مجلة البيان للبرقوقي/العدد 47/باب تدبير المنزل

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 47/باب تدبير المنزل

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 3 - 1919



طلب إلينا كثير من قرائنا الغيورين أن نفتح هذا الباب في البيان - وأن ننشر فيه الإرشادات النافعة والأمثلة العليا الصالحة لملكات البيوت والأسر السيدات في ضروب تربية الطفل - وتدبير الصحة والمنزل وما إلى ذلك.

كيف يربى الطفل

وقد رأينا أن ننشر اليوم خلاصة ما ذهب إليه علماء الدنيا السابقون واللاحقون من المبادئ التي نصحوا للإنسانية بضرورة إنفاذها في أكبر علوم الاجتماع، ونعني به التربية لتكون الفصول التي نعقدها هي جماع الطرائق الطلية ولب النظريات التي لا تحصى ولا تعد في فن التربية.

(1) - التربية ينبغي أن تبتدئ منذ ساعة الميلاد: لو أننا استطعنا أن تحدث جميع التطورات والتغيرات الاجتماعية التي تصبو إليها نفوسنا وأتعب المصلحون وطلاب الأمثلة العليا أنفسهم في سوق الناس إلى الدنو منها، لما عتمنا إذ ذاك أن نخيب في غرضنا، ولعجزنا عن مواتاة هذا التغيير والإصلاح ولانتكسنا نكسة مكروهة وعدنا رجعة سريعة رهيبة، وذلك أن الناس ليسو متساوين أعدالاً من ناحية المطالب الكمالية ولا تلبث الأخلاق والعادات والظروف المحيطة بالأفراد والمنازع النفسية أن تحل ما أنجزنا بالوسائل الآلية، وتفسد علينا ما فعلنا من التغيير الاجتماعي، فإن التربية المهملة في المبدأ لا يستطيع أحد إصلاحها من جميع وجوهها أو علاجها من جميع عللها، وكثيراً ما تؤدي المساعي التي نبذلها في تقويم اعوجاج الكبار وإصلاح نفوس الشبان إلى نتائج متباينة وغايات متباعدة غير متشابهة وهذا المبدأ ينطبق على جميع ما نشاهده من التجاريب فالفرد الذي تهدمت صحته منذ صغره لا يفتأ يعاني نتائج ذلك كوال حياته، ومهما احتاط لنفسه، واجتهد في العناية بصحته، وقد يعنى أكبر العناية بالإفراط في النظافة والتماس الهواء الطلق السليم للنقي، واختيار الطعام الطيب السريع الهضم واتخاذ الرياضات البدنية الصالحة ثم لا يزال يرى نفسه مع أولئك ضعيفاً مريضاً ضاوياً مهزولاً على أنك تجد الرجل القوي الجثمان الصحيح البدن قد يتمادى في إهمال نفسه، وإطراح العناية بصحته، ولا يكترث البتة بقوانين الصحة، ويضحك منها ساخراً، وينظر إلى العاملين على الاستمساك بأهدابها هازئاً ضاحكاً ثم لا نراه مريضاً ولا تلفيه يشكو من صحة أو علة أصابته، اللهم في أندر النادر، ومن ذلك تعلم أن بذل الجهد في العناية بأنفسنا، بلا مبدأ ولا احتفال من الصغر لا يفيد فتيلاً ولا يرد مرداً، وهذا يبعثنا على الاعتقاد بأن الأخلاق تجري هذا المجرى، وتصح عليها هذه الطريقة وهي تتبع السنن التي تنطبق على الطبيعة الإنسانية ومن هذا يتبين لك أن لا بد من البدء بتربية خلق الإنسان وشخصيته من ساعة الميلاد.

