مجلة البيان للبرقوقي/العدد 56/اعترافات دى موسيه

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 56/اعترافات دى موسيه

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 6 - 1920


الفصل السادس

وبينا أنا مغمور في لجة هذا الحزن الفياض واليأس العميق دفعتني حدة الشباب على مساعفة من الفرص المؤاتية إلي إتيان عمل كان فيه الحكم الفاصل في مستقبل أمري وحالتي لقد كنت كتبت قبل ذلك إلى حبيبتي أني لا أشتهي البتة أن أرى وجهها، وقد أمضيت هذا العزم ولكني بقيت مع ذلك أقضى الليالي العديدة تحت نافذتها على عتبة دارها. وكنت أرقب شعاع المصباح نم وراء زجاج النوافذ وأنصت إلي النغمات لمنبعثة من معزفها. وكنت أحياناً ألمح شخصيتها نم خلل السجوف والستائر.

فبينا أنا ذات ليلة جالس هذه الجلسة قد جهدني الحزن وبلغ مني الأسى بصرت بعامل يسعى وهو أثناء سعيه يتغنى بألحان متقطعة تشوبها صيحات نم الطرب. وكأنه كان قد أفرط في السكر فكان يتمايل في مشيته ويتخبط لا تكاد تحمله رجلاه. ثم أن هذا الرجل قعد على دكة إزائي فلبث برهة جاعلاً يديه تحت ذقنه ثم أخذه السكرى فغط غطيطاً.

وكان الشارع خلواً من الأنيس وقد وهبت ريح جافة أثارت التراب وأسفر القمر يترقرق غديره في روض سماء تطفو على نهر مجرتها أزاهير نجومها. فنظرت إلى وجه ذلك النائم تستضيء ملامحه في سنا القمر الباهر. وكان لم يشعر بوجودي. وقد خيل إلى أنه كان فوق ذلك الحجر أهأ هجعة. وأوطأ ضجعة. مما لو كان على فراشه بمنزله.

لقد أذهلني منظر ذلك الرجل عما كنت فيه من الحزن والكمد على الرغم مني. فنهضت لمغادرة هذا المكان ولكني ما لبثت أن عاودت مجلسي. والواقع أنه لم يكن في طاقتي الانصراف عن ذلك الباب وإن ظلت نفسي تأبى أن أطرقه ولو أن لي الدنيا بحذافيرها. وأخيراً قمت فتمشيت قليلاً ثم عرجت نحو ذلك النائم فوفقت أمامه.

وقلت في نفسي (ما أعمق نومه؟ ما أشك والله في أن مثل هذه الرقدة العميقة خيالية من الرؤى والأحلام. هذه ثيابه بالية. وعظامه بادية. ويداه مقرورتان. وذراعاه معروفتان. ووجته ذابلة. وجثته ناحلة. لا غرو أنه أحد أولئك البائسين الذين لا يملكون قوت يومهم. ينامون على غصص الكروب الفادحة. ويستيقظون على مضض الخطوب القادحة. وأكبر ظني أنه أصاب الليلة دربهمات فاشترى بها من بعض الحانات جرعة نم جرع النسيان أذهلته بالنوم عن آلامه. وكذلك قد أصاب في أجرة الأسبوع ما استجلب به رقاد ليلة - ولعل ما دفعه في ذلك إنما هو نفقة قوت عليه. والآن وقد ترك داره في مثل هذه الساعة فلا يبعد أن زوجته تغشه وتخدعه وتفتح باب حجرته لأنداده. وتبذل فراشه لخصومه وأضداده. ما أعمق نومه! ووالله لو أني ضربت بيدي على عاتقه وصحت به انتبه فلقد هجم عليك من بهم أو قلت له قم فلقد والله شبت النار في بيتك لما زاد على أن يتحول عن جنب إلى جنب ثم يعاود نومه.

