مجلة البيان للبرقوقي/العدد 49/قصة عجيبة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 49/قصة عجيبة

ملاحظات: قصة عجيبة Странная история هي قصة قصيرة بقلم إيفان تورغينيف نشرت عام 1869. نشرت هذه الترجمة في العدد 49 من مجلة البيان للبرقوقي الذي صدر بتاريخ 1 يونيو 1919



للكاتب الروسي الكبير إيفان تيرجينيف

قال هـ: منذ خمسة عشر عاماً اضطرتني واجبات خدمتي المصلحية إلى قضاء أيام قلائل في عاصمة إقليم ت. فنزلت بفندق جميل كان قد أقامه هنالك قبل قدومي بستة أشهر رجل يهودي اغتنى بعد فاقة. ولقد وجدت ذلك الفندق إذ ذاك في أوج بهائه إذ كانت أخشاب أثاثه الجديدة تتصدع أثناء الليل فتحدث انفجارات أشبه بدوي الرصاص. وكانت ملاءات الفرش وأغطية الموائد والمناضد والمناشف (الفوط) تفوح برائحة الصابون، وخشب الأرضية المنقوش يفوح برائحة الزيت الذي كان خادم الفندق - وهو رجل في منتهى التأنق وحسن الذوق ولكنه قليل العناية بمسائل النظافة - يره أحسم دواء لانتشار الحشرات. وقد كان هذا الخادم سابقاً في خدمة البرنس ج وكان مشهوراً بفرط جرأته وصراحته مع الزبائن وبفرط اعتداده بنفسه وعرفانه بعظيم قيمتها. وكان يلبس دائماً ريدنجوتاً (نصف عمر) وشبشباً قد أخذ البلى من نعله ويتأبط منشفة وعلى خديه عدة من الدمامل. وكان يلقي على الزبائن ملحوظاته القسرية الخطيرة مشيراً أثناء ذلك بيديه القاطرتين بالدهن والودك إشارة الخطيب المصقع. وكان يشملني بعين رعايته ويحمد مني فطنتي إلى عظيم مواهبه. وإدراكي خبرته بالحياة وسعة تجاربه. وكان اسمه أرداليون.

وفي أثناء إقامتي بهذه المدينة رأيتني مضطراً إلى زيارة بعض رجال الإدارة فاستحضر لي إرداليون عربة وسائقهاً كلاهما رث مفكك الأوصال ولكن السائق كان يلبس زي خدمة الأشراف وكانت العربة محلاة بشعار الأمراء. فبعد أن أديت زيارات يالرسمية انطلقت في العربة لزيارة رجل من أهل الريف كان من أصدقاء أبي وكان قد استوطن المدينة منذ عهد طويل وكنت لم أره منذ عشرين عاماً كان قد تزوج في خلالها ورزق عدة من البني ثم ماتت زوجته فترمل من بعدها وجمع ثروة وكان عمله يختص باحتكارات الحكومة أعني أنه كان يقرض المقاولين المشتغلين بالاحتكارات مبالغ بأرباح باهظة.

فبينا أنا في الحديث مع هذا الصديق إذ دخل علينا الغرفة فتاة صغيرى تقدم رجلاً وتؤخر أخرى ولا تكاد قدماها تلمسان الأرض من خفة وطئها. وهي في السابعة عشرة نحيفة القد مهضومة الحشا رقيقة البدن واهنة النبيان. وقال صاحبي (هاك كبرى بناتي - صوفيا.

اسمح لي أن أقدمك إليها. إنها تشغل مكان زوجتي المرحومة فهي تسوس البيت وتدبره وتعنى بشؤون أخواتها وأخوتها) فانحنيت مرة أخرى للفتاة (وقد ألقت بنفسها على كرسي دون أن تفوه بكلمة) وقلت في نفسي ما أبعد ما بين منظر هذه الفتاة وبين تدبير المنازل والعناية بشؤون الأخوة والأخوات. تالله ما لأمثال هذه الأمور خلقت هذه الفتاة. فقد كان وجهها مستديراً عليه سيما الطفولة، أعضاؤه صغيرة مستملحة لكنها جامدة الحركة - بعينين زرقاوين تنبعث منهما نظرة حادة دهشة مبهوتة كأنما قد بصرتا شيئاً غير منتظر. وكان فمها الصغير الممتلئ المتقلص الشفة العليا لا يبتسم بل يلوح عليه كأنه لا يعرف الابتسام مطلقاً. وكان صدرها يتنفس تنفساً ناعماً ليناً وذراعاها تستندان إلى خصرها النحيل بضغط شديد وبغير رشاقة وثوبها الأزرق مرسل على قدميها الدقيقتين وهو غفل من زخارف التكسير والتغضين كثياب الأطفال. فكان منظرها على العموم يقع من نفسي موقع الألغاز والمعميات. فرأيت فيها شيئاً أكثر من مجرد فتاة ريفية شديدة الحياء والهيبة - أجل رأيتها صنفاً وحيداً في ذاته، فريداً في صفاته، مغايراً لكل ما رأيت قبلها من صنوف الفتيات. ولكن ما هو هذا الصنف؟ ذلك ما لست أدري ول أستطيع أن أدري ولكن كل ما شعرت به هو أني لم أر في حياتي شخصية أشد وفاء وإخلاص من تلك الشخصية. ولئن سألتني أي عاطفة من عواطفي أثارها منظر الفتاة لقلت لك الرحمة. أحل - الرحمة والحنان هو الذي جاش في أعماق نفسي لرؤية هذه الروح الحية اليقظة المتحفزة الجادة المخلصة! الله وحده يعلم لماذا؟ إن الخواطر والأفكار التي جاشت بصدري لرؤية هذه الفتاة لم تكن من أفكار هذا العالم الأرضي الكثيف - ولكنها في العالم الروحاني وإن كان وجه الغادة خالياً من كل ما يصح أن يسمى معنى روحانياً وقد كان دخولها الغرفة لغير شيء سوى أداء تلك الشؤون المنزلية التي ذكرها أبوها.

شرع الوالد يتكلم عن طريقة العيشة في مدينة ت وملا امتازت به من ضروب الملاهي الاجتماعية والمنافع العظيمة فقال: نحن هنا في أتم سكينة وهدوء فمحافظ المدينة رجل مطراق كئيب ومارشال الإقليم رجل أعزب ولكن ستقام حفلة رقص عظيمة في قاعة الأشراف بعد غد. فيا ليتك تمضي إليها فإني كفيل لك أن تجد بها ما تشتهي من الفتيات الملاح والفتيان الأذكياء.

فقلت ملتفتاً إلى فتاة وأردت أن أسمع صوت لفظها أتريدين الذهاب إلى هذه الحفلة؟.

فأجابت: أبي ينوي الذهاب وسأكون معه.

فوجدت صوتها ليناً بيناً ووجدت ألفاظها صحيحة المخارج وهي تنطق الحروف بتأن وإشباع كالحائر في أمره.

قلت لها: إذا كنت ستصحبين أباك إلى هذه الحفلة فاسمحي لي أن ارقص معك الدور الأول فحنت رأسها إجابة قبولاً. ولكنها لم تبتسم حتى في هذه الآونة التي لا يسع المرء فيها إلا الابتسام.

ثم إني خرجت بعد هنيهة وتركتهما ولا أزال أذكر أن النظرة التي رمقتني بها إذ ذاك كانت من فرط الغرابة بحيث أني التفت خلفي لأرى هل هنالك شخص أو شيء تريده بتلك النظرة فلم أر شيئاً.

عدت إلى الفندق وبعد الغداء جلست على المتكأ وأطرقت أكفر، وكان موضوع تفكيري هو صوفيا هذه الفتاة اللغزية الغامضة الشأن ابنة صديقي الشيخ. ولكن إرداليون (خادم الفندق) أول إطراقي وتفكيري تأويلاً آخر حسب نطره الخاص فنسب حالتي هذه إلى الملل والسآمة. ً

فابتدأ القول بتعطفه المعهود وتنازله المعروف وهو في أثناء ذلك ينفض ظهور الكراسي بفوطة أكل قذرة - وهو كما تعلم أسلوب من أساليب التنظيف يمتاز به خدمة الفنادق ذوو التربية العالية (لا عجب ذا عرض لك الضجر والملل فإن بلدنا هذه قليلة الملاهي للزوار نعم قليلة الملاهي جداً - جداً.

