مجلة البيان للبرقوقي/العدد 53/اعترافات الفرددي موسيه

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 53/اعترافات الفرددي موسيه

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 3 - 1920


الفصل الخامس

في اليوم التالي ذهبت إلى غابة بولونيا قبل الغذاء. وكان الجو مغيماً. فلما بلغت بوابة مايوت أرخيت عنان جوادي ملقياً حبله على غارية يذهب أين يشاء وأرخيت كذلك عنان فكري أستعيد في ذاكرتي ما قاله لي ديزينيه.

فبين أنا كذلك إذ سمعت صوتاً ينادي باسمي فالتفت ورائي فابصرت في عربة مكشوفة إحدى صويحبات حبيبتي. فاستوقفتني وأومأت إلي بيدها إيماءة الصديق الودود ودعتني للتوجه معها في عربتها لمنازعتها الغداء إذا شئت.

وكانت هذه المرأة (واسمها مدام ليفازير) صغيرة الجرم بضة مكتزة شقراء وكان بي أبداً نفرة عنها وتبرم بها لا أدري لماذا لم يكن بيني وبينها ما يدعو إلى ذاك، وكانت علاقتي بها ما برحت ودية. ولكنها حينما دعتني لم أجد بداً من قبول دعوتها، لعلمي أن حديثي معها سيدور على حبيبتي. لذلك ضغطت على يدها أثناء المصافحة وشكرت لها حسن صنيعها بي.

فناطت حراسة جوادي إلى واحد من خدمها وأجلستني بالعربة إلى جانبها وانطلت بنا العربة عائدة إلى باريز. وهنا أصابتنا السماء برذاذ فأغلقنا العربة وسددنا نوافذها ولبثنا صامتين برهة فنظرت إليها نظر الحزين الكمد وكنت أرى فيها صديقة حبيبتي الغادرة وحميمتها وكاتمة أسرارها. وقد كانت في أيام تصافينا وتآلفنا في عهد الوصال الطيب الحلو تجلس معنا في خلوتنا فاستثقل حضرتها وأتمنى انصرافها وأعد عليها مقامها بيننا في الدقيقة والثانية! ولعل هذا كان سبب تبرمي بها واستيائي منها. وكنت أعلم أنها كانت تشفع لي عند حبيبتي وتدافع عني وتصون غيبتي فكنت خليقاً أن أغفر لها دخولها بيننا لحسن نتيتها وإرادتها الخير لي.

ولكني كنت أجدها بالرغم من محاسن صنائعها عندي قبيحة مملولة وبغيضة ممجوجة. كذلك كان رأيي فيها أيام الوصال الهنية. أما الآن فقد بدت لي مليحة حسناء فو أسفاً!

فجعلت أتأمل يديها وثيابها. وجعلت كل حركة وإشارة منها تخلص إلي أعماق قلبي وما ذاك إلا لأن عهد الماضي كان في هذه الأعماق حياً جديداً يعيش ويجيش كما كان أبان حدوثه وفطنت المرأة إلى حقيقة أمري وكنه حالي واطلعت على خبايا ضميري وقرأت صفحة الماضي في مطاوي سريرتي فعرفت ما كان يلقح جوانحي وينضج كبدي من تلك الذكريات الأليمة والهواجس القديمة. وعلى هذه الحال انقضت العودة - أنظر إليها وتبتسم إلي. فلما بلغنا باريز قبضت على يدي وقال (واها. وها) فأجبتها والعبرة تختفي (خبريها إذا شئت) ثم فاضت دموعي.

ولما فرغنا من الغداء وجلسنا إلى النار قالتأوقد نفذ السهم وقضى الأمر؟ أو ليس لما فات من رجعة؟ أم لارد لذلك القضاء ولا دافع. أفلا سبيل ولا حيلة؟

فأجبتها واحزناً وواأسفاً! يا سيدتي اعلم أن الحزن لا شك قاتلي. وإن أمري لينحصر في هذه الكلمة وهي: لا أستطيع أن أحبها وليس في وسعي أن أحب سواها ولا طاقة لي أن أبقى بلا حب. فهزت رأسها عند سماع كلمتي هذه وتبينت في وجهها أثر الرحمة والرثاء ولبثت برهة طويلة تفكر وترجع كرة الذهن في ماضي حياتها كالتي تبحث عن صدى في أعماق قلبها. وقد أسدلت من أهدابها حجاباً على عينيها واستغرقت في لجة من الذكرى. ثم مدت إلي يدها فدنوت منها وقالت وأنا أيضاً قد جربت كل ذلك ثم خنقتها العبرة فسكتت.