(2) - التربية ينبغي أن تسير على نظام معين، فإذا كانت الطبيعة قد هيأت لك وأغنت عنك أمر التطور الطبيعي لطفلك ونمائه الجثماني فقد تركت لك أن تنفذ مقاصدك ومبادئك التي تريد أن يشب عليها طفلك في كل مرحلة من مراحل هذا النماء فعليك أن تكون عليماً بالغرض الذي تريده والوسائل التي تستخدمها في تنفيذ هذا الغرض، فإن أي إنسان أوتي شيئاً من العقل والملاحظة يدرك أن التربية التي لا تجري على نظام، ولا تمشي على شيء معروف لا تحدث إلا اليأس، ولا تنشيء نتيجة طيبة، ولا تجدي أيما جدوى، ومثل ذلك كمثل رجل مصاب بزكام حاد وجعل يأخذ أدوية كثيرة ويحاول علاجاً كثير الألوان ثم يعجب لماذا لم ير للزمام دليلاً على أن سيهم بالرحيل عن أنفه والاختفاء عنه فمهما كانت نظريتك في التربية على جانب عظيم من الحسن والسداد والرجاحة فلا عون لك على الاستفادة منها إلا العناية الشديدة بإنفاذها واستخدام الذكاء واللباقة في اتخاذها، وغلا كانت النظرية الطيبة والنظرية الفاسدة المجنونة سيان من ناحية النتيجة، أما السآمة والضجر والقلق التي يعانيها المربي من جراء اتخاذه طريقة منظمة في تربية أطفاله فهي لا تكاد تذكر بجانب المتاعب التي يعانيها سواه من جراء إهماله إيجاد تربية على نظام معين فإن الأطفال مثلاً قد يصرخون ويصيحون طلباً لشيء من الأشياء أو طمعاً في قطعة من الحلوى أو ما أشبه ذلك، فلا يلبث الآباء أن يبرموا بصراخهم وينزعجوا من صياحهم فينزلوا لهم عن مطالبهم، فلا يؤدي هذا إلا إلى أن الأطفال يعتادون اتخاذ الصياح والبكاء الواسطة الكبرى لغاياتهم ومقاصدهم، ومن هذا كان كثيرون من الآباء بانقيادهم إلى أطفالهم وإذعانهم إلى صياح ولدانهم طلباً للراحة، وإبعاداً للانزعاج لا يصيبون من إذعانهم هذا إلا الألم والاضطراب العصبي ويجد الطفل نفسه أقل سعادة ورضا، إذ يفتقد المرشد والهادئ ويعوزه الحارس والرقيب ولكن كل ذلك يستطيع الناس اجتنابه إذا هم اختطوا لأنفسهم طريقاً صائبة طيبة في التربية تعمل على تهذيب الطفل، وتؤدي إلى الغرض الكمالي المطلوب، ومشوا على تلمك الطريقة، وجمدوا على تلك السنة، فلا يحيدون عنها ولا يعتسفون غيرها.

فإذا أنت اتخذت هذه الطريقة ولم تنزل للصبي أو الولد عن طلبته بصراخه وخوفاً من ضجته وصياحه، ألفيت نفسك في أول الأمر تعاني منها آلاماً شديدة وتجد منها رهقاً كبيراً، ولكن عليك أن تتحمل صابراً جميع تلك الآلام، وتضطلع بهذا الرهق راضياً، فإن الصحة الجيدة في الآباء وسيلة من وسائل تخفيف تلك الآلام، وإذا كان الآباء أقوياء الأعصاب استطاعوا أن يهزأوا بالألم ويتحملوا العناء غير ساخطين ومن هذا تدرك أن عليك في بادئ الأمر أن لا تكون قلقاً جموحاً مضطرب الأعصاب، تقابل صياح الأطفال بالصياح ويستصرخونك فتستصرخهم وعليك أن لا تتململ ولا تجزع من شقاوة أطفالك. بل يجب أن لا تقاوم أو تحاول استئصال النشاط الوثاب الصياح الصارخ المعول الذي تهب الطبيعة الأطفال في طفولتهم الأولى.

(يتبع)