مجلة البيان للبرقوقي/العدد 47/الإسبراتيواليزم
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 47/الإسبراتيواليزم
أو الاعتقاد بوجود الأرواح وإمكان مناجاتها
منشأ الإسبراتيواليزم
الإسبراتيواليزم ليس شيئاً جديداً في العالم، ولا هو بالأمر الطريف بل أن الاعتقاد بأن الموتى يحيون في عالم آخر، وأن في الإمكان مخاطبتهم ومناجاة أرواحهم، لا تزال عقيدة عامة في الإنسانية من أبعد العصور، ويلوح لنا أنها جاءت عن طريق الأحلام، وكان الباعث عليها الرؤيا في المنام لأن المتوحش الهمجي إذا رأى في الحلم بعض أصدقائه الموتى، أو فريقاً من الأعداء في الرؤيا وهم يحاربون ويعيشون كأنهم لم يوسدوا الثرى، وكأنهم لا يزالون أحياء فلا يتأول من ذلك إلا أنهم ولا ريب أحياء في مكان بعيد من الدنيا، وإلا فما هذا الذي يظهرهم ويجعلهم يتكلمون ويتحدثون إليه، ويخرجون إلى القنص معه، وصيد الوحش في رفقته، ويجب أن نعلم كذلك أن الفرق بين الحياة في النوم والحياة في اليقظة عند المتوحش الهمجي لا يكاد يكون محسوساً لديه. معروفاً منه، بل قد يمتزج أحدهما بالآخر. ويختلطان ويدخل كل في صاحبه، حتى أن الذين يحلمون قد يشكون في أغلب الأحيان وتأخذهم الريبة فيما إذا كانت الحادثة التي رأوها حصلت حقيقة أو إنما رأوها في الرؤيا ليس غير. ولا بد من أنه كان هناك في أدوار التطور الإنساني دور في أبعد عصور التاريخ كان الناس فيه لا يجدون فرقاً ما بين الأحداث التي تقع لهم في النوم وتلك التي تقع في البقظة، وكانت الحوادث التي يراها النائم تلوح له حقيقية كأنما وقعت في عهد اليقظة والصحو.
ويلوح لنا أن رؤية الموتى ومخاطبتهم كانت في العهود القديمة من التاريخ معروفة تحدث بوسائط تنويم مغناطيسي، ومن كتب الفلاسفة الأقدمين أمثال أفلاطون وفلوطرخس يتبين لنا أن عادة مناجاة الأرواح كانت معروفة في أزمانهمـ، وأنه كان يحدث شيء منها في الأعياد والطقوس، ولكننا لم نستطع أن ندرك مما كتب أولئك التفاصيل والحذافير وكان بين اليهود عادة السحر والتنجيم ذائعة متفشية، ووقع في الإمبراطورية الرومانية ما وقع في اليونان فقد دل التاريخ على أنه كان قبل مولد المسيح بنحو مائة عام طائفة من عظماء رومة وأشرافها تحت مراقبة الشرطة إذ اتهموا بأنهم كانوا يستحضرون أرواح الأموات، وقد ابان العلامة تيلور في كتابه (الديانات الأولى للإنسانية) براهين عدة على العقائد والمشاهدات التي تدل على أن فكرة مناجاة الموتى وتنفيذها كانت معروفة في جميع أنحاء العالم قديماً وحديثاً.
وعادة مخاطبة الأرواح عامة في الصين حتى اليوم، وطريقتهم في ذلك أنهم يستخدمون نوعاً من التختة أو الصابورة يلجأون إليها في قراءة المستقبل، والحفلة التي تعد لذلك علنية، تقام أمام هيكل في معبد، وتدفع الرسوم عند الدخول وهي تخص القساوسة، ثم إذا انتظم عقد الحفل سأل السائل ما يريد فيكتب السؤال في ورقة ثم تحرق أمام المذبح قبل ان يتمكن أحد البتة من معرفة ما فيها، ثم يتلقون الجواب من الله إذ يرتفع صوت غريب بألفاظ تخط فوق صينية من الرمل كلمة فكلمة وقد ثبت من التاريخ الصيني أن هذه العادة يرجع منشأها إلى عدة قرون ماضية.