ثم استرق نحوي نظرة من مؤخر عينه.

واستمر في كلامه فقال: ولكني أعرف سبيلاً للسرور والتمتع لو أنه يصادف منك قبولاً.

ثم رمقني بنظرة معنوية كالسالفة ولكنها ضاعت عندي كسالفتها ولم تبد على وجهي علامات القبول لما يريد أن يقترح.

ثم أن الخادم الراقي المهذب تقدم نحو الباب وأطرق هنيهة ثم عادة وبعد تحركه حركة قلق وتردد أقبل علي وانحنى على أذني وقال بابتسامة المداعب: ألا تحب أن ترى الموتى؟

فحملقت في وجهه بنظرة الحائر المندهش.

فاستمر في حديثه همساً فقال: أجل إن هنا رجلاً كالموتى، وهو صانع بسيط أمي لا يعرف القراءة ولا كتابة ولكنه يأتي بالمعجزات. فإذا ذهبت إليه فسألته أن يريك أي أصحابك الذين ضمتهم المقابر فتأكد أنه يريكه لا محالة.

ويكف يصنع ذلك؟

هذا سره فإنه على الرغم من جهله بل من كونه أمياً واسع العلم هائل المقدرة في المسائل الروحانية، وإن له لمكانة مكينة علينا عند طبقة التجار!.

قلت: وهل كل من بالمدينة يعرف هذا؟

قال: يعرفه من هو بحاجة إلى معرفته. ولكن لا أخفي عليك أنه يجب الاحتراس من البوليس لأن هذه المسائل محظورة محرمة مهما قلت في تبريرها والدفاع عنها وهي من دواعي الغواية للعوام أعني الرعاع وأنت اعلم أن الرعاع سراع إلى الملاطمة والملاكمة.

قلت: وهل أراك الموتى؟

فقال إرداليون وهز رأسه: نعم لقد استحضر أمامي أبي كما لو كان حياً.

فحدقت في وجه إرداليون فضحك وطفق يعبث بفوطته ونظر إلي نظرة تنازل وتعطف ولكن بمنتهى الثبات والصلابة.

قلت: هذا والله العجب العجاب! أما أستطيع التعرف بهذا الصانع.

قال: إنك لا تستطيع الذهاب إليه مباشرة ولكن بواسطة أمه وهي عجوز ذات رزانة ووقار تبيع المخلل على الكوبري فإذا شئت فاتحتها في الأمر من أجلك.

قلت: سألتك بالله أن تفعل.

فسعل إرداليون سعلة من رواء كفه وقال: ولا تنس أن الشيخة تأخذ مقداراً تافهاً من النقود - أي شيء طبعاً - وليس بالكثير - شيئاً لا يذكر. وسأبذل جهدي في تطمينها وتأمينها من جهتك فأعرفها أنك ضيف زائر لا غير. وأنك نبيل مهذب. وعليك بعد أن تعرف أن هذا سر خطير وأنه لا يصح لك بأية حال أن توقع الشيخة في أدنى كربة أو ورطة.

ثم إن إرداليون رفع الصينية بإحدى يديه ثم دورها واستدار معها هو بحركة رشيقة خفيفة وسار نحو الباب.

فصحت من ورائه وهكذا أعتمد عليك في هذا الشأن.

فمضى وهو يقول بصوت المغتبط السعيد: ثق بنا واعتمد علينا سنكلم العجوز في شأنك ونأتيك بجوابها.

انتظرت الجواب بفارغ الصبر فلما كان المساء دخل علي إرداليون فخبرني أنه لم يوفق إلى مقابلة العجوز ولكني دفعت بالرغم من ذلك ليرة على سبيل التشجيع فلما كانت صبيحة الغد عاد إلي فرحاً متهللاً وقال أن العجوز سمحت بمقابلتي، ثم صاح إرداليون بغلام صغير فقال:

يا صبي، يا غلام. .

فدخل طفل في السادسة من عمره مطلي كله بالهباب محلوق الرأس عليه رداء واسع ممزق وحذاءان تتيه فيهما قدميه من فرط السعة. وقال له إرداليون: أنت تعرف أين تذهب بالسيد وأشار نحوي. ثم التفت إلي وقال وأنت يا سيدي إذا بلغت المكان فسل عن مستريديا كربوفنا (اسم العجوز).

فهز الغلام رأسه إجابة وانطلقنا.

سرنا مسافة طويلة في طرقات المدينة ت التربة حتى انتهينا إلى أشدها وحشة وإقفاراً فوقف دليلي أمام دار خشبية وشرع يمسح أنفه المهبب في كم ردائه ثم قال (ها هنا اذهب يمينا) فولجت الباب إلى الدهليز الخارجي ثم ذهبت أتعثر نحو اليمين فإذا باب حقير منخفض قد بدأ يصر على مفاصله الصدئة وإذا أمامي شيخة عجوز بادنة ضخمة عليها ثوب أسمر مبطن بفرو الأرنب وعلى رأسها منديل ملون.

قلت مستفهماً: مستريديا كربوفنا

فقالت العجوز: هي هي في خدمتك ادخل يا سيدي، ألا تأخذ كرسياً؟

وكانت الغرفة التي أدخلتني فيها العجوز مزدحمة بكل أصناف الخرق البالية وسقط المتاع والوسائد والفرش والأكياس والركايب حتى لا تكاد تجد فيا مجالاً للحركة. وكانت أشعة الشمس لا تكاد تنفذ من زجاج نافذة صغيرة تربة. وسمعت من إحدى زوايا الغرفة ومن وراء كثيب من الصناديق المركومة فوق بعضها صوت ولولة وأنين ضعيف لم أدر ماذا كان مصدره - لعله طفل عليل أو لعله لعبة من اللعب الخشبية الصياحة. فجلست على كرسي وقامت المرأة بين يدي وكان وجهها مصفراً نصف شفاف كأنه صنع من الشمع.

وكانت عيناها الغائرتان الرماديتان تبثان نظرات اليقظة والذكاء والدهاء من تحت جبينها المشرف العظام. وكان أنفها الحاد بارزاً كالمغزل يتنفس هواء الله بنشاط وقوة وكأنه يقول: إني لذو قوة ونشاط. . وكان يفوح منها رائحة النبيذ.

بينت لها القصد من زيارتي فأصغت إلي وهي تطرف بعينها طرفاً متوالياً سريعاً ورفعا أنفها الحاد كأنه تهم أن تنقر.

وثم قالت: أجل أجل لقد حدثني إرداليون كاتسفيتش حديثاً كهذا إنك تريد أن تبصر آيات فاسينكا ولكنا لا نستطيع أن نثق يا سيدي العزيز لا نستطيع أن نثق. .

فقلت معارضاً: ولماذا أما من ناحيتي فاطمئني غاية الاطمئنان فلست مخبراً ولا جاسوساً.

قالت المرأة بسرعة: معاذ الله يا سيدي أستغفر الله ماذا تقول؟ أيدور بخلدك أنا نجرأ على اتهام جنابك بمثل هذه التهمة! وماذا يستطيع المخبر أو الجاسوس أن يبلغ عنا أو يعزو إلينا؟ أترانا نأتي خطيئة أو إثماً. كلا يا سيدي ما كان نجلي ليقترف المنكر قط. . وما هو من السحرة. . معاذ الإله والعذراء والسيد المسيح! وهنا صلبت العجوز مراراً إنه لأتقى الناس وأنقاهم وأقومهم بفرائض الصلاة والصوم ولهذا أفاض الله عليه من نوره ومن وحيه. وما يأتي نجلي من عنده شيئاً إنما هو من عند الله ومن نفحات الملكوت الأعلى.

قلت: وكذلك توافقين إذن خبريني متى ألقى غلامك؟

قالت العجوز وطرفت بعينها كما بينت لك ونقلت منديلها المطوي من كمها الأيمن إلى الأيسر.

هذا يا سيدي ما لا أقدر أن أحدد.

قلت: اسمحي لي يا مسيريديا كربوفنا أن أقدم لك هذا، ثم أعطيتها ليرتين.