لعاطفة الحب لدات وأتراب فمن أجمل لداتها وأملح أترابها عاطفة الرحمة.

أمسكت بيد مدام ليفازير وكدت أضمها بين ذراعي وأخذت تسرد على مسمعي كل ما استطاعت أن تذكره من محاسن حبيبتي شفاعة لها عندي. وجعلت تقول في سبيل الاعتذار عنها بمقدار ما تقول في سبيل الرثاء لي والترحم علي فاشتد حزني وشجني. فماذا أقول؟ هذا وأن مدام ليفازير شرعت تتكلم عن نفسها.

فما قالت لي في هذا الصدد أنه كان لها عشيق فهجرها. وأنها ضجت من أجله ضحايا عظيمة فخاطرت بثروتها وشرفها معاً واستجلبت وعيد زوجها وتهديده وكانت قصتها ممزوجة بدموعها فأنستني أحزانها أحزاني. وأذهلتني بأشجانها عن أشجاني. وقالت لي إن تزويجها من زوجها هذا كان على خلاف رغبتها وبعد جهاد طويل وكفاح عنيف. على أنها إن أصبحت اليوم حزينة فما ذاك إلا لأنها أصبحت لا تجد من يحبها ويهواها. وآنست منها أنها كانت تنقم من نفسها عجزها عن استبقاء ذلك الحبيب واحتجاز قلبه لديها حتى أوجدت له سبيلاً إلى تركها والتخلي عنها وتعزو الذنب في ذلك إلى نفسها بتنكبها سبيل الحفاظ وعدو لها عن سنة الوفاء بالعهد.

وبعد تهدئة روعها شيئاً قلت لها (كلا يا سيدتي ما أظن التقائي بك اليوم كان عن طريق الصدفة. ولكنه كان مدبراً بحكم العناية الإلهية التي لا تزال تجمع بين المحزونين المنكوبين - أهداف النحس وأغراض البؤس وتضم بين الأكف المرفوعة إلى الله! فلا تندمي على ما كان من دعوتك إياي وحديثك لي وليس على أمريء يصغي إلى حديثك من بأس ولا عار عليه إن جرت على شكواك دموعه. وضاقت الزفرات المتصاعدة ضلوعه. فاعلمي أن السر الذي أفضيت به إلي إنما هو دمعة تحدرت من جفونك فسقطت على فؤادي وستبقى أبداً هنالك واسمحي لي يا سيدتي بزيارتك كرة أخرى لأشاطرك همومك وأقاسمك أحزانك.

وبلغ من شدة عطفي عليها ورثائي لها أن خرجت من سجيتي وشيمتي وعانقتها بلا تبصر ولا روية. ولم يجل بخاطري أن ذلك يسوؤها والواقع أنها لم تكترث له قط ولا رأته إلا أمراً اعتيادياً محضاً.

وكان السكوت قد ضرب أطنابه في المنزل الذي كانت تقطن فيه مدام ليفازير وقد فرش فناؤه بالقش لمرض كان أصاب أحد سكانه حتى لا يحدث مرور المركبات والبهائم ضوضاء فتزعج ذلك المريض وتهيج أعصابه. وكنت ملتصقاً بها أضم عليها ذراعي وقد أسلمت قلبي إلى أمتع العواطف النفسانية - أعني عاطفة الحزن المشترك واللوعة الموزعة.

وتماد بنا الحديث بلهجة أخوان الصفاء وأخدان الإخاء. فتشاكينا آلامنا وأوجاعنا وأحسست بين ملتقى هذا الحزنين المتلاطمين كأنما هب على قلبي نسيم لين من ملكوت الرحمة يأسو جراحي وينفي أتراحي وكأنما قد هتف بي صوت رخيم من عالم الخلد كموسيقى السموات ونغمة الملائكة قد تألف من أنات النفس الإنسانية وحنات الروح البشرية يسكن لوعتي ويطفئ حرقتي. ولكني في أثناء هذا العناق والبكاء لم أكن أبصر من جسم هذه المرأة سوى وجهها. فلما نهضت من جانبها وذهبت عني خطوات ظهر لي أنها تعمدت في أثناء انحنائي عليها وتحدبي فوقها أن ترفع رجلها على صفة الموقد رفعاً أدى إلى إسقاط أزارها حتى انكشفت ساقها وتعرت.

وأعجب من هذا أنها بالرغم مما شاهدت علي من أثر الارتباك والخجل والحيرة عندما أبصرت ساقها عارية - لم تحرك ساكناً ولم تحاول ستر عورتها فتنحيت جانباً وزويت نظري عن هذا المنظر الأليم ريثما تستر نفسها ولكنها لم تفعل فعدت إلى صفة الموقد فارتفعت عليها وجعلت أنظر إلى تلك العورة نظرة المشمئز المتأفف وأخيراً وقعت عيني على عينها فأدركت من ألحاظها أنها قد عرفت كل ما وقع وجرى وأنها أتته عامدة قاصدة. فدهشت وبهت وأصابني كالصاعقة، إذ علمت أن كل ما أتته المرأة من بثها الشكوى إلي واستدارز رأفتي ورحمتي لم يكن إلا تصنعاً أرادت به غشي وخديعتي وقصدت به إلى استدراجي واستهوائي وإيقاعي في حبائل كيدها. فلما تجلت لي الحقيقة غراء واضحة تناولت قبعتي دون أن أنبس بكلمة واحدة وإذ ذاك أصلحت هي هيئتها وسترت ساقها، وخرجت من الغرفة بأسرع ما في طاقتي.

ولما بلغت منزلي ألفيت وسط حجرتي صندوقاً كبيراً من الخشب. وذلك أن إحدى خالاتي توفيت وأورثتني شيئاً زهيداً من متاعها. وكان بين محتويات هذا الصندوق بضعة كتب تربة. فعولت على قراءة جانب من هذه الكتب إذ كنت في فراغ من الوقت وقد نال مني الضجر وكان معظم تلك الأسفار قصصاً مما ألف في عهد الملك لويز الخامس عشر. وكانت خالتي لما أوتيت من الورع والتقى ترفعت عن قراءة تلك القصص إذ كانت تلاوة أمثالها ضرباً من الفجور والمنكر.

وليعلم القارئ أن من دأبي وديدني أني أطيل التأمل في كل ما يقع لي من الحوادث مما دق وحقر ثم أعزو حدوثها إلى سبب قوي وحكمة بليغة من الأقدار التي أعتقد أنها تسير في كل ما تخصني به من الأحداث على نظام وتدبير - لذلك تراني إذا جلست أتذكر ما مر بي من الحوادث ضممت بعضها إلى بعض في نساق منضود كأنها فرائد العقد النظيم - يربطها سلك واحد من المناسبة والملاءمة قد أبرمته يد العناية والتدبير الإلهي.

ليعجب القارئ ما شاء فما عجبه بما نعي أن أقول أن ورود هذه الكتب وقع مني في تلك الظروف التي وصفتها أجل موقع وأعظمه. فأسرعت فيها التهاما لمشمولاتها أسراع النار في اليراع وانتهبتها انتهاباً وأنا أثناء ذلك بحال جمعت بين لوعة الكمد ولذعة اليأس. وقلت لهذه الكتب مناجياً ألا فحياك الله وأبقاك على مدى الأزمان فإنما أنت على هدى وسواك على ضلال. فمن ثناياك يفيض نور اليقين. وبين سطورك يشرق البرهان المبين. وفي كل لفظ فيك لسان صادق. وكل حرف من حروفك مقول بالحق ناطق. وأنت وحدك تعرفين أسرار الحياة وسرائر الإنسان. وأنت وحدك تجرؤين أن تصرحي بأنه لا حقيقة في الوجود إلا الدعارة والمنكر والنفاق والبهتان. فكوني أصدقائي وشيعتي ورفاقي وانفثي سمومك الكاوية على ما بقلبي من الجراح، وعلميني أن أتلقى عنك الصدق المبين والحق الصراح.

