مجلة البيان للبرقوقي/العدد 56/عجز الذهن البشري

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 56/عجز الذهن البشري

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 6 - 1920



عن إدراك خفايا الأشياء

للبروفيسر وليم جمس

أجل إن من الخطأ سر اللذة في شؤون الحياة فقد أخطأ كل شيء هذه هي الحقيقة التي لا ريب فيها ولا مراء، بيد أننا محدودون قد انحصر نظرنا في لذة خصوصية لا نكاد ندرك سواها وقد عميت أبصارنا عن كل ما عداها، وكأن كل ما نستجمعه من مجهود لننفقه في نيل وطرنا الخاص لا يتم لنا إلا بالانصراف عن كل ما عداه نم أوطار الدنيا وبتقسية قلوبنا وتحصينها ضد ما خالفه من أغراض الحياة وشهوات العيش، هكذا خلق الناس وعلى هذا جبلوا وطبعوا، ولا يستثنى من سوادهم في هذا الصدد إلا أفراد قلائل بين شاعر أو قصصي أو فيلسوف في أودية الخيال قد هام، وأسلم ذهنه لأفانين الأحلام والأوهام ففي أمثال هؤلاء وأشباههم نم رجل اعتيادي عملي يصيب العشق حبه وفؤاده فيدرجه في سلكهم ويدخله في زمرتهم أقول في أمثال هؤلاء تنصدع هذه القيود وتنهار جدران هذا الجمود، وتتقوض تلك الأسوار الخارجية، وتنتهك هاتيك الحجب الظاهرية، فتبدو للعيان أسرار الحياة الباطنة، وتتجلى للإنسان مكنونات العواطف الكامنة، ويعود هذا العالم الخفي الوجداني المستسر النفساني، قد أضاء الذهن بأنوار حقائقه الزاهرة، وأنار نواحي الروح بأشعة سرائره الباهرة، فحينئذ يدرك المرد من أكناه الأمور وماهيات المسائل ما لم يكن يعلم،، وعندئذ يعرف أن ما قد وضعه لأشياء هذه الحياة وشؤون هذه الدنيا وأغراض هذا الوجود وأوطار العيش من أقدار، ومن قيم وأخطاء، كان كله خطأ وزوراً ومكذوباً، فيلتبس عليه نظام هذه القيم ويتشوش، ويختل ميزان هذه الأقدار والأخطار، وعندئذ تضمحل في نظرنا أوطار الشخصية السخيفة، وتتلاشى في أبصارنا مآربنا الذاتية الضيئلة الضعيفة، وعندئذ تبدو لنا الحياة في صورة مغايرة وهيئة مخالفة مباينة.

وهذا التغير والاختلاف قد أجاد وصفه واحكم بيانه زمبلي جوسيارويس حيث قال في إحدى رسائله الكلمة الآتية:

(ماذا تبصر أيها الرجل في جارك؟ أنت ترى في أفكاه وخواطره وفي مشاعره شيئاً مخالفاً لما يضمره جنانك، وينطوي عليه وجدانك أتن تقول لنفسك أن آلامه وأشجانه ليست كآلامك وأشجانك ولكنها شيء أسهل وألطف، وعبء أهون وأخف. هو يظهر لك كأن نصيبه نم الحياة وحظه من الوجود أقل نم حظك ونصيبك - كأنه مخلوق أبتر ناقص. فعنصر الحياة فيه أبرد وأجمد. وكوكب الحياة فيه أكسف وأخمد. ونار الحياة فيه أخبى ضراماً. وأبوخ احