مجلة البيان للبرقوقي/العدد 49/باب تدبير المنزل

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 49/باب تدبير المنزل

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 6 - 1919



تربية الطفل

(7) البيئة المنزلية - الجزاء والعقاب

يقولون إن الملك لا يستطيع أن يحدث شراً ويجوز لنا أن نردف هذه الكلمة بكلمة أخرى ولو أن السبب مختلف ووجه العلاقة متباين فنقول (ولا الأطفال كذلك) فعليك أن يكون هذا مبدأك في منزلك وإزاء أطفالك وأهل بيتك، وتعلم أن العقاب والتأنيب وما أشبه ذلك لا محل له من التربية ولا وجوب ولا ضرورة، بل ينبغي أن لا تكون في ثنايا روحك أية قطرة من الغضب أو ظل الانتقام، أو ريح العقاب والاقتصاص، وقد يجوز أن يفعل طفلك ما هو مسيء غير محمود، ولكن عليك أن تتذكر أنه لم يفعل ذلك وهو يعلم أنه مسيء وغير محمود، فلو أنك أدركت أن الأطفال أبرياء من الذنب ولم تجعل لهذا المبدأ أي استثناء ووطنت نفسك على أن تعتقد أن الأطفال لا يقصدون حقيقة الإساءة وارتكاب الذنوب، إذن لسهل عليك أمر التربية وذلك لك سبل التأديب.

وقد يخيل إليك على الرغم من أنك تعتقد أن طفلك لا يقصد حقاً الإساءة أن إظهار علائم الغضب أو أخذه بشيء قليل من القصاص أو نهره أو زجره كل أولئك قد يعلمه الفعال الحسن وترك الإساءة والشر، على أن هذا المبدأ لا يعمل إلا على إغراء الطفل بالإساءة وترغيبه في الشر والأذى، وقد دلتنا التجاريب على أن قولنا للناس (نرجو من مروءتكم وكرم عواطفكم) أفعل في نفوس الناس وقولنا (لا تفعلوا هذا وإياكم أن تقربوه أو حذار أن تقتحموه) وقد مررت يوماً بصديق لي بغابة قد كتب عند مكان منها لوحة تحتوي هذه الكلمات (الذين يجتازون هذا السور سيعاقبون) فلم يكن من صديقي إلا أن قال: (إذن فلنجتزه ولنمر على الرغم من هذا التهديد).

ومن هنا ندرك أن الرفق واللين والمعروف أفعل في نفس الصبي والشيخ من كلمة التهديد وألفاظ الوعيد، فإن اللهجة المهددة لا تزال لهجة مستحثة مستثيرة مغرية وإن قولك لإنسان (لا يلزم أن تفعل هذا) لا بد أن يثيره إلى إجابتك بالكلام أو بالفعل. بل سأفعل! لأن الطلب الرقيق المتأدب الكريم يخجل الإنسان ويغريه بإنجازه ويشجعه على تحقيقه، ولهذا يجب أن تكون فكرتك في تربية أطفالك أنك إزاء تلاميذ وأنك منهم مكان المعلم من صبيته ولهذ يلزمك رباطة من الجأش وضبط نفسك وبعد النظر حظ وافر. ومن هذا تعلم أن البيئة المنزلية يجب أن تكون بيئة السعادة والفرح والتهلل والكرم ووداعة الخلق لأن السعادة من الأثر في نماء أطفالك ما للشمس في نماء الزرع وعلم النبات.

وإذا كان ذلك كذلك فعلم أطفالك أن لا يجيبوا إنساناً على سؤال، ولو كنت أنت سائله إذا لم يقل من فضلك أو أرجو أو تكرم علي وإذا نسي أحد الناس أن يقولها إذا طلب شيئاً أو سأل رجاء وجعل يكرر السؤال ويلح في إعادة الرجاء ولا مجيب ولا جواب، كان ذلك باعث اللهو والمزاح حتى يتذكر السائل أنه لم يقلها فيقولها.