ثم التفت إلى مكتبتي وما قد احتوته من دواوين الشعر والمباحث الفلسفية فخاطبتها قائلاً: وأنت يا عصبة المجانين والمتهوسين والمتعلقين بأذيال الخزعبلات والترهات والخرافة، السادرين في الغواية. والغرور والعماية. الغرقى في الأحلام. والأوهام. والأباطيل. والأضاليل - أيتها الفئة المفتونة التي لا تجني من أوراقها سوى الغصص والكروب. والمحن والخطوب. والرزايا والبلايا. لئن كنت تعرفين الحقيقة ولكنك تغريننا وتخدعيننا فلأنت الأفاكة والمزورة والغشاشة والدجالة. ولئن كنت تعتقدين بصحة ما تنطقين به من الهذر والهذيان فلأنت السخيفة الحمقاء. والغريرة البلهاء. ففي كلتا الحالتين لا تخلين من الكذب والبهتان، تعبثين بألباب الرجال وبأحلامهم تلعبين وتتخذين من الشيب والشباب أطفالاً بهم تهزئين ومن سذاجتهم تضحكين، تجمعينهم حولك كما تجمع العجوز أطفال البيت حولها في ليلة الشتاء فتدهشهم بعجيب الأقاصيص وتروعهم براويات العفاريت والجان. ثم تسرهم بحيث عصا موسى وخاتم سليمان. تالله لأحرقنك جميعاً!

وفي أثناء هذه المناجاة أسعفتني الشؤون بديمة من الدمع مدرار وأدركت أن حزني العميق هو كل ما أدركت من حقائق هذا الوجود فصحت في هذيان هذه النوبة الأليمة مخاطباً الكتب خبريني أيتها الملائكة أو الشياطين. خبريني أيتها الكهنة العرافة والزجرة العيافة. المشيرة بالخير أو بالشر، المتفائلة بالسعد أو المتشائمة بالنحس - خبريني كيف أسير وماذ أصنع وأي منهج أسلك؟ كوني حكماً بيني وبينها قاضياً!.

ثم إني تناولت من بين تلكم الأسفار كتاب التوراة وفتحته عفواً وأنا أقول: أجيبيني يا كلمة الله أبدي لي طرفاً من رأيك. ثم نظرت في الكتاب حيث فتحته فإذا فيه:

لقد تأملت في أعماق نفسي فعرفت هذه الحقيقة وهي أن الله وحده عليم بذات الصدور ليس غيره يعلم شأن الصالح التقي والأريب اللبيب وما يصنعان وما كسبت أيديهما. وليس امرؤ ما يستطيع أن يستدل بكل ما لديه من شواهد الأحوال على ما تكنه صدور الغير من حب وبغض.

إن الدهر ليسوي في معاملاته بين شتى أصناف البشر - بين الصالح والطالح والبر والفاجر. والوفي والغادر. والكريم واللئيم والبريء والأثيم.

إن من أسوأ البلايا. وشر الرزايا. أن نرى الدهر يصيب الناس طرا بسيئته ومحنته عل حد سواء. هذا وأن السيئة والآفة والشر عريقة في الإنسان متأصلة في نفسه. فالناس قلوبهم مفعمة بالجنون ما عاشوا وهم إذا ماتوا لحقوا بسكان القبور.

فلما تلوت في التوراة هذه الآيات استولى علي العجب والدهشة ولبثت حائراً مبهوتاً. ولم أك أحسب أن التوراة يكون فيه مثل هذا المعنى فصحت قائلاً مخاطباً الكتاب المقدس: وأنت أيضاً قد خامرتك الريب يا كتاب الأمل ويا سفر الرجاء!.