فاختطفتها العجوز بأصابعها المسينة المعوجة التي هي أشبه شيء بمخالب البومة ثم دستهما بسرعة في كمها وأطرقت ملياً كأنما قد عزمت وأبرمت قراراً ثم ضربت بيديها على فخذيها وقالت لا بلهجتها السالفة ولكن بصوت أخشع وأخفت.

(ائت هنا الساعة السابعة مساء. ولكن لا إلى هذه الغرفة بل تفضل بالصعود إلى الدور الأعلى تجد باباً على يسارك فافتحه فإنه يفضي بك إلى حجرة خالية فيها كرسي فاجلس فيه وانتظر. ومهما تر وتسمع فلا تحدث أدنى حركة ولا تنبس ببنت شفة. بل لا تكلم ابني نفسه لأنه حديث السن وعرضة للنوبات العصبية. وهو سريع الفزع والهلع. ويروعه أدنى شيء حتى تراه يرتعش وينتفض كالعصفور بلله القطر يا لله يا لله.

فنظرت إلى مستريدا وقلت (تقولين أنه حديث السن، ولكن بما أنه ولدك. . .)

ولدي في الله فقط - في المذهب والطريقة وكم غيره من اليتامى أقوم عليهم وأنشر فوقهم ظلال عنايتي وأجنحة رعايتي. قالت هذا وأومأت برأسها نحو الركن الذي يصدر منه البكاء والأنين واستمرت فقالت يا لله والأم المقدسة العذراء! وهل جنابك فركت قبل المجيء إلى هنا أي أقاربك أو أصحابك المرحومين - لهم الجنة - تريد أن ترى؟ أرجع الفكرة كرة في سجل مرحوميك وعين من تشاء وأبقه في ذاكرتك من الآن حتى تقابل ولدي!.

قلت: أفلا أذكر لولدك اسم من. . .

قالت: لا لا لا تفه بأدنى كلمة. لمحدث بما في سرك مطلع على مكنون صدرك يأخذ من بنات أفكارك ما يحتاج إليه بعلمه الثاقب. وكل ما عليك هو أن تبقي صاحبك المرحوم في ذاكرتك. ولا تنس أن تشرب على الغذاء قطرة من النبيذ كأسين أو ثلاثاً فإن النبيذ لن يعدم نفعه وفائدته. ثم أن العجوز ضحكت وتلمظت بشفتيها وأمرّت يدها على فمها وتنهدت.

قلت لها ونهضت من الكرسي: وكذلك موعدنا الساعة السابعة.

قالت: الساعة السابعة يا سيدي الساعة السابعة.

استأذنت من العجوز وعدت إلى الفندق وما عندي شك في أنهم سيخدعوني ويجعلوني أضحوكة ولكني لم أدر ماذا يكون أسلوبهم في ذلك، وهذا ما أثار حيرتي وعجبي. ولما قابلت إرداليون لم أتبادل معه أكثر من كلمتين أو ثلاثاً إذ سألني وعقد جبينه: هل قابلتها؟ قلت: معم فصاح قائلاً: قاتل الله العجوز إنها كأدهى سياسي!.

ثم إني شرعت في تنفيذ وصية (السياسي) فرجعت الفكرة كرة في سجل أمواتي. وبعد تردد طويل وقع اختياري على شيخ كبير كان قد توفي منذ عهد بعيد وكان معلماً في حين ما وكان فرنسي الجنسية ولم يكن اختياري له دون غيره لجاذبية خاصة بل لأن شكله كان عجيباً نادراً فذاً لا يوجد له مثيل بين أشكال أناس اليوم بحيث يصبح تقليده من المستحيلات. فكان له رأس مفرط الضخامة وشعر أبيض منفوش وحاجبان أسودان كثيفان وأنف مقوس كأنف الصقر في وسط جبهته. وكان يلبس ريدنجوتاً أخضر ذا أزرة نحاسية ملساء وصدرية مخططة بياقة واقفة وكمين مهدبين فقلت في نفسي: أما لو آراني شخص معلمي القديم المسيو ديسير لأشهدن له بالبراعة في السحر!.

وفي أثناء الغذاء نفذت وصية العجوز فشربت من نبيذ لافيت من الطراز الأعلى - كذلك نعتها إرداليون بالرغم من أن مذاقها كطعم الفل المحترق وأنها أرسبت راسباً كثيفاً في قرارة كل كأس.

ولما كانت الساعة السابعة بالضبط كنت واقفاً حيال منزل العجوز وكان مغلق النوافذ موصدة مصاريعها ولكن بابه كان مفتوحاً فدخلت وارتقيت السلم المضطرب متمايلاً حتى بلغت الدور الأعلى ففتحت باباً على اليسار فوجدتني كما قالت العجوز في غرفة خالية واسعة. وكان على صفة النافذة شمعة من الشحم تبعث في المكان شعاعها الضعيف المتضائل، وإلى الجدار المقابل للباب كرسي من القش فأصلحت المشعة وجلست على الكرسي وبدأت أنتظر.

مضت العشر الدقائق الأولى بلا ملل - إنه لم يكن بالغرفة أدنى ما يلفت النظر ولكني جعلت برغم ذلك أنصت لكل صوت حادث وأحملق في الباب المغلق وكان قلبي يخفق وبعد العشر الدقائق الأولى مرت عشر أخرى ثم ثلاثة أرباع الساعة لم آنس حركة فيما حولي فسعلت مراراً لأعلن عن وجودي ثم دب الملل والضجر وهممت أن أترك المكان فمضيت نحو الشمعة لآخذها تضيء لي ظلمة السلم ثم تناولتها وبعد إصلاحها التفت أستقبل الباب للذهاب فما راعني إلا شخص رجل مسند ظهره إلى الباب وكان قد دخل بمنتهى السرعة والخفة فلم أحس بحركته.

كان هذا الرجل في برد أزرق وكان ربعة بادناً وكان واقفاً يداه مضمومتان وراءه ورأسه مطرق وهو يرمقني بحدة، وكان ضوء الشمعة المتضائل لا يمكنني من استجلاء سحنته تماماً، فكل ما بدا لي من شخصه هو خصل مجعدة كثيفة من الشعر مرسلة فوق جبهته وشفتان غليظتان مقلصتان قليلاً وعينان مبيضتان فهممت أن أخاطبه ولكني ذكرت وصية مستريدا وعضضت على شفتي واستمر الرجل ينظر إلي وأعجب شيء أني أحسست في قلبي إذ ذاك شيئاً كالخوف وشرعت في الحال أفكر في معلمي القديم كأني في ذلك مؤتمر بأمر آمر وبقي هو لدى الباب وجعل يتنفس تنفساً عسيراً ثقيلاً كهيئة المبهور من صعود جبل أو رفع ثقل بينما عيناه أخذتا تتسعان وتتمددان كأنهما تدنوان مني فشعرت بكربة وضيق تحت تأثير نظراتهما الحادة الثقيلة اللجوجة المهددة وتارة كنت أرى هاتين العيني تتوهج فيهما نار خبيثة باطنة أشبه شيء بما يتوقد في عيني كلب الصيد عندما يرمق أرنباً - وكذلك ككلب الصيد أيضاً جعل هذا المخلوق يقفو بنظراته نظراتي عندما أحاول تحويلهما عن شخصه.