على أن الإسبراتيواليزم في شكله الحاضر، وحركته اليوم في بلاد الغرب، يعود تاريخه إلى عام 1847 وذلك أن في شهر ديسمبر من تلك السنة تقاطر الناس وازدحم القوم على باب رجل يدعى جون فوكس كان يعيش إذ ذاك في ولاية نيويورك، في الولايات المتحدة وكانت أسرة الرجل تتألف منه هو وزوجته وفتاتين أحدهما تناهز الربيع الخامس عشر وأختها في الربيع الثاني عشر، وإذ أذاع الناس عنه أن له اتصالاً بالأرواح، إذ سمع الناس روحاً تتكلم في بيته فقالت الروح أنها كانت تشتغل في هذه الحياة بائعاً من باعة الأسواق الطوافين الجوابين وأن عمره في الواحد والثلاثين وأنه قد ترك أسرة تتألف من ثلاث بنات وولدين وأنه قتل من أجل ماله، فذاع الخبر عن ذلك البيت، وانطلق ألوف الناس ليروا وليسمعوا، حتى انتهى الأمر بأن ظهرت هذه الظاهرة كذلك في عدة بيوت وسرت العدوى إلى الولايات الشرقية، ولبث الخلاف والشكوك بضع سنين في هذا الشأن فمن مصدق ومن مكذب، فوقعت التهمة على ابنتي الرجل فوكس فاعترفت إحداهما بأن الدقات التي كانت تسمع إذ ذاك هي أثر دقات ركبتيها فوق بعضهما، وقد تأيد هذا الاعتراف بأن شهد ثلاثة من الأطباء بأن الدقات التي كانت تسمع لم تعد تسمع عندما أمسكوا بركبتي الفتاة ولم يدعوها تصدمهما إحداهما بالأخرى، ولكن دلت الأبحاث التي قام بها بعد ذلك السير وليام كركس، وهو من أبطال هذا العلم، والأبحاث التي أجراها السير أوليفر لودج بعده، على أن هذه الدقات في الحقيقة جائزة الحصول، في بعض أشخاص أوتوا استعداداً مخصوصاً، وأجسام وأرواح تخالف الأرواح والأجسام المألوفة، وقد ذكر أحد العلماء أن له صديقاً كان يستطيع أن يحدث هذه الدقات بعظمة داخلية من عظام كتفيه، وهذا الرجل لم يكن له أية علاقة بالإسبراتيواليزم وكان يحدث تلك الدقات للمجون فقط والضحك، وأن صديقاً آخر له صحا من نومه مذعوراًً في الساعة التاسعة من الليل على دقات شديدة فوق جدار الباب الخارجي لبيته وكان الجدار منفصلاً عن غيره ولا بيوت ولا منازل بجانبه، فلما أراد التحقق من مصدر هذا الطرق الشديد، لم يجد أحد لدى الباب، ولم يجد سبباً يدعو له من داخل البيت، فبلغ به الذعر مبلغاً جعله محموماً مريضاً، ولكن ظهرت النتيجة بعد ذلك له، وهي أن أخاه المحبوب لديه قتل قضاء وقدراً قبل الشروع في هذه الدقات بعشرين دقيقة فقط.
ولنعد الآن من الكلام على الظاهرة الجسمانية إلى الظواهر النفسية لعلم الإسبراتيواليزم فنقول أنها بدأت منذ عهد بعيد وكان أكبر أبطالها مستر وسويدنبرج، أما فريدريك أنطون مسمر فعاش حتى عام 1815 وكان مولده عام 1734، وهو طبيب نمسوي من مدينة ويانة بدأ عمليات الجديدة الخاصة بهذا العلم في باريس، ونجح نجاحاً باهراً في معالجة الأمراض وشفائها، وافرغ تعليمه في قلوب مئات من أتباعه وأثرت مهارته في أفئدة ألوف من أنصاره، وأخذ بعده كثيرون من الأطباء يؤيدون مبدأه، وهو أن تنويم المريض يمكنه من تشخيص مرضه بنفسه ووصف الدواء الناجع له، فانتقلت هذه التعاليم المسمرية إلى الولايات المتحدة، وذاعت في بلاد الغرب، ومضى كثيرون من الأطباء المسمريين يعالجون الناس بهذه الطريقة وثبت إذ ذاك أن المريض المنوم قد يستطيع أن يشخص علته بنفسه ويصف لها الدواء اللازم، وقد يستطيع أن يحكم بعله غيره ويصف له الدواء، وقد ذهب كثيرون إلى أن هؤلاء الأشخاص المنومين إنما كانوا يتلقون شرح العلل ووصف الأدوية لها من أرواح أطباء الموتى، حتى أن أحد المنومين أكد للقوم في حالة نومه أو هو الطبيب اليوناني القديم غالن بنفسه.