ماذا يظن الفلكيون حينما يحسبون مدار الكوكب ومجرى الرجوم ومواقيتها؟ ماذا يظن الطبيعيون حينما يرونك بالمجهر آلاف الحيوانات الدقيقة في قطرة من الماء؟ أيظن هؤلاء أنهم قد اخترعوا ما قد يرون وأن إسطرلابهم ومجهرهم هما اللذان يسنان قوانين الطبيعة ويضعان نواميس الوجود؟ وماذا كان ظن أول المشرعين حينما جعل يبحث عن الحجر الأساسي في البناء الاجتماعي فعارضه معارض فهاج غضبه فضرب الموائد النحاسية بكفه فأحس عند ذلك بقوة قانون الجزاء والمكافأة في أجزاء كيانه وأحس بصوت هذا القانون يصيح في أعماق نفسه؟ أفظن ذلك المشرع أنه هو الذي ابتدع العدل وأحدثه؟ وهل ذلك الذي كان أول سارق لثمرة غرس جاره ظن أنه هو أول من اخترع الإثم وابتدع العار؟ وهل كان صاحب ذلك الغرس حينما غفر لهذا السارق وبدلاً من ضربه إياه ترفق به وتعطف عليه وقال له: لا بأس عليك ولا حرج هنيئاً لك ما أخذت بارك الله لك فيه هلم إلي أزدك وأضاعف لك العطية وكذلك جزاه على الإساءة إحسانا. وأولاه على الإيذاء والإضرار براً وحناناً - هل ظن إذ ذاك أنه هو اخترع الحلم والعفو والمروءة. وإنه ابتدع المكرمة والفضيلة؟ رحماك اللهم يا إله الأرض والسماء! هاك امرأة تلهج بذكر الحب والصبابة ثم تغرو تندر وتنكث العهد وتنقض الميثاق، وهاك رجلاً يلهج بذكر الصداقة والإخاء ثم ينصح لي أن أبتغي أسباب العزاء والسلوان في الفسق والدعارة والسكر والعربدة وهناك امرأة تبكي لي رثاء ورحمة ثم تحاول أن تعزيني عن مصائبي بفتنة ساقها الملساء. وهاك توراة تلهج بذكر الله ثم تجيبني بألفاظ الشك والتهمة وسوء الظن.

وهنا أسرعت إلى نافذتي المفتوحة فنظرت منها في أعماق السموات ثم صحت قائلاً: أحقاً أيتها السموات أنت خالية فارغة؟ أجيبي أجيبي! هلا قبل موتي أريتني أن هذا الوجود شيئاً خلاف الأوهام والأحلام؟.

كان السكون العميق يغشي أنحاء ذلك الميدان الفسيح. وبينا أنا شاخص البصر في أعماق الجو ممدود الذراعين طرق أذني صوت حمامة ترجع الهتاف والهديل. فاتبعتها عيني وإنها لتحلق في السماء حتى إذا غابت عن بصري في زرفة السموات مرت من تحت نافذتي صبية تغني.

لم أحبب أن أذعن واستكين. ولكني رأيت أنه قبل استعراض الجانب المشرق في الحياة - هذا واقد ظهر لي لآن مظلماً مربداً كريهاً - يجب علي أن أجرب كل شيء وأحاول كل أمر. لذلك بقيت مدة طويلة ضحية للأحزان والآلام فريسة لمزعجات الرؤى والأحلام.

ولعل الشباب قد كان السبب الأكبر في عدم استفاقتي وامتناع صلاحي وتعذر شفائي فأينما كنت وكيفما كنت لم يكن يشغل بالي شيء سوى النساء فكلما وقعت عيني على امرأة عرتني هزة ورعشة. وكم مرة اتنبهت من رقدتي أثناء الليل أتصبب عرقاً فوضعت فمي على جدار الغرفة وأنا أشعر أني أكاد أختنق!

لقد قضيت ريعان شبابي وريق صباي في الحب الطاهر والهوى العذري فأصبحت كل معاني اللذة عندي مقرونة بذلك الحب منحصرة فيه ولكني علمت أن مثل هذا الحب لم يكن إلا ضرباً من المحال وشيئاً لا يكون في هذه الحياة. فأصبحت مصيبتي وبلائي أني كنت أبداً أفكر في النساء وأبداً أقرن بخيالاتهن في مصورتي معاني الدعارة والفسق والفجور والحب الكاذب وغدر النساء وخياناتهن وكيدهن. وكان اتصالي بأي امرأة هو في مذهبي حبها الحب الطاهر. فأصبحت الآن لا أفكر إلا في النساء ولا أعتقد بوجود الحب الطاهر.

فأورثني هذا الشعور ثورة نفسانية وهياجاً ونوعاً من الخبل والجنون. فجعلت أحياناً أقترح على نفسي أن أفعل كما يفعل الرهبان - أعني أن أفصد نفسي لأخمد ثوران الحواس. وأحياناً أفكر في الخروج إلى الشارع أو إلى الريف أو إلى أي مكان آخر فأرتمي تحت قدمي أول امرأة أصادفها وأعطيها عهد الله أن أمحضها الحب الصريح أبد الدهر وأكون لها على الدوام العبد الخاضع المطيع.