وهنا انصرفت عن الرجل أسير في الطريق بخطوات فسيحة ثم استرسلت في مناجاة نفسي فقلت (هذه حال ذلك الرجل وعكسها حالي. فأنا الذي أملك من المال ما يمكنني من إدامة النوم عامين أو ثلاثة وتراني مع ذلك لا أكاد أحصل على ساعة من النوم إلا بشق الأنفس. وإني لفرط كبريائي لا أستطيع غشيان الحانات لاستجلاب النوم بالكأس كما فعل هذا الرجل. ولا أكاد أصدق أن كأساً نم الراح تذهب عن المرء آلامه وأوجاعه. ولا أدري كيف يتأني أن عنقوداً من العنب ينسحق تحت أقدام أناس عديدين مستطيع أن يبدد أوجع الأحزان. وأبرح الأشجان. وكيف ونحن من فرط الألم نبكي بكاء النساء ونتوجع توجع الشهداء ويخيل إلينا في وحشة اليأس والقنوط أن عالمه قد سقط على رؤوسنا فتصدع وتحطم وارفض حولنا بددا وتمزق أرباً أرباً. فنحن نبكي وننتحب كما كان يفعل آدم مطروداً على أبواب الجنة. أرشفة من المدام.؟؟؟؟ للغليل والأوام. تشفي آلام الإنسان. وتأسو جراح الأحزان؟ إذن فما أيسر خطبنا. وما أهون كربنا. إذا كان في حسوة نم المدام وشك شفائه. وفي نهلة من الشمول ذهاب دائه. ولقد يدهشنا أن عين العناية المطلعة على كل آلامنا وأوجاعنا. وعلى شهواتنا ورغباتنا. وأغراضنا وأوطارنا. وعلى عزائمنا وهممنا. وخيبتنا وفشلنا. وعلى لجج الشرور والآفات المحدقة ينا. المصطدمة حولنا. لا تكلؤنا ولا تحوطنا ولا ترعانا ولا ترسل إلينا ملائكتها الكرام ليقضوا حاجاتنا ويجيبوا مطالبنا فمالي لا أصنع صنيع هذا الرجل. ومالي لا أنام على هذا المقعد كما ينام على مقعده. لعل خصمي يخلو الآن بحبيبتي وسيفارقها مطلع الفجر إذ تشيعه إلى الباب وعساهما يرياني وإني لمستغرق في نومي. فإذا وقع ذلك فما أحسب أن صوت لثماتهما المتبادلة يستطيع أن يوقظني من رقدتي. فيضطران إلى إيقاظي بلكزة من كفيهما. فإذا فعلا فلن أنتبه ولم أزد على أن أتحول إلى جنب ثم أعاود النوم.

فامتلأت سروراً لهذه الفكرة ومضيت ألتمس حانة الشرب. ولما كان الوقت قرب السحر كان معظم الحانات مغلقاً فغاظني ذلك وأضرم نار غضبي فقلت في نفسي (ويحي ثم ويحي! أأحرم حق هذا المتاع القليل والعزاء اليسير. فعدوت مسرعاً في كل ناحية وجعلت أدق على أبواب الحانات وأصبح (خمراً! خمراً)

وأخيراً وجدت حانة مفتوحة فطلبت زجاجة من النبيذ وطفقت احتسي رضابها علاّ على نهل حتى أتيت ثم دعوت بثانية فثالثة وكنت أثناء ذلك أكره نفسي على الشرب إكراهاً كما يتوجر جرع الدواء مكرهاً. مضطراً يقاسي مرارته. ويعاني بشاعته. إذ كان يعلم في تعاطيه حياته. وفي تركه مماته.

وما لبثت أبخرة الشراب أن اشتملت على ذهني وقد أسرعت إلى النشرة بقدر إسراعي إلى الشرب. فأحسست في أفكاري تكدرا ثم صفاء ثم تكدرا. ولما فقدت ملكة التدبر والتروى رفعت إلى السماء بصري كالذي يودع نفسه واتكأت على المائدة. ويف هذه اللحظة ظهر لي أني لم أكن وحيداً في الحانة إذ أبصرت في طرفها الأقصى طائفة من أناس غلاظ الأصوات تخاف الوجوه شاجي الألوان: وكانت أزيائهم تدل على أنهم ليسوا من الشعب ولكن من تلك الطبقة الملتبسة المشتبهة التي هي أخبث الطبقات وأرذلها والتي لا أخلاق لها ولا منصب ولا ثراء ولا صناعة ولا حرفة إلا أن تكون حرفة سافلة مرذولة وهي طبقة لا إلى لأغنياء ولا إلى الفقراء قد أخذت من الأولى برذائلها وخسائسها. ومن الثانية بمتاعسها ومبائسها.

وكان أولئك القوم قد حمى بينهم ولميس الجدل على مائدة المقامرة. وكان بينهم فتاة صغيرة جداً رشيقة مليحة أنيقة الملبس بديعة الزي لا نشيه سائر الجماعة في أدنى شيء سوى صوتها وكان كأصواتهم خشناً مبحوحاً متقطعاً. وكان وجهها لفرط احمراره يوهمك أن الفتاة ما برحت منذ نعومة أظفارها تعالج مهنة منادي في شوارع البلدة. أقول لما نظرت إلى هذه الفتاة ألفيتها تحدد إلى طرفها كمن به حيرة ودهشة ولا جرم فلقد راعها وأدهشها أن يغشى مثل هذا المكان الحقير شاب في أفخر ملبس وأجمل شارة وأكمل زخرف وأبهج زينة. والحقيقة أن تأنقي كان مفرطاً خارقاً للعادة.

