مجلة البيان للبرقوقي/العدد 52/باب الزراعة
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 52/باب الزراعة
زراعة القطن
الفلاحة المصرية عبارة عن معارف وقواعد توصل إليها الفلاحون بمشاهداتهم واختباراتهم المتوالية والمتداولة بينهم خلفاً على سلف وحتى الآن لم يدون منها إلا قليل من كثير وإذاً فلا مندوحة لطلابها من الرجوع إلى عرف أهلها وهو يختلف باختلاف بيآت الأرض ومراتبها ووسائل فلاحتها وإذا كانت معرفة هذا العرف الزراعي صعبة لما تقتضيه من المثابرة في البحث والاستقصاء وقوة الإدراك في تخليصه مما يغشاه أحياناً من الإبهام والأوهام فإن تطبيق قواعده في استغلال الأرض وتكييفها حسبما تستدعيه الظروف أصعب لما يقتضيه من حسن التمييز ودقة الملاحظة وقوة الفطنة في إرجاع المسببات في أسبابها الحقيقية وذلك لا يتم إلا بالمرانة والتدريب الطويلين وبعد فإني سأتي فيما يلي على مشاهدات لبعض مهرة الزراع في تحريهم إجراء تلك القواعد مجرى العمل الصحيح.
في زراع القطن الرجيع
كل نبات يفرز بجذوره مادة يفيده إفرازها ولكنها إذا ظلت في التربة وتلاه زرع من صنفه أضرت بهذا الزرع التالي وهذا من دواعي رداءة القطن الرجيع (القطن بعد القطن) ولملافاة ذلك يجب تطهير التربة من تلك المادة السامة حتى يقل أو ينعدم تأثيرها، ويتم هذا التطهير بغسل الأرض وترويحها وإحرارها، وللوصول إلى ذلك يزال أثر الزراعة السابقة من الأرض فيقلع حطب القطن قلعاً وتدمس الأرض قبل الحرث مرة وقبل الزرع مرة أخرى سواء كانت أثناء الحرث أو بعد التخطيط وتهويتها وتشميسها سيما أثناء الحرث مدة كافية وبعد زراعتها تظل بدون محاياة إلى أن يقوى نبتها ويخف لأن تبكير محاياة القطن الرجيع تسبب تسقيطه وبدون استيفاء الإجراءات الآنفة الذكر يضعف نمو النبات للغاية.
شاهدت هذا العام غيطاً من غيطان القطن يراد زراعته رجعياً وكانت إزالة الحطب منه تقطيعاً لا تقليعاً (وهذا من دواعي الرادءة لأن أثر الجذر السابق يعاكس نمو الجذر اللاحق ولذلك اضطررنا لجمعها من الأرض بكلفة كان يمكن اقتصادها لو روعي ذلك من قبل) ثم دمست الأرض واستجعل فلاحها فحرثها وهي طرية نوعاً ما وذلك يستدعي ضعف نباتها أول نشأته سيما إذا لم تسمد سماداً كافياً وبعد أن تم حرث الأرض وتخطيطها ومسحه جرى البحث في هل الأوفق دمسها قبل الزراعة أو زراعتها بدون دمس.
في حالة إذا ما دمست الأرض خشي زراعها من تأخير الزراعة عن أول الوقت البدري وهو من المتشبثين بالزراعة البدرية كل التشبث - وخشي أيضاً من أن الدمس بعد أن حرثت طرية يزيد في تبريدها وهذا هو الأهم.
وفي حالة عدم الدمس - يخشى من تأثير الإفرازات السامة من أثر القطن السابق فضلاً عن أن الأرض الغير مدموسة أي المزروعة على الناشف تشقق عاجلاً وذلك من دواعي طلبها المحاياة واللازم في الأرض الرجيع تأخير محاياتها إلى ما بعد الخف وإلا يحصل تسقيط النبات كما سبقت الإشارة.
وقيل في علاج ذلك أنه مع الزراعة على الناشف فلاجل عدم طلبها المحاياة إلا بعد مدة كافية - يمكن احد أمرين.