والله وحده شهيد إني لم آل جهداً ولم أدخر وسعاً في سبيل الاستفاقة من هذه الغمرة الكاربة والاستسفاء من هذا الداء الأليم. ففي أول الأمر وقد قام بعقيدتي أن مجتمع الرجال هو بيئة الفسق وبؤرة الفساد ومواطن الغدر والخيانة وإن الرجال كلهم فجرة خونة فشأنهم شأن حبيبتي - اعتزمت اعتزالهم جميعاً والركون إلى الوحدة والانفراد ثم عاودت الاشتغال بالدرس والقراءة فأقبلت على كتب التاريخ ودواوين الشعر القديم ومباحث علم التشريح. وكان في الدور الرابع من الدار رجل ألماني عالم تحرير قد اعتزل الناس وآثر الوحدة. فما زالت به حتى وعدني أن يعلمني لغته. ثم أخذ في إنجاز وعده بجد ولكن ساءه مني عزوب عقلي وشرود ذهني. وكم من مرة جعل ينظر إلي حائراً دهشاً ضاماً يديه فوق كتابه وأنا غارق في غمار أحلامي لا أعي ما يقول بل لا أسمعه ولا أراه ولا أبصر فرط أسفه علي ورثائه لحالي! وأخيراً قلت له جعلت فداك أيها السيد الكريم. إلا أنه لا مراء في الحق. لا شك أن فائدة من محاولتك تعليمي ولا ثمرة. على انك وايم الله أكرم من رأيت وأفضل الناس طرا، عبثاً تحاول إصلاحي وإنه وأبيك لأمر تعجز عنه قوى السموات والأرض. فدعني وشأني وما قد كتب لي وجرى علي. وإني وإياك لعلى حد قول القائل:

جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد أن هما شفيالي

فقالا شفاك الله والله مالنا ... بما حملت منك الضلوع يدان

لا أدري أفهم الرجل مني الرجل هذا الكلام الملغز وهذه الرموز والإشارات ولكنه ضغط على يدي دون أن يفوه بكلمة - وبذلك أغلق باب الألمسانية إلى الأبد.

ثم رأيت أن العزلة بدلاً من إصلاح حالي قد زادتها فساداً فعدلت عن هذا المذهب. فمضيت إلى الريف وانهمكت في الصيد وأخذت في شتى ضروب من الألعاب الرياضية فكنت إذا قضيت النهار الطويل بالعدو والركض والضرب والطعن والكد والكدح ثم انقلبت إلى الدار بعد الغروب متعباً منهوكاً يتفضخ العرق من جبيني وتفوح مني رائحة البارود والاصطبل لا أكاد أتماسك ولا أقوى على حمل بدني فتهافت على فراشي وأغمضت أجفاني التمس النوم وأستدرج شبحه الشارد امتنع مني ولج في نفوره ومثل أمامي طيف تلك الحبيبة فصحت قائلاً أناجي ذلك الشبح المائل: أيها الخيال أيها الخيال. ألا تزال تطاردني وتقفوني؟ حسبك الله أما تسأم؟ أما تمل ألا تعفيني ليلة؟ ألا تعفيني ساعة؟

فخبرني بالله أي فائدة جنيت من هذه المجهودات والمحاولات؟ إلا أن العزلة لم تصنع أكثر من انها أرجعتني إلى الطبيعة وألقت بي في أحضانها. والطبيعة أرجعتني إلى الحب وأقلت بي في أحضانه.

فعندما دخلت المشرحة بذلك المستشفى (في شارع الأوبزفانس) فألفيتني محوطاً بالخبث أمسح يدي الملطخة بالدماء في أطراف منديلي أصفر الوجه بين الموتى وأكاد أختنق بروائح البلى المعفنة المنتنة أصابني من ذلك أعظم الكرب وضاق صدري فزويت وجهي عن هذه المشاهد الأليمة والتفت خلفي فإذا المروج الخضراء والحدائق الزهراء. والخمائل الغناء وجمال شمس المغيب في جلال سكينة الغروب فناجيت نفسي قائلاً:

كلا! كلا. لن يكون في معاهد العلم عزائي! فما بي والله غير جمرة الشباب وجزوة الصبا من داء. وداء الشباب لا علاج له ولا دواء. فدعني أحيا حيث لجة الحياة زاخرة وريح الحياة ثائرة. وإن كان الموت فدعني أمت في الضياء وتحت سرادق السماء.

ثم تركت ذلك المعهد على جواد عتيق فطويت بساط الثرى حتى انتهيت إلى روض عشيب مزهر في واد عازب مهجور. فيا ويلتا لكان هذه الأودية والرياض كانت كلها تصيح إلي قائلة:

ماذا تبغي وماذا تريد؟ نحن في نضرة وأزهار. وفي بهجة واخضرار. نحن نلبس لون الأمل.