أما عمانويل سويدنبرج فكان مولده عام 1688 ومتوفاه عام 1712 فبعد أن ظل خمسين عاماً في دأبه العلمي وتقلبه في المناصب الكبرى بدأ آخر مرة يتلقى الوحي، وتتراءى له الأشباح وتتبدى له الأرواح إذ جعل يناجي رجالاً كثيرين من عظماء الدنيا الذين ماتوا قبله من قديسين وفلاسفة وملوك وباباوات فخاطب أرواح لوثر وكلفن وشيشرون وموسى وبولص ويوحنا وكثيرين غيرهم، وتلقى كذلك ما يسمونه اليوم بالكتابة المكتوبة بذاتها، إذ جعلت يده تندفع في الكتابة بلا إرادة منه، ولاوعي من لبه، فذهب في ذلك إلى أن الأرواح هي التي كانت تدفع يده إلى الكتابة فتكتب، على أن سودنبرج لم يشجع الناس على أن يخاطبوا الأرواح، ولم يبعث غيره على التكلم معهم، لأنه كان يعتقد أنه هو المختار من الأرواح وحده ولكن كثيرين ولا ريب يأخذون عنه ذلك ويحدثون هذه الجلسات نفسها مع الرواح.
فهذه العوامل واجتماعها بروح تلك العصور المضطربة الثائرة القلقة، كالثورة الفرنسية ونشوء الروح الاشتراكية، ساعدت على تقدم هذه الحركة وشيوع الإسبراتيواليزم، حتى هبط إنجلترا في عام 1855 رجل غريب يعد من أكبر الوسائط التي يلتمسها الناس سبيلاً على مخاطبة الرواح، وهو يدعى هوم، وقد جاء إليها بعد أن طاف كثيراً من بلاد الغرب فاستحضر أرواحاً في حضرة إمبراطور فرنسا لويز وزوجته، وزار قيصر الروس فأجرى جلساته بين يديه، وكان الرجل لا يتقبل مطلقاً أجراً على عمله نقداً أو مالاً، وإن كان ولا ريب يرفض الهدايا، وهي أعز ثمناً وأغلى قدراً. ولم يقبض عليه يوماً وهو يحاول غشاً في محاضراته، ولم يدرك الناس عليه مطلقاً خدعة أو بلفاً على أنه كان الشاعر بروننج الطائر الصيت في ذلك العصر وضع قصيدة عنوانها ليخسأ وسيط الأرواح وكان يقصد بها إلى التهكم على (هوم) فإنما كان الشاعر فيها يتبع هواه وأخذ بالظنة في أمر الرجل، ولم يحكم البرهان ولم يقم الدليل، كما شهد على نفسه بعد ذلك واعترف، ولعل النقطة المشكوك فيها من تاريخ هوم هي ما يختص بقصة المرأة التي تدعى مسز ليون. وكانت أرملة مثرية أهدت إليه أربعةوعشين ألف جنيه وتبنته ثم ندمت على ما فرط منها من هدية ووقفية فزعمت أن الرجل احتال عليها واثر في ذهنها وخدعها وادعى أن الرواح هي التي أوحت إليها أن تمنحه تلك المنحة وتخصه منها بهذا الفضل. وانتهت الخصومة إلى المحكمة فحكم لها برد المبلغ إليها ولكن القاضي أبان بفصيح القول أن لا دليل أو بينة يعتمد عليها من ناحية السيدة، وأنه لم تثبت الإدانة مطلقاً على أن هوم اعتدى عليها في مالها واستلبه استلاباً.
وكانت مقدرة الرجل غريبة فكان يرى أرواح أصدقائه الموتى وأقارب الذين يطلبون إلي استحضارهم، وكان يجيء بأسماء الأرواح، وبينات منهم تثبت حقيقتهم لأقاربهم، ولكنه ولا ريب اختص بالظاهرة الطبيعية من هذه الأبحاث فكانت الموائد في حضرته ترتفع بنفسها إلى الفضاء بدون أن يمسها أحد مطلقاً، وكانت المقاعد تتحرك في جوانب الحجرة، وكانت الكراسي الصغيرة تجري وترقص وتهتز وكانت الأزاهر تخرج من قصرياتها وتوزع نفسها على الحضور، وأعجب ما في أمره أن من الذين كانوا يشاهدونه رجالاً من كبار العلماء وأعضاء المجمع العلمي البريطاني، وقد كتب السير ويليام كروكس كتاباً عنه أثبت فيه صحة محاضراته.
وقد مات هوم عام 1886 وقد أربى على الخمسين وتزوج مرتين وقد اشتهر كثيرون غيره من أبطال هذا العلم، ستقرأ آثارهم في العدد القادم إن شاء الله.