قامت هذه الغادة نم مجلسها فدنت مني في لين وخفة ثم رفعت الثلاث الزجاجات من أمامي وابتسمت حينما رأتها جميعاً فارغة. فراعني ثغرها الوضاح إذ رأيت ملثمها الحلو الرضاب

يفتر عن لؤلؤ رطب وعن حبب ... وعن إقاح وعن طلع وعن برد

ثم أني يدها وسألتها أن تجلس إلى جانبي ففعلت بلا احتشام ولا كلفة ودعت للعشاء على نفقتها. فرنوت إليها دون أن أنبس بكلمة واغرورقت عيناي فراعها مني ذلك وسألتني السبب ولكني وجمت فلم أحر جواباً سوى أني هززت رأسي كأني أبغي بذلك إطلاق العنان لمدامعي فأدركت الفتاة أن بي حزناً مضمراً وكمداً مستسرأ. ولكنها لم تحول استخراج دفائنه. ولا أراغت استثارة كوانمه. ببد أنها أخرجت منديلاً وجعلت أثناء تناول الطعام كلما فيض الدموع على وجنتي تمسح سيلها المنحدر. ودفاعها المتفجر فآنست في طبع الفترة مزيجاً من الغلظة والرقة ولالين والخشونة. وودجت في خلقها خليطاً نم القحة والرحمة والجرأة والحنان حتى جرت في أمرها وتعذر على أن أقف على حقيقة كنهها وماهيتها. فلو أن هذه الفتاة لقيتني صدفة في الطريق فتناولت بدب بمثل ما أبدت من الوقاحة وقلة الحياء لاستبشعت عملها واستبشعت صنعها. ولكن أدهشني جداً أن فتاة لم ترها عيني قط قبل الساعة تأتي فتجلس إلي ثم تؤاكلني وتمسح بمنديلها دمعي بلا أذني معرفة ولا مقدمة - حتى بقيت من الدهش صامتاً لا أفوه بكلمة أشعر بتقزز واشمئزاز يشوبه من الميل إلى الفتاة والافتتان بها. وهنا سمعت صاحب الحان يسألها هل تعرفني فأجابته نعم وسألته أن يتركني وشأني، وبعد برهة انصرف المنقامرون، وأغلق الخمار الباب الخارجي ومضى إلى خلف المكان وتركني والفتاة في خلوة. وكان هذا قد حدث بغاية السرعة حتى حسبتني في حلم وكأن خواطري وأفكاري تتعسف في متائه وأغماض وتتخبط في الغاز وأنفاق، وقد خيل إلى أني خولطت في عقلي أو أني أأتمر بوحي قوة آلهية وشيطانية.

فصحت بالفتاة فجأة (من أنت؟ وماذا تريدين؟ ومن أين تعرفينني؟ ومن أمرك أن تمسحي مدامعي؟ أهذه وظيفتك التي تؤدينها في الدنيا؟ وهل حسبت ني في حاجة إليك؟ ألا فاعلمي أني لن أمسك بأطراف أناملي؟ فخبرني ماذا تصنعين وماذا تبغين؟ هل المال تريدين؟ وهل بإظهار العطف والحنان لأبناء السبيل تحترفين؟ وبإبداء الرأفة والرحمة للمحزونين تتجرين؟ فإن كان ذلك فخبريني ما ثمن عطفك ورأفتك؟ وماذا تطلبين نظير ما تبذلن من حنانك ورحمتك؟

ثم أني نهضت من مجلسي وحاولت مغادرة المكان ولكنني وجدت رجلي تصطكان وتتعثران وأني أميد وأترتح وقد أظلمت عيني وتفترت أوصالي وتفككت مفاصلي وأن عرى قوتي تنحل وتنفصم، ودعائم بنيتي تنهار وتصدم، ثم مادت بي الأرض ودار الكون في ناظري وسقطت على أحد المقاعد صريعاً.

فأخذت الفتاة بيدي وقالت (أنك لفي ألم وعناء. لقد شربت شرب الأطفال وما أنت في الحقيقة سوى طفل وما نظرت إلى عاقبة ما أتن صانع، فاجلس الآن ههنا وانتظر حتى تمر مركبة وحينذاك تخبرني أين دار أمك وإلى هنا لك تحملك المركبة ولن أصحبك إذ كنت قد صرحت لي بأنك تستقبح صورتي ولا تراني إلا بغيضة المنظر كريهة الطلعة. وقد شفعت الجملة الأخيرة بضحكة طويلة.

وبينا هي تتكلم رفعت عيني إلى وجهها فليت شعري أكان حقاً ما رأيت إذ ذاك أم كان باطلا مما خيلته الخمرة، ووهماً مما زورته لنشوة - ولكني على أية حال أبصرت بوجه الفتاة في تلك اللحظة مشابهة مشؤومة لوجه حبيبتي. فحينما آنست هذا الشبه المنحوس تثلج الدم في عروقي وجمد مجراه، وقف شعر رأسي، ويزعم جهال الناس أن هذه الرعشة التي تصيب شعر الرأس إنما هي الموت يمر من فوق رأسي. ولكنه كان داء العصر ومرض الجيل، بل أن الفتاة نفسها هي كانت مرض الجيل ودار العصر، وقد جاءتني وجهها الأصفر الساخر المتهكم وصوتها الخشن الأبح وجلست إزائي في مؤخرة الحانة.