فعدت أدراجي إلى المدينة فأضللت نفسي في طرقاتها الغامضة. وجعلت أنظر إلى الأنوار المشرقة من نوافذ أعشاش الأسرات الخفية المجهولة وأرمق السابلة والمركبات السائرة. يالله أي وحدة وعزلة في هذا الجموع المحتشدة والفئات المزدحمة! وأي دخان كثيف السواد. كثوب الحداد. فوق المنازل. وأي أحزان وأشجان في هذه السبل الملتوية والطرق المتعطفة - حيث لا تبصر إلا عاملاً مجهوداً. وناصباً مكدوداً. وإلا ازدحاماً. وتدافعاً واصطداما. إن هي (أعني المدينة) إلا بالوعة تلتقي فيها الأجسام لا الأرواح وتجتمع فيها الأبدان فأما النفوس فشاردة الأذهان نادرة نافرة. وما أن تبصر العين فيها إلا فجاراً عاهرين يمدون الأيدي للسابلة! فإن كان للمدينة لسان لكانت نصيحتها لبني الإنسان والمذهب الذي تشير عليهم باتباعه هو: عليكم بالفسق والفجور والدعارة فإنها منفاة الهموم ومسلات المحزون والمغموم! هذه هي موعظة المدن لبني الإنسان وهذا هو إنجيلها ووحيها المنقوش على جدرانها بتراب الفحم وعلى أرضها بالأوحال وعلى وجوه أهلها بالدماء.

وكنت إذا شهدت محافل الرقص في فاخرات القصور فأبصرت الغانيات في الحلل والخمر والزرق والبيض يتوثبن بأقدام خفاف لطاف حاسرات الأذرع والصدور. منشورات الذوائب والشعور. كأنهن الملائكة قد ثملت بخمرة النور في فلك النغم والجمال - قلت في نفسي يا لكن الله أيتها الحسان؟ لأنتن والله بستان أي بستان! فأي رياحين أنتن اليوم مشمة وقطاف! ولكن خيرنني ماذا تقلن للعابث بكن إذ ينتزع آخر ورقة من ورقاتكن. أفلا تقلن له ترفق بنا وتحنن وابق فينا على البقية الباقية! لا بأس عليكن. هذه سنة الوجود - وهذا ختام حياتكن الفرحة المرحة وهذه غاية ضحكاتكن وابتساماتكن إلا فاعرفن أنه فوق أعماق هذه الهاوية السحيقة الهائلة ينتشر نسيجكن الحريري المهلهل المكلل بالأزهار والرياحين ويرفرف! وعلى شفا جرف هذه الهاوية تتوثب أقدامكن الخفاف وتتنزي!.

لقد قال لي مرة صاحبي ديزينيه لماذا تنظر إلى هذه الحياة النظرة الجدية؟ ما هكذا ينظر إلى الحياة غيرك. تقول إن الزجاجات من الخمر تخلو وتفرغ ألا فاعلمن انك واجد بدلاً منها في الكهوف، وإن الكهوف جمة على السواحل ألا فاصنع لي شبكة وزخرفها بخلابة القول وسحر البيان واجعل فيها طعمة من نحلة مجاجة بالعسل وألقها لي في نهر السلوان فصد لي بها مليحة حسناء ذات شماص وملاص يكون فيها عوض مما فاتني من وصل الحسان وفيها عزاء وسلوى. فإن أفلتت مني وأملست فإن الشبكة باقية. تقول لي الحب الحب، لا تزال تلهج بذكره. هلا دريت يا مفتون أن الحب اسم بلا مسمى ولفظ بلا معنى وخيال كاذب ووهم باطل! فكبر ظني أنك ستقتل نفسك حسرة في أطلابه ثم لن تنال شيئاً. هلا علمت أن الشباب دائب في انقضاء والصبا إلى الزوال. مهما امتد به الأمد وطال. فلو حزمت ورشدت لعمدت إلى ملكة البور تغال استبيتها بدلاً من إضاعة الوقت في دراسة التشريح والطب.

فهذه وأمثالها كانت نصائحه إلي وكنت إذا أنفضت تلك الحفلات والمراقص مضيت إلى داري.