واعلم أن فعل السيئ وإحداث الشر والأمر الكريه قد يكون في أكثر الأحايين نتيجة الجهل وعدم إدراك وجه الإساءة، ولهذا كان خليقاً بك أن تعلم طفلك مثلاً كيف يجب أن يمسك الملعقة أو السكين وكيف ينبغي له أن يبلع الطعام، وعليك أن تجتهد جهد المعلم في تعليم الأطفال كل دقيقة وصغيرة وطفيفة، دون أن تفقد الصبر أو تتسخط أو تنوء بجانبك، لأن الطفل لا يعلم ماذا يراد منه، وما هذا إلا لأنه ليس سريع الفهم أو سريع النسيان، ولهذا لا يصح أن تتوقع أن العادة الطيبة الحميدة، قد تنال في أقصر مدة من الزمن لأن خلق عادة من العادات تقتضي في الغالب إزالة أخت لها أو شبيهة بها، فلو أنك استعجلت ولم تأخذ في الأناة في أمر تربية أطفالك على العادات، وكنت قلقاً غير مطواع الإرادة لما لبثت العادات الرديئة ن تجتمع وتحتشد حتى لا تفتأ تؤنب وتحذر وتنهر دون جدوى أو أية فائدة، ولا يكون من ذلك إلا أن أطفالك لا يلبثون أن يكتسبوا خلقاً مضطرباً فوضوياً ثواراً عاصفاً لم تكن تريده لهم.

وعلى العقلاء من الآباء أن يحلوا الصعوبات التي تعترض أمر تربية أطفالهم بالطريقة التي يسوون بها (دفاتر حساباتهم) أي واحدة فواحدة، كلما اعترضت وعلى فترات من الأيام.

وإذا أردت النجاح والتوفيق قصدت فعليك أن تعمل على خلق عادة أو عادات متشابهة في وقت واحد. فإنك إذا أكرهت صبيتك على حسن السلوك في أسبوع أو وصيتهم بعدة عادات في أيام معدودات فإنك غير حاصد من ذلك غلا الخيبة والألم والفشل، إذن فينبغي أن تجمع كل قوتك لخلق عادة أو عادتين في وقت واحد وترك غيرهما بعد إتمامها لوقت آخر.

إذا صح هذا فلا تطلب من بنيك شيئاً كثيراً لكي تتم لك طواعيتهم، ويستمعوا إليك جهد أسماعهم، ولا تجعل تعليمك إياهم على عادة واحدة شفيعاً لتعليمهم أشياء أخرى كثيرة ثم عليك أن تدع أطفالك يقدرون العادة المحمود حق قدرها ويعرفون السبب لماذا ينبغي أن يفعلوا الشيء الحسن، ويدركون شيئاً من علم النفس، كالذي حدث به أحد الناس عن طفلة في الخامسة أدركت معنى كلمة (علم النفس) إذ قالت أنه إذا كانت الأم أذعنت إلى صراخ طفلها ونزلت على حكمه خوفاً من استرساله في صياحه عما طلب، فلا يتنازل الطفل عن الصراخ كلما أراد من أمه شيئاً.

واعلم أن كل شيء سيسير في منزلك على نظام، إذا كنت من أهل الطبائع الوديعة، ولم تك ذا خلق ناري حاد ومزاج محتدم مضطرم فإنك لا تلبث إذ ذاك أن تجد العادات سريعة النشوء والاستتباب والتكوين. وتجد أطفالك يحبون تلك العادات واتباعها واللصوق بها لما تدخل على أنفسهم من الفرح وما في الإذعان إليها من الروحانية والراحة، وعلى نقيض ذلك ترى الشراسة والشدة والتقطيب والتجهم والاكفهرار لا تخلق إلا تحللاً ووهناً في الخلق أو طفلاً فاسداً سيئاً شريراً - إذن فعليك أن تكون مفراحاً متهلل الأسارير تر بنيك يتحملون الآلام بصبر في سبيل التخلق بحسن الأدب وتجد الآداب الفاضلة والعادات الطيبة لا تلبث أن تنمو وتزكو كما يزكو النبات في الأقاليم التي يسطع فيها نور الشمس وتهب عليها علائل الأرواح وفي أمثال هذا الجو لا تني تموت جراثيم الأمراض وتتحل من نفسها وتذبل وتتلاشى.