد قرأت بخ عبيد الله رقعة إلى ابن المعتز وقد بعث إليه برسالة في أنه يجوز ولا ينكر أن يغير الإنسان بعض نغم الغناء القديم ويعدل بها إلى ما يحسن في خلقه ومذهبه وشاوره في ذلك، فكتب إليه عبيد الله: قرأت أيدك الله الرسالة الفاضلة البارعة الموفقة فأنا والله أقرؤها إلى آخرها ثم أعود إلى أولها مبتهجاً وأتأمل وأدعو مبتهلاً وعين الله التي لا تنام عليك وعلى نعمة عندك فإنها علم الله النعمة المعدومة المثيل. ولقد تمثلت وأنا أكرر نظري فيها قول القائل في سيدنا وابن سيدنا عبد الله بن العباس:

كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع ... لذي أربة في القول جداً ولا هزلا

ولا والله ما رأيت جداً في هزل ولا هزلاًَ في جد يشبه هذا الكلام في بلاغته وفصاحته وبيانه وإنارة برهانه وجزالة ألفاظه، ولقد خيل إلي أن لسان جدك العباسي ينقسم أجزاء، لك أعزك الله نصفها والنصف الآخر مقسوم بين أبي جعفر المنصور والمأمون رحمة الله عليهما، ولو أن هذه الرسالة جبهت الإبراهيمين إبراهيم ابن المهدي وإبراهيم بن الموصلي وابنه إسحاق وهم مجتمعون لبهت منها الناظر وأخرس الناطق ولأقروا لك بالفضل في السبق وظهور حجة الصدق ثم كان قولك لهم فرقاً بين الحق والباطل والخطأ والصواب. ووالله ما تأخذ في فن من الفنون إلا برزت فيه تبريز الجواد الرائع. عضد الله الشرف ببقائك وأحيا الأدب بحياتك وجمل الدنيا وأهلها بطول عمرك أهـ.

وإليك شيئاً من مختارات ابن المعتز - يقول - يصف سحابة ممطرة:

باكيةٌ يضحكُ فيها بَرقُها ... موصولةٌ بالأرض مرخاةُ الطُّنبْ

رأيتُ فيها برقها منذ بدا ... كمثل طرفِ العين أو قلبٍ يجبْ

جرت بها ريح الصبا حتى بدا ... منها إلى البرق كأمثال الشُّهبْ

تحسَبهُ طوراً إذا ما انصدعت ... أحشاؤها عنه شجاعاً يضطربْ

وتارةً تخاله كأنَّه ... سلاسلٌ مفصولةٌ من الذهب.

ويقول في الخط والشكل:

فدونكهُ موشّى نمنمتهُ ... وحاكتهُ الأناملُ أيّ حوك

بشكلٍ يؤمنُ الأشكال فيه ... كأنَّ سطوره أغصانُ شوكِ

وقال: قد أنكرتْ هندٌ مشيباً ... عمًّ رأس واستعرْ

يا هند ما شابَ فتى ... إنما شاب الشعرْ

وقال:

ضعيفةٌ أجفانه ... والقلبُ منه حجرُ

كأنما ألحاظه ... من فعلهِ تعتذرُ

وقال:

ولقد قضت نفسي مآربها ... وقضت غيّاً مرةً ورشدْ

ونهار شيبِ الرأس يوقظ م ... ن قد كان في ليلِ الشبابِ رقدُ

وقال يصف جدولاً:

يمزّقُ ريِّاً جلودَ الثم ... ار إذا مصَّ الثّمار العطَشْ

وكفيلٌ لأشجارها بالحي ... اة إذا ما جرى خلته يرتعشْ

وقال:

وندمانٍ سقيت الراحِ صرفاً ... وأفقُ الصبح مرتفع السُّجوفِ

صَفَتْ وصفتْ زجاجتها عليها ... كمعنى رقَّ في ذهنٍ لطيف

وقال في الصيد

لمَّا تعرَّى أفُق الضَّياء ... مثلُ ابتسام الشفةِ اللّمياءِ

وشمطت ذوائبُ الظّلماء ... وهمَّ نجمُ الليلِ بالإغفاءِ

قدْنا لعين الوحشِ والظباءِ ... زاهيةً محذورةَ اللقاءِ

شائلةً كالعقربِ السمراءِ ... مرهفةً مطلقةَ الأحشاءِ

كمدِّةٍ منْ قلم سوداءِ ... أو هدبةٍ من طرفِ الرداءِ

تجملها أجنحةُ الهواءِ ... تستلبُ الخطو بلا إبطاءِ

تمشّى الأنكبُ في الرّمضاءِ ... أسرعَ من جفنٍ إلى إغضاءِ

ومخطفاً موثّقَ الأعضاء ... خالفها بجلدةٍ بيضاءِ

كأثر الشهابِ في السماء ... ويعرف الزَّجرَ من الدعاءِ

بإذنٍ ساقطةِ الأرجاءِ ... كوردةِ السوسنة الشهلاءِ ذا بُرثنٍ كمنقبٍِ الحذاءِ ... ومقلةٍ قليلة الأقذاءِ

صافيةِ كقطرةِ من ماءِ ... ينساب بين أكمِ الصحراء

مثل انسياب حيةٍ رقطاءِ ... آنس بين السفحِ والفضاءِ

سربَ ظباءٍ رتع الأطلاءِ ... في عازبٍ منوّرٍ خلاءِ

أحوى كبطنِ الحيّة الخضراءِ ... فيه كنقشِ الحيّة الرقشاءِ

كأنّها ضفائرُ الشّمطاءِ ... يصطاد قبل الأَينِ والعناءِ

خمسين لا تَنْقُصُ في الأحصاء