مجلة البيان للبرقوقي/العدد 50/مطبوعات

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 50/مطبوعات

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1919



كتاب المواكب

للكاتب الشاعر النابغة جبران خليل جبران

عرفت جبران خليل جبران كاتباً ملهماً، إذا كتب عن الحياة حسبت الحياة تكتب عن نفسها.

غير أني لم أكن أعرفه شاعراً إلا اليوم. حيث ظفرت بكتاب له اسمه المواكب أرسل فيه قصيدتين فضفاضتين، أولاهما على لسان شيخ فان غالب حياة المدنية فغلبته وصارعها فصرعته فأمضى فيها رأياً متبرماً متشائماً أملته عليه تكاليفها التي لا تقف عند حد. والأخرى على لسان فتى غض نشأ في الغابة الحرة الطليقة بين عيونها الثجاجة وجداولها الرجراجة، وجناتها الفياحة، وطيورها الصداحة، فاستقام له من حياته العذبة رأي مستبشر متفائل ينقض به رأي الشيخ في كل أدواره.

مثال ذلك قول الشيخ في الروح والجسم:

وغاية الروح دي الروح قد خفيت ... فلا المظاهر تبديها ولا الصور

فذا يقول هي الأرواح وإن بلغت ... حد الكمال تلاشت وانقضى الخبر

كأنما هي أثمار إذا نضجت ... ومرت الريح يوماً عافها الشجر

وذا يقول هي الأجسام إن هجعت ... لم يبق في الروح تهويم ولا سحر

كأنما هي ظل في الغدير إذا ... تعكر الماء ولّت وأمحى الأثر

ضل الجميع فل الذرات في جسد ... تثوي ولا هي في الأرواح تحتضر

فما طوت شمأل أذيال عاقة ... إلا ومر بها الشرقي فتنتشر

وقول الفتى:

لم أجد في الغاب فرقاً ... بين نفس وجسد

فالهوا ماء تهادى ... والندى ماء ركد

والشذا زهر تمادى ... والثرى زهر جمد

وظلال الحور حور ... ظن ليلاً فرقد

أعطني الناي وغنّ ... فالغنا جسم وروح

وأنين الناي أبقى ... من غبوق وصبوح يتخلل ذلك صور أنيقة من صنع الشاعر تؤدي مناحي شعره أحسن أداء، ومنها ترى كيف تخضع اليراعة والريشة لكف واحدة.

ولا عجب أن يلم جبران بالحياة الطبيعية والمدنية جميعاً فقد عالج الأولى في مروج لبنان والثانية غي عاصمة الأميركان، فهو ربيب الحياتين، وخريج المعهدين.

وربما كانت عبقرية هذا الرجل غريبة في نوعها فلم أعرف فيمن عرفت قبله من العبقريين شاعراً ومصوراً في آن.

وهو من هذه الناحية شاعر مرتين أو مصور مرتين فما أرى الشعر إلا تصويراً والتصوير إلا شعراً كما قلت في رواية لي:

إنما ريشة المصور تحكي ... قلم الشاعر المجيد تماما

هذه لا تني تصور محسو ... ساً وهذا يصور الأوهاما

ولأن نقرأ القصيد نقوشاً ... مثلما تقرأ القصيد كلاما

على أن جبران رغم شاعريته الجياشة المتوثبة لا يخلو شعره من سقط يقع فيه من ناحية اللفظ - فالشاعرية شيء والشعر شيء آخر ـ.

وربما كان ذلك راجعاً إلى اضطلاعه باللغات الأجنبية ومقامه في جو أجنبي.

فطالما احتال على معانيه الشريفة بلفظ سوقي أو منحوت ينبو له الذوق وتشمئز منه اللغة، وهو عيب لو تعهده بالرجوع إلى كتب العرب لأفلت منه.

من ذلك قوله:

فهو النبي وبرد الغد يحجبه ... عن أمة برداء إلا من تأنزر

وقوله:

من أمل بنعيم الخلد مبتشر ... ومن جهول يخاف النار تستعر

فإن في لفظي (الغد) بالتشديد (ومبتشر) لخزياً للشعر ومهانة للشاعر.

هذا عدا الغموض واللحن الشائعين في شعره.

فإذا غضضنا الطرف عن اللفظ وتتبعنا المعنى وحده في كتابه لأكبرنا الشاعر الإكبار كله واقترحنا على الدهر أن يسخر للشعر العربي أمثال هذا الرأس العامر الحافل ليزجي إليه الفينة بعد الفينة موكباً من مواكبه الفخمة. فإن الشعر العربي بحاجة إلى من يقول والعدل في الأرض يبكي الجن لو سمعوا ... به ويستضحك الأموات لو نظروا

فالسجن والموات للجانين إن صغروا ... والمجد والفخر والإثراء إن كبروا

فسارق الزهر مذموم ومحتقر ... وسارق الحقل يدعى الباسل الخطر

وقاتل الجسم مقتول بفعلته ... وقاتل الروح لا تدري به البشر

ولما كانت مبادئ الفلسفة تختلف في كل النفوس كان بدهياً أن لا نقر جبراناً على كل ما جاء في شعره من الآراء والمعتقدات كقوله في الدين:

إن دين الناس يأتي ... مثل ظل ويروح

لم يقم في الأرض دين ... بعد طه والمسيح

فإن الدين باق ما بقي في الأرض قلب يخفق

محمود عماد

بوزارة الأوقاف

البيان وهذا كتاب المواكب أهداه إلينا جبران أفندي بواسطة مجلة الفنون التي تظهر في نيويورك - وهو يطلب منها.