وعلى هذه الحال مر علينا لا أدري كم من الزمن - لعلها دقيقة أو لعلها ربع ساعة، وأنه لا يزال يحملق إلي وأنا لا أزال أشعر بكربة وضيق ووحشة ولا يزال دهني يذكرني بذلك المعلم الفرنسي المتوفي، وقد حاولت مرتين أن أقول لنفسي ما هذه السخافات والترهات، وحاولت أن أبتسم وأهز كتفي استخفافاً بالأمر واستهزاءً - وحاولت كل ذلك ولكن عبثاً حاولت! لقد تسلطت على نفسي قوة خفية فسدت ينابيعها وجمدت غدرانها - قوة لا أرى ما هي ولا أعرف ماذا أسميها. فإني لكذلك إذ رأيت الرجل قد ترك الباب بغتة وصار بموضع أقرب مما كان فيه بمقدار خطوتين ثم وثب وثبة خفيفة بقدميه معاً فصار أقرب، ثم فعل مرة ثم أخرى، والعينان المهددتان أثناء ذلك مثبتتان في وجهي معقودتان به واليدان لا تزالان مضمومتان إلى خلف والصدر العريض يتنفس ويتنهد بحالة المتألم، فرأيت في هذه الوثبات من السخافة ما هو جدير بالضحك ولكني بقيت برغم ذلك خائفاً وجلاً، وأعجب من ذلك أني أحسست ثقلاً كثقل النعاس قد استولى عليّ بغتة، فاشتبكت أهدابي بعضها ببعض. ثم أن الشبح الأشعث المبيض العينين الأزرق الثوب بدأ أمامي مزدوجاً قم تلاشى البتة فهززت نفسي فإذا هو قد عاد ماثلاً بيني وبني الباب ولكن أقرب إلي من ذي قبل - ثم تلاشى ثانياً - كأنما قد سقط عليه من الضباب ثم ظهر ثانياً ثم تلاشى ثم ظهر وفي كل مرة يتقدم ويقترب وإذ ذاك أحسست أنفاسه العسرة المبهورة تهب علي ثم سقط الضباب ثانياً ومن جوف هذا الضباب أبصرت رأس معلمي القديم الشيخ ديسير يتكون ويأخذ شكلاً واضحاً جلياً - بادئاً بالشعر الأبيض المنفوش! أجل وربك لا مجال للشك فهاك حاجبيه الكثيفين وهاك ثؤلولته وهاك أنفسه المقوس! وهاك ريدنجوته الأخضر النحاسي الأزرار وصدريته المخططة عند ذلك صرخت ونهضت، فتلاشى الشبح من أمايم ورأيت مكانه الرجل ذا الثوب الأزرق ثانياً - فسار متعثراً نحو الجدار فاسند إليه رأسه وذراعيه ثم تنهد كالفرس المكدود المحمل فوق طاقته وقال بصوت أبح (الشاي!) فما راعني إلا شخص العجوز مستريدا وقد طارت إليه سريبعة - لا أدري كيف جاءت بهذه السرعة المدهشة، فأقبلت عليه وهي تقول بصوت المتلهف فاسنكا! فاسنكا ما بالك وماذا تريد؟. ثم أخذت تمسح العرق المتحدر من وجهه وشعره فهممت أن أدنو منهما ولكنها قالت بصوت متوجع يفتت الأكباد: كلا يا سيدي العزيز رحمة من لدنك وحناناً مكانك! اذهب يا سيدي انطلق. فأخذتني الشفقة ورق قلبي لفرط ولهها فأطعتها والتفتت هي إلى ولدها فقالت له بصوت خافت لين: يا ولدي العزيز يا كاسب الرزق ومصدر الخير سيجيئك الشاي في الحال - في التو واللحظة وأنت يا سيدي يحسن بك أن تتعاطى كوبة من الشاي في منزلك.

فلما بلغت منزلي أعني الفندق طلبت كوبة من الشاي عملاً بنصيحة مستريدا وكنت أشعر بتعب بل بضعف ووهن.

وقال لي إرداليون: خيراً هل ذهبت إلى هناك؟ هل رأيت شيئا؟.

قلت له: نعم لقد أراني بالفعل شيئاً لم يكن في الحسبان.

قال إرداليون: إنه لصاحب آيات ومعجزات وله منزلة سامية في نفوس طائفة التجار.

ولما ذهبت إلى الفراش وجعلت أتدبر ما وقع لي بد لي أني قد توصلت إلى حل مقبول لذلك المشكل العويص. وهو أن ذلك الرجل فيه قوة مغناطيسية عظيمة وأنه أثر على أعصابي بوسيلة لا أدري ما هي فأثار في ذهني صورة الشيخ المعلم الذي كنت أفكر فيه ظاهرة في أقصى منتهى الجلاء والوضوح حتى خيل إلي أني أبصره أمام عيني وقد أقر العلم الحديث نظرية هذه التنقلات الحسية. لا أنكر أن هذا حل لا بأس به ولكني لا أزال أرى أن القوة القادرة على إحداث أمثال هذه التأثيرات والنتائج لهي شيء مجهول خفي. معجز لغزي. ومهما قال القائلون في تفسير هذا الحادث وتأويله فإنه لا ينقص من هوله وغرابته. ومهما كثرت التعليلات العلمية والبيانات الفيزيولوجية والبسيكولوجية فلقد رأيت بعيني رأسي معلمي المقبور ماثلاً أمامي كما كان في حياته!.

في غد ذلك اليوم أقيمت حفلة الرقص في قاعة الإشراف. فزارني والد صوفيا وذكرني بموعدي الذي عقدت مع ابنته. فلما كانت الساعة العاشرة مساءً كنت واقفاً إلى جانبها في مرقص مضاء بعدة مصابيح نحاسية أتهيأ لأداء فريضة الرقص على نغمات الموسيقى الحربي. وكانت القاعة غاصة بجمهور من الناس بينهم عدد عديد من الغانيات الحسان. ولقد كانت رفيقتي جديرة أن تفضل وتقدم على سائرهن وتعطى المكان الأول من بينهن لولا ما كان يشاهد في عينيها من تلك النظرة الغريبة المستوحشة المولهة. وقد لاحظت عليها أن عينيها لم تكن تطرف البتة. وأن معاني الإخلاص والوفاء التي كانت تنطق في عينيها لم تستطع أن تمحو سوء أثر تلك النظرات الغريبة الخارقة للعادة. ولكنها كانت مع ذلك رشيقة القد مستملحة الحركات مع شيء من الثقل والتقيد. ولما كانت في أثناء الرقص تستلقي قليلاً إلى الوراء وتميل جيدها الأغيد شطر كتفها الأيمن كأنها تحاول التخلي عن رفيقها لم يكن ثمت في الوجود شيء هو ألذ وطرب وأجلب للهوى. وأدعى إلى الصبا. وكان عليها حلة بيضاء مزدانه بصليب من الفيروذج على شريط أسود.

ثم سألتها دوراً ثانياً من الرقص وحاولت أن أحادثها فكانت أجوبتها ثقيلة تدل على عدم رغبة في الكلام وإن كانت لم تقصر في حسن الإصغاء والالتفات وعلى وجهها أثناء ذلك علامات عزوب الذهن واستغراق الفكر كالذي شاهدت فيها أول ما رأيتها. هذه الفتاة لم يكن يرى عليها أقل دلالة على الغربة في إيناس جليسها وتسلية عشيرها مع غضارة شبابها وجمال منظرها - لقد كان ثغرها لا يعرف السبيل إلى الابتسام والضحك وكانت عيناها مع دوام نظرهما إلى مخاطبها كأنهما تنظران إلى شيء آخر قد شغلتا به عن كل ما عداه. ما أعجب هذه الفتاة! ولما أعيتني الحيل إلى استمالتها واستلانتها فكرت في إخبارها بحادثتي السالفة.

فأصغت إلي باهتمام ولكن الحديث لم يثر في نفسها من الدهش والاستغراب ما كنت أتوقع، فكان كل جوابها هو: أليس اسم هذا الرجل فاسيلي؟ فتذكرت أن العجوز نادته بالأمس فاسينكا فقلت بلى إن اسمه فاسيلي، أعترفينه؟.

قالت: إن بهذه المدينة رجلاً قديساً اسمه فاسيلي فلعله هو.

قلت: لا دخل للتقديس والقداسة في هذا الموضوع فإنه لا يعدو كونه تأثير المغناطيسية وهو موضوع يهم الأطباء وعلماء الفيزيولوجيا والبسيكولوجيا.

ثم شرعت أشرح نظرية القوة المسماة المغناطيسية أعني إمكان تسليط إرادة إنسان على إرادة أخرى وإخضاع الثانية للأولى وهلم جرا، ولكن شروحي وإيضاحاتي - التي كان بها ولا شك شيء من الخلط والتشويش - لم تحدث أدنى تأثير في نفس الفتاة، وجعلت تصغي ويداها المقبوضتان ملقاتان على ركبتيها وفيهما المروحة لا تحركها ولا تعبث بها كعادتها، وشعرت كأن كلماتي كانت تقع عليها فترتد عنها إلي كما لو كانت تمثالاً من الرخام، لقد كانت تسمع هذه الكلمات ولكنها كانت تعتقد اعتقادات أخرى ليس في قوة اللغة والإقناع إبطالها وإزالتها.

قلت لها: ما أراك ممن يعتقد بالمعجزا!.

قالت: بلى أعتقد بها ارسخ اعتقاد وكيف يستطيع الإنسان غير ذلك، ألم ينبئنا الإنجيل أنه من آمن بالله مثقال ذرة استطاع أن يزحزح الجبال عن مواضعها؟ وما على المرء إلا أن يؤمن حتى يستطيع أن يأتي المعجزات!.

قلت لها: الظاهر أن الإيمان في هذا الزمان قليل وعلى كل حال فنحن لا نزال نسمع بحدوث المعجزات.

قالت: ومع ذلك فإن المعجزات تحدث، أفلم تر بعينك، كلا! لم يفن الإيمان بعد من العالم، ورأس الإيمان. . .

فقاطعتها قائلاً: رأي الحكمة مخافة الله.

فاستمرت صوفيا فقالت: رأس الإيمان إذلال النفس وقهرها وامتهانها.

قلت: أو يبلغ الأمر الإذلال والامتهان؟

قال: أجل إن كبرياء الإنسان وغطرسته وغروره وزهوه - هذه هي أحق الأشياء بالإبادة والاستئصال، إنك قد ذكرت الإرادة في كلمتك السالفة - هذه الإرادة هي ما يجب أن يسحق ويمحق.

فتأملت شخص الفتاة الصغيرة التي جعلت تنطق بهذه الكلمات. . فقلت في نفسي: وايم الحق إن هذه الطفلة لتصدر القول عن أعماق نفس جادة صادقة لا تقول إلا ما تعتقد.

ثم نظرت إلى من حولي من الراقصين فخيل إلي أنهم يجدون مسلاة وملهاة فيما يبدو على إذ ذاك من علامات الدهشة والاستغراب بل لقد لمحت أحدهم يبتسم إلي ابتسام من يشاطرني عواطفي ويشاركني مشاعري كأن لسان حاله يقول لي: ليت شعري ما رأيك في فتاتنا الغريبة الأطوار والأحوال ليس في هذا المكان إلا من يعرف نزعاتها وأميالها وأفكارها وآراءها.

والتفت إلى صوفيا فقلت: وهل حاولت سحق إرادتك ومحقها؟.

فقالت بلهجة العنيد المستبد برأيه: كل امرئ ملزم أن يفعل ما يظنه الصواب.

قلت بعد فترة قصيرة من السكوت: اسمحي لي أن أسألك هل تعتقدين بإمكان استحضار الموتى؟.

فهزت صوفيا رأسها وقالت:

ليس هناك أموات.

قلت: ماذا تقولين؟

قالت: ليس هنالك أرواح ميتة. الأرواح لا تموت البتة وهي تستطيع أن تظهر متى شاءت. . وهي أبداً ترفرف علينا وتحوم حولنا.

قلت: عجباً!! أتظنين مثلاً في هذه اللحظة أن يجوز أن تكون إحدى الأرواح الخالدة حائمة حول رأس ذلك الضابط الطويل ذي الأنف الأحمر؟.

قالت: ولم لا؟ إن ضوء الشمس ليسقط عليه وعلى أنفه الأحمر أفليس ضوء الشمس وكل ضوء غيره من الله؟ وماذا تهم المظاهر؟ إن الرجل النقي يرى كل شيء نقياً، وكل ما يحتاج إليه المرء هو الاهتداء إلى معلم - إلى قائد مرشد.

قلت لها: ولا أنكر أن قولي كان يشوبه شيء من الهمز واللمز (معذرة معذرة. . تقولين أنك في حاجة إلى القائد والمرشد. . فما فائدة قسيسك إذن؟.

فنظرت إلي نظرة فتور وجمود ثم قالت: أتريد أن تسخر مني وتضحك؟ إن قسيسي ينبئني بما ينبغي علي أن أفعل، ولكن الذي أحتاجه هو قائد يريني بأفعاله كيف يضحي الإنسان بنفسه!.

وهنا رفعت الفتاة عينيها إلى السقف، فأذكرني وجهها الصبياني وما عليه من دلائل عزوب الذهن واستغراق الفكر وسيما الدهشة والحيرة الخفية المستمرة صورة عذراء روفائيل.

قم استرسلت في حديثها فقالت ولم تلتفت نحوي ولم تكد تحرك شفتيها: لقد قرأت في بعض الكتب حديثاً عن رجل كبير القدر عالي المنزلة أنه أوصى أن يدفن بعد مماته تحت عتبة كنيسة إن كل من دخل الكنيسة يدوس عليه بقدمه - فهذا ما يجب على الإنسان أن يفعله في حياته.

وعنا ارتفعت أصوات الطبول من فرقة الموسيقى (بوم! بوم! ترا - را - را!) ودوي طنينها، ولا اخفي على القارئ أني رأيت ذلك الحديث الذي دار بيني وبين الفتاة أثناء الرقص ضرباً من الشذوذ، على ا، الخواطر التي أثارها في نفسي لم تكن في شيء من العواطف الدينية ففرحت بتقدم أحد الحاضرين إلى رفيقتي لترقص معه إذ كان في ذلك إيقاف للخوض في أمثال هذه الموضوعات.

وبعد ربع ساعة أوصلت الآنسة صوفيا إلى والدها. وبعد يومين غارت مدينة ت. وما هي إلا أيام قلائل حتى سقط على ذاكرتي صورة الفتاة ذات الوجه الصبياني والروح المحصنة المنيعة التي لا تخترق حجبها الظنون ولا تنفذ إلى لبابها الأوهام.

مضى على ذلك عامان ثم اتفق أن هذه الصورة عادت فجأة إلى ذاكرتي وبيان ذلك أني كنت أحادث وميلاً لي كان قد عاد حديثاً من رحلة في جنوبي روسيا قضى أثناءها برهة في مدينة ت فجعل يسرد لي أخباراً عن هذه البلدة وما حولها إلى ان قال: خبرني هل تعرف شيئاً عن ف. ج. ب؟

قلت له: أعرفه بالطبع

قال: وابنته صوفيا، أتعرفها؟

قلت: بلى قد رأيتها مرتين.

قال: أليس من أعجب العجائب أن هذه الفتاة قد فرت من بيت أبيها؟

قلت: وكيف كان ذلك؟

قال: لست أدري وكل ما أعلم أنها اختفت منذ ثلاثة أشهر ولم يسمع عنها شيء حتى الآن. وأعجب ما في الأمر أنه لا يعرف مع من فرت؟ لقد رفضت كل طالب وردت كل خاطب. وكانت في سلوكها مثال الطهر ونموذج العفاف. ويلي ثم ويلي من أولئك الفتيات المتدينات! ومن أكبر البلية أنه قد انتشرت عهنها في أنحاء الإقليم إشاعة سوء وأصبح عرضها هدفاً لسهام القذف والقدح ومخاضاً للألسن الشتامة. والشفاه النمامة. وقد راح أبوها رهينة الكمد واليأس. وإني لأعجب ماذا كان سبب فرارها. لقد كان أبوها لا يضن عليها بشيء وكان حريصاً على إجابة مطالبها وقضاء مآربها. وأعجب من كل ذلك أن جميع ربات الخلاعة والتبرج من فتيات الإقليم باقيات في دور آبائهن لم تهرب منهن واحدة.

قلت: وللآن لم يعثروا عليها؟

قال: يعثرون عليها؟ كلا وما أظنهم يجدونها ولو غاصوا عليها في قرار المحيط! وماذا يهم ضياع مثلها! سينقص عدد الوارثات المثريات واحدة، وهذا أسوأ ما في الأمر.

أدهشني ذلك النبأ غذ كان لا ينطبق على ما بقي في ذاكرتي من صورة صوفيا. ولكن الحادثات تكون. وليس في هذا الحياة مستحيل ولا مستبعد. والدنيا أم العجائب.