1 - إما إعادة نزول المياه ثانياً عقب الزراعة ببضعة أيام وقبل ظهور النبات وبذلك يمتنع التشقيق وتطول مدة احتمال الأرض بعد ذلك لمنع الري ولكن خشي مع ذلك أمرين أ - إن مولاة الري تزيد برودة الأرض كما سبق الإشارة ب - إن بعض أجزاء هذه الأرض محشة أي بها حشائش بكثرة يخشى من تكاثرها على نبات القطن فتخنقه.
2 - أما التكبير بعزقها أول عزقة (نكش) نكشاً خفيفاً لسد الشقوق وحفظ ثرى التربة ثم إعادة العزق بعد مدة أخرى.
قد يفيد ذلك في تأخير حاجة الأرض للمحاياة ولكن يبقى أثر المادة السامة مضعفاً للنبات ولذلك ترجح دمس الأرض وإن تأخرت الزراعة من أول الوقت البدري إلى أول الوقت المتوسط فلا بأس فإن ذلك خير من اختصار إجراءات الفلاحة فإن إعطاء الأرض حقها من الخدمة أولى بالاعتبار.
ترجح الدمس ولكن صادف ذلك حبس المياه لخلل طرأ على إحدى برايخ الري وكا تصليحه منوطاً بمصلحة الري وخيف من طول مدة الحبس فرؤي حينئذٍ أنه إذا ترائ أن ذلك سيؤخر الزراعة كثيراً فيفضل عدم الدمس وقيل أن ترك الأرض (من منع المياه بهذا الحبس) عرضة لتأثيرات الجو مفيد في تطهيرها وإذن يترجح بعد ذلك الزراعة بدون دمس.
ولو كان أمكن دمس الأرض حال ورود المياه عقي الجفاف مباشرة وكانت لأرض مع ذلك لم تحرث ندية نداوة ظاهرة لما كان حصل هناك تردد في دمسها البتة. ومن العوامل التي ينظر إليها في ترجيح الدمس أن البذرة المعدة لزراعة هذه الأرض منتقاة من أجود عينة يعز الحصول على مثلها فيما إذا حصل تسقيط التبات وأريد الترقيع زيادة عن المعتاد.
وتقرر مع الدمس أنه لا تزرع الأرض غلا بعد أن تنشف وتستحصف جيداً والنايدة الزرع تكون تكون أشفافاً أي خفيفة جداً وأنه إذا اقتضى الحال تساعد التربة بالتسميد تكبيشاً أثر الخف مباشرة وكانت أرض هذا الغيط كحلاء. متوسطة الخصب إلا أن المادة العضوية (السماد البلدي) فيها قليلة عما يجب وكان ذلك من دواعي زيادة الحذر من برودة الأرض بسبب حرثها طرية وإعادة دمسها مع ذلك.
وفي غيط آخر زرع رجعياً أجريت الإجراءات الآتية في خدمته: أزيل حطب القطن السابق تقليعاً ثم حرثت الأرض ولوطت ثم حرثت أول حرثة ودمست ثم سمدت وحرثت ثانية وخططت فجاء محصولها جيداً لم يقل عن القطن المبكر إلا نحو 20 في المائة وقد كانت الأرض سواء متوسطة الخصب ليست غنية بالمواد العضوية غناء تاماً.
وفي الغيطين الآنفي الذكر لم تزرع الأرض برسيم تحريش وهذا (أي عدم زراعة البرسيم التحريش في الأرض المراد زرعها قطناً رجعياً) هو المختار في الأرض الجنوبية وما يصاقبها اما في البراري حيث الأرض غير نقية من الملوحة وغير قوية الخصب فإنه يكون الأوفق في كثير من الأحوال زراعتها برسيم تحريش ثم حرثها بدرياً ودمسها في الخطوط - والري الذي تستدعيه زراعة البرسيم والدمس بعد ذلك كافيان في تطهيرها ولا خفاء إن مثل هذه الأرض لا تحتاج للتشميس مدة طويلة خلافاً للأرض الجنوبية فإنه كلما طالت مدة تشميسها كان ذلك أحسن لها.
أحمد الألفي