بلى أنها الأيام أصبحن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب

في خريف هذا العام ذاته ساقني القدر ثانياً بمناسبة الأعمال الرسمية إلى إقليم س المجاور لإقليم ت. وكان الجو مطيراً. والبرد زمهريراً فنزلت أثناء سفري في بعض محطات البريد وكان الوقت قرب المساء وكنت قد بلغت من النصب والإعياء ما عزمت معه على قضاء الليلة في فندق المحطة. فأعطيت فيه غرفة ذات كنبة خشبية مهدمة وأرض منحدرة وجدران مغشاة بورق بال ممزق وكان يفوح في أرجائها خليط من رائحة البصل وحصر القش وزيت النفط. وتزدحم طوائف الذباب على كل ما فيها. ولكني بها على كل حال ملاذاً من الريح العاصفة. ومعاذاً من الديمة الواكفة. فطلبت زجاجة نبيذ واتكأت على الكنبة وأطلقت العنان لخواطري وأوهامي.

فإني لكذلك إذ طرق أدني صوت خبطات ثقيلة في الحجرة العمومية التي كان يفصلها عن غرفتي حاجز من الخشب وكانت هذه الخبطات مشفوعة برنات معدنية متولية كطنين السلاسل ثم فاجأ مسمعي صوت مذكر خشن يقول: بارك اله في كل من يسكن هذا النزل! بارك الله فيهم! بارك الله فيهم آمين. . آمين بدد الله شمل أعدائهم! وكان في الصوت تمتمة وحشية وتقطع مستنكر. . ثم سمعت زفرة شديدة وسقوط جسم ثقيل فوق مقعد مع طنين السلاسل الآنفة الذكر وانبرى الصوت يقول: أكولينا! خادمة الله! تعالي إلى هنا. إني في أطمار رثة وأسمال بالية ولكني مغمور ببركة الله. مشمول برحمته ورضاه. رحماك اللهم يا ارحم الراحمين يا أرحم الراحمين! يا خالق هذا الجسد انظر إلى عجزي وتقصيري أو - هو - هو - ها - ها. . . تفو! اللهم اغمر هذا المنزل بفيض إحسانك وإنعامك.

فقلت مستفهماً من ربة الفندق وهي داخلة علي بزجاجة النبيذ: من هذا؟

فقالت بخفوت وسرعة: هذا يا سيدي رجل من الصالحين الأبرار المقدسين وهو حديث العهد في بلدتنا. وقد ومن علينا بالزيارة في مثل هذا الجو العاصف الواكف وإن قطرات البلل لتتحدر من ثيابه كالجدول! وعليه من السلاسل ما لا يطيق حمله مخلوق.

واستأنف الصوت دعواته فقال رحة الله وبركاته! أكولينا رهيبي أكولينا كولينوشكا صديقتي وخليلتي! أين جنتنا وفردوسنا؟ اين جنة نعيمنا وفردوس لذاتنا؟ في القفار الموحشة فردوسنا وجنتنا. . الغبطة والرخاء والسعادة لهذا المنزل. . . أو. . . أو. . . أو) ثم جمجم الصوت بكلام غير مبين وتثاءب تثاؤباً طويلاً ثم ضحك ضحكة خشنة بحاء وبصق بصقة شديدة.

قالت ربة الفندق كأنما تحدث نفسها وكلها إصغاء والتفات عند الباب: وا أسفاه إن الرجل المقدس ينثر الدعوات الصالحات على من حوله وأنا معمزل عنه أحرم من عظيم بركاته وكريم نفحاته تالله لأهرعن إليه.

ثم انطلقت من الغرفة بسرع من لمح البصر.

وكان في الجدار شق فوضعت عيني عليه فرأيت الرجل الموسوس جالساً على مقعد وظهره لي فلم تأخذ عيني منه سوى رأس ضخم أشعث في مثل حجم المرجل الكبير وظهر عريض محني في قميص مرقع. وكانت تركع على الأرض بين يديه امرأة نحيفة رقيقة في مثل رداء طبقة الصانعات وقطرات البلل تتصب من ردائها وعلى رأسها منديل أسود وقد تدلى إلى عينيها. وكانت تحاول انتزاع نعلي الرجل المقدس وأصابعها تزل وتزلق من فوق الجلد الوحلي المبلول. وكانت ربة المنزل واقفة إلى جانبها مضمومة اليدين على صدرها تنظر إلى (ولي الله) بعين ملؤها الخشوع والإجلال والهيبة وهو يجمجم كما أسلفنا بألفاظ معجمة غير واضحة المخارج.

وأخيراً استطاعت المرأة أن تخلع النعلين وكادت من شدة الجذب أن تقع على ظهرها ولكنها تداركت نفسها وشرعت تحل لفائف الخرق البالية المطوية حول ساقي الرجل الشريد. وكان في بطن قدمه جرح بليغ فزويت وجهي تأففاً.

وقالت له ربة المنزل بصوت تذلل وخشوع: ألا تأمرني آتيك بكوبة من الشاي يا عزيزي؟.

فأجاب الرجل المقدس بلهجة الهازئ: ما أجمل هذا الرأي! أنت تريدينني على مضاء شهوات الجسد المجرم الأثيم؟ أو - هو - هو! إنما الواجب على المرء أن يحطم عظام جسده الأثيم! ولكني أراها تدكر الشاي! أجل أيتها المرأة البرة الكريمة إن للشيطان علينا لسلطاناً أي سلطان. وأرانا مهما قاتلناه بكل ما لدينا من الوسائل كالجوع والعطش وبالبرد وبالقيظ وبكل هام من القطر سجاج. وكل هاطل من البرد الملحاح - فلن نؤثر فيه شيئاً. ولا يبرح بعد كل ذلك كما كان شدة بأس. وصعوبة مراس، وحولاً وقوة، وصولة وفتوة. فتذكروا يوم تشفع لكم العذراء ستعطون يومذاك كل الخير، وتحمون من كل الشر!.

فلم تملك ربة النزل أن ارسلت زفرة لإعجاب خافتة.

واستمر الشريد فقال: أيها القوم أعيروني أذناً صاغية، وقلوباً واعية! أنفقوا في سبيل الله من كل ما لديكم تصدقوا برؤوسكم تصدقوا بقمصانكم إذا سئلتم فأعطوا وإذا لم تسألوا فأعطوا. لأن الله يبصر كل شيء وليس تخفى عليه خافية. أترون أنه يصعب عليه تهديم سقوفكم. . لقد أعطاكم الخبز من فضله فاخبزوه في أفرانكم. إنه على كل شيء مطلع! مطـ. . . . طـ. . . . . . . لع! من ذا الذي عينه في المثلث؟ من. .؟ من. .؟ خبروني عين من.

فصلبت ربة النزل في خفية تحت مبذلتها وصاح المجنون المتصوف مردداً قوله مراراً وهو يصرف نابه حنقاً وغيظاً: إن العدو القديم (الشيطان) صخرة صماء! صمـ،. . . . . . . ماء!. . . صمـ. . . . . . ماء! تباً للأفعوان الصل! تباً للحية الرقشاء ولكن الله سيثور ويبدد شمل أعدائه. . . . هاـ هاـ تفوه!.

وهنا سمعت صوت آخر خافت يقول همساً: هل عندكم زيت أعطوني قليلاً أصبه على الجرح،. . وعندي خرقة نظيفة. .

فنظرت من الشق فرأيت المرأة التي تصحب الشريد لا تزال تعالج الجرح في قدمه فقلت في نفسي (هذه مجدولين جديدة فيما أرى).

قالت ربة الفندق: سآتيك به سريعاً يا عزيزتي. ثم أنها دخلت غرفتي فأخذت ملعقة زيت من المصباح المشعل أمام صورة العذراء.

قلت لها مستفهماً: من تلك التي تعنى به وتعالج جرحه؟.

قالت: لا تعلم يا سيدي أظنها أيضاً تريد التوبة والخلاص والتكفير عن خطاياها وسيئاتها. ولكن أي رجل مقدس هذا الرجل!.

في أثناء ذلك كان المجنون المتصوف يردد الكلمات التاية (أكولينوشكا - ابنتي المحبوبة - طفلتي العزيزة) ثم أجهش بالبكاء.

عند ذلك رأيت المرأة الراكعة تحت قدميه ترفع إليه عينيها. . . يا لله! لقد أذكر أني رأيت هاتين العينين قبل اليوم. . ولكن أين!

وانطلقت ربة الفندق إليها بملعقة الزيت فأخذتها وأكملت علاجها ثم نهضت واقفة وقالت: هل عندكم مصطبة نظيفة وشيء من الحشيش (وهو الكلأ اليابس). . إن فاسيلي نيكاتيتيش بطيب له النوم على الحشيش.

قالت المرأة: أجل عندنا. امض معي. . ثم التفتت إلى الرجل المقدس فقالت: امض معنا يا عزيزي لتجفف ثيابك وتستريح.

فسعل الرجل وقام من مقعده في بطء - وسمعت أنين سلاسله ثانياً - ثم استدار حتى واجهني وجعل يتأمل صورة العذراء ويصلب على صدره.

فعرفته في الحال وعلمت أنه هو عين ذلك الصانع فاسيلي الذي أراني صورة معلمي المتوفى!

وكانت له لحية كثة ملبدة. وكان عليه ثياب رثة بالية وله سحنة وحشية مولهة حائرة. فكانت هيئته أبعث على النفور والاشمئزاز منها على الذعر والرعب وجعل هذا الرجل العجيب يدير عينيه الذاهلتين في أركان المكان وفي أرضه كمن ينتظر شيئاً.

وقالت المرأة الت يمعه: فاسيلي نكتيتش سير معي يا عزيزي.

فرفع الرجل رأسه بغتة والتفت ولكنه عثر فتمايل. . فهرعت إليه رفيقته في الحال وأخذت بعضده. . وكان صوتها وشكلها يدلان على حداثة سنها. أما وجهها فكان لا يكاد يرى.

وقال الرجل الشرير مرة أخرى بصوت رعش مرتجف وفمه مفتوح عن آخره وهو يضرب صدره بقبضة يده (أكولينوشكا صديقتي!) ثم زفر زفرة شديدة خرجت من أعماق صدره.

وغادرت الغرفة ربة المكان ومضى الرجل ورفيقته على أثرها.

واضطجعت على الكنبة وفكرت ملياً فيما رأيت. إن الرجل المغناطيسي قد أصبح مجنوناً دينياً (مجذوباً) إلى هذا الحد قد أوصلته القوة العجيبة التي لا يسع الإنسان إلا الاعتراف بها!.

في غد ذلك اليوم قال لي خادم الفندق: هل رأيت يا سيدي أمس الجوالة الموسوس؟

قلت: نعم وماذا في ذلك؟

قال: ورأيت رفيقته أيضاً؟

قلت: نعم رأيتها.

قال: إنها لسيدة صغيرة من أسرة شريفة.

قلت: ماذا تقول؟

قال: إنما الحق يا سيدي لقد نزل هنا اليوم جماعة من التجار وقد عرفوها، وقد خبروني باسمها ولكني نسيته.

فأثارت كلمته هذه في خاطري ذكرى كلمح البرق.

قلت له: أو لا يزال الجوالة هنا.؟

قال: بلى، وما أظنه قد رحل بعد.

قلت: وهل السيدة معه؟

قال: أجل قائمة في خدمته.

ذهبت إلى السلم فصوبت النظر إلى الجوالة المجذوب فوجدته جالساً فوق مقعد على باب الفندق منحنياً ضاغطاً بكلتا يديه على مقعد يهز رأسه المنكس يمنة ويسرة كأنه الوحش البري في قفصه، وكانت خصل شعره الكثيفة تغطي عينيه وتهتز من جانب لآخر وكذلك كانت شفتاه الغليظتان اللتان كان يخرج منهما همهمة مما لا يفوه به آدمي وكانت رفيقته أمامه حاسرة الرأس (كانت قد غسلت رأسها وهي تهم أن تجففه بمنديل، فما هو إلا أن وقعت عيني عليها وهي على هذه الحال حتى رفعت يدي نمحو السماء تعجباً. . ماذا أرى! هذه صوفيا واقفة أمامي.

والتفتت صوفيا بسرعة وشخصت إلي بعينيها الزرقاوين جامدتين لا تطرفان كدأبهما أبد الدهر. وكانت قد هزلت ورق بدنها كثيراً واخشوشنت بشرتها ولوحت الشمس وجهها وأشحبت لونها ولكن جمالها مع ذلك لم ينقص. . غير أن سيما الحيرة والاندهاش الذي لا يفارق وجهها أصبح الآن مشفوعاً بمعنى آخر - معنى اعتزام وجد وجرأة وتسام وترفع - وقد زال عن وجهها كل أثر لمعاني الحداثة والطفولة.

فذهبت إليها وصحت قائلاً: صوفيا فلاديميروفانا! أو يمكن أن تكوني أنتي صوفيا! وفي مثل هذا الثياب. . ومع مثل هذا الرفيق!.

فانتفضت مذعورة وحملقت في وجهي كأنما تريد أن تعرف من ذا الذي يخاطبها ثم استدارت فجأة وأسرعت إلى رفيقها دون أن تنطق بكلمة.

وقال المجذوب بصوت ملجلج ملعثم وزفرة شديدة

أكولينوشكا - خطايانا خطايانا!

قالت صوفيا فاسيلي نكيتتش هيا بنا نرحل في الحال ألا تسمع ما أقول؟ هيا بنا في الحال في الحال ثم جذبت القناع على جبينها بيد وأمسكت عدد الرجل بالأخرى: امض بنا في الحال من ههنا يا فاسيلي إن هنا لخطراً يهددنا.

قال الجوالة الموسوس بطاعة وخضوع: إني آت يا ابنتي المحبوبة إني أت، ثم قال بجملة جسده إلى الأمام ونهض من مقعده اصبري ريثما أربط هذه السلسلة.

وتقدمت إلى صوفيا مرة ثانية فنبأتها اسمي وطفقت أتضرع إليها أن تصغي إلي أو تفوه لي بكلمة واحدة. وكان المطر إذ ذاك يهمي. وينهمر فسألتها بالله أن تشفق على نفسها من صوب شؤبوبه وابتهلت إليها أن ترفق بجسدها الضعيف وتلتفت لأمر صحتها وصحة رفيقها ثم ذكرت لها والدها. . ولكنها كانت بأشد حالات الغيظ والحنق والاهتياج فأعرضت عني إعراضاً وصدت ونفرت أيما نفور وتنفست تنفساً شديداً وسحبت رفيقها وهي تحثه على السير بصوت خفيض ثم مضت به وهي تحرق أنيابها حفيظة موجدة وجعلت في أثناء سيرها تحزمه بنطاقه الحديدي وتعقد عليه سلاسله ثم قنعت رأسه بقبعة طفل مهدمة القمة ووعت عصاه في يده وطرحت على ظهرها حقيبة الزاد وانطلقت به من الفندق إلى الطريق العام. . فرأيت في هذه الحال أنه ليس من حقي أن أحجزها كرهاً وقسراً ولو فعلت لما كان فيه أدنى ثمرة فأرسلت في إثرها آخر صيحة فلم تكترث بي ولم تلتفت إلي ولكنها مضت قدماً تخوض أوحال الطريق والرجل المقدس ولي الله مستند عليها معتمد على ذراعها وما هي إلا لحظات حتى اختفى عني وراء حجب الغيم وسجوف الضباب المرصعة بأسلاك القطر المشتبكة وقلائد لؤلؤ المزن المنحلة المنفرطة شخصا الرفيقين المتلازمين. الجوالة الموسوس وصوفيا. . وكذلك كان آخر عهدي بهما.

عدت إلى غرفتي وأطرقت أفكر وأحاول حل ذلك المشكل المعضل فلم أهتد إلى حلة على أي وجه وبأي اعتبار أجل لم أستطع أتبين بأي علة وأي عذر وحجة يتفق أن فتاة مليحة حسناء قد نشأت في لين العيش ورفاهيته تتفيأ ظلال السعادة وتتقلب في أحجار النعيم يلذ لها أن تهجر الدنيا ولذاتها وتنسلخ من أهلها وأسرتها وقومها ومنزلها ووطنها وخلانها وأصحابها ولداتها وأترابها وتنجرد من عاداتها وسننها ومن لذائذ العيش ومناعمه فلماذا كل ذلك؟ لاتباع الرجل مشرد موسوس مجذوب تلازمه وتقوم في خدمته كأحقر العبيد! لم يكن عندي أدنى شك في أن الباعث لها على ذلك كان شيئاً خلاف الحب والهوى! كلا إن صوفيا ما برحت عفة الإزار طاهرة الذيل. لقد ضحت صوفيا بنفسها في سبيل ما اعتقدت به أنه الحق والواجب الذي من أجله خلقت ولأدائه تعيش وتبقى إنه لم يسعني سوى السف والأسى لما قد أتت صوفيا من اختيار هذا السبيل. . ولكني لم أبخل عليها عليها من ذلك بإعجاب - بل بالاحترام والإجلال. . لقد كانت حدثتني حديث وجد وإخلاص عن تضحية النفس وقهرها وإذلالها ولقد صدقت القول بالفعل وهي التي تحقق أقوالها أعمالها. . لقد كانت تلتمس الدليل والقائد ثم وجدته وأي دليل - والعياذ بالله - وأي قائد!.

أجل لقد طرحت نفسها لتداس بالأقدام. . وقد بلغني على ممر الزمن أن أهلها استطاعوا أخيراً أن يعثروا عليها ويرجعوها إلى دارها، ولكن لم تعش في دارها طويلاً فماتت ميتة صامتة ساكتة دون أن تنبس لأحد ما بكلمة أو لفظة.

سلام الله عليها وريحانه،. ورحمة الله عليها ورضوانه على تلك المخلوقة المسكينة الخفية الأمر المجهولة الشان! لعل صاحبك فاسيلي نكتيتس لا يزال في تجوالاته الجنونية يكدح ويكد. . ألا عجباً لأبدان أمثاله الحديدية، وبنيتهم الصخرية على إني أخشى أنتكون نوباته الشللية قد أسكتت نفسه، وأسكنته رمسه.

كلمة على هذه القصة

هذه القصة العجيبة هي بحث سيكولوجي يراد به إيضاح الفرق الأساسي الذي يميز الشعب الروسي عن الشعوب الغربية، وإن كلمة بطلة الرواية صوفيا وهي أنك تحدثني عن الإرادة - والذي أرى وأعتقد هو أن الإرادة يجب أن تسحق وتمحق. هذه الكلمة تبين بأجلى وضوح وأرسخ عقائد النفس الروسية وأعمق أمانيها وأغراضها فرغبة الروسي في تعريض نفسه لآلام الحياة ومنغصاتها وتوقانه إلى إذلال نفسه وقهرها وطرحها تحت أقدام الغير توطأ وتداس، كل هذا يدل على أن الروسي ذو إرادة ضعيفة ضئيلة، وإنه يجد الاستكانة والاستسلام أسهل عليه من محاولته أن يكون مقتدراً قوياً مظفراً منصوراً رفيع القدر، عالي القيمة، وهذا الاستسلام واللين والرقة التي تميز طبيعة الروسي هي منبع فضائله ومناقبه المميزة له على غيره. ولكن التدين عند الغربي له معنى آخر، وهو الرغبة في أن يكون المرء رفيع المنزلة من حيث الآداب والأخلاق قابضاً بيده على سراج الحق المنير متسنماً ذروة الفضيلة والكمال. وأن يكون لي الله المصطفى وصفية المختار. أما معنى التدين عند الروسي فهو مهانة النفس وإذلالها وبخس قيمتها والحط من قدرها، بل محوها وإعدامها البتة، أعني خضوعها وركوعها وتضعضعها واضمحلالها أمام إرادة العرش الأعلى وأمام محبة المرء لأخيه حباً خالصاًَ في سبيل الله. فالذهن الغربي يرقى إلى العظمة بحصر قوة الإرادة في مجال الكد والعمل وإبراز جملة قواه الكامنة. وكفاآته الباطنة. وبدفعه عن نفسه كافة المؤثرات والعوامل التي من شأنها التسلط عليه أو تشويشه أو إضعافه. أما الذهن الروسي فإنه بفضل حرمانه من قوة الإرادة والصرامة والصلابة فإنه يرقى إلى العظمة بما يمتاز به من خلال التوكل والاستسلام والاستكانة وقبوله الحياة على علاتها ورضاه بالمعيشة على آفاتها ورحمته ورثاؤه للمصاب والمنكوب. وعطفه ومواساته للشقي والمكروب. ولا أنكر أنا إذا اعتبرنا الروسي من حيث الحياة العملية وجدناه فاقداً لكثير مما تمتاز به الشعوب الغربية من الفضائل النافعة وحائزاً لمعظم رذائلهم. ولكن رحمته وسخاءه وعطفه ومواساته لمن هو أباس منه وأشقى، هذه الفضائل إنما تصدر وتنجم عن اعتقاده بضعفه وعجزه وصغر قيمته وحقارة قدره اعتقاد المعترف بسلطان القضاء والقدر وبالعجز عن مغالبته ومقاومته. وكذلك إذا تأملنا سيرة صوفيا بطلة هذه القصة وجدنا أن فرط رغبتها في تضحية نفسها وراسخ عقيدتها في أن الحق والصواب هو تعريض النفس لمكابدة المشاق والآلام هو أشبه بأخلاق الروس وغرائزهم من حيث الاستسلام للأقدار والانقياد صحبة تيارها لا عكسه. ومن ثم مصدر تلك الروح المخيفة - ورح الجيل الحديث الذي ضحى بنفسه في حركة النيهليست فإن باعث تضحية النفس كان يدفع بالشاب الغيور المتوقد على غايته المقصودة على الرغم من كافة المؤثرات والعوامل الحائلة بينه وبين غرضه. وعلى ذلك فإن صوفيا بطلة القصة هي فتاة نهلستية سابقة لأوانها.

قلنا أن فقدان القوة والإرادة من النفس الروسية هو أصل الفضائل والرذائل الروسية وبهذه المناسبة نقول أن من العجائب أن نرى روح كل شعب إنما تنمو وتنبعث من نزعة هذا الشعب إلى طلب الصفات والمميزات التي قد حرمها بالفطرة. مثال ذلك أن الذهن الألماني الذي هو أشد الأذهان تيقظاً وانتباهاً إلى ماديات الحياة وإلى وجوب إحراز الفوائد المحسوسة والمنافع الملموسة تراه مع ذلك، بتأثير قانون الموازنة ورد الفع، يرخي وتر قوسه ويحبس عنان فرسه، وبدلاُ من التشمير في إحراز الماديات والتحفز لانتهاز فرص الحياة ينغمس في بحور التصورات والتخيلات ويمعن في أودية الأوهام والأحلام، ثم انظر الذهن الفرنسي الذي هو أهدأ الأذهان وأبردها واصفاها وأدقها تحليلاً لما في نفسه من بواعث ونزعات تراه مع كل ذلك بتأثير قانون التوازن أيضاً، يعمد إلى تضليل نفسه بين دهاليز المجازات وألغاز الكنايات والاستعارات منصرفاً عن جلاء الأفكار الواضحة إلى غموض العواطف المبهمة. وعلى هذا النحو أرى أن تسخط الذهن الروسي على حركات نفسه وكامن استيائه من نزعاته وتصرفاته هو الذي يثير في ذلك الولوع الشديد بانتقاد كل ما هو باطل ومبالغ فيه حتى نراه يحتقر ما في الأدب الفرنسي من صنوف البديعيات وزخارف الاستعارات وما في الأدب الألماني من الإغراق في التخيلات والأحلام ثم نرى أن فقدان الإرادة م الذهن الروسي تزيد روحه تعمقاً واتساعاً من حيث نظراته وتأملاته في الوجود فهو يستسلم للكون ومؤثراته ولا يمكن ظل حظه الذاتي وظل شخصيته الفردية، مهما أظلم واسود، من الحيلولة بني روحه وبني صحيفة هذا الوجود الهائل كما تفعل إرادة الرجل الغربي، تلك الإرادة المهاجمة المغالبة المنازعة المدافعة التي تحاول أن تعطي شخصيته أوفر نصيب من التصرف والظهور. فمركز الروسي من الكون هو أشبه شيء بالوعاء الذي يحوي ويحفظ كل ما يهبط عليه من آفاق الحياة. في حين أن مركز الرجل الغربي من الكون هو كالوعاء المقلوب يحجب كل ما يسقط عليه من آفاق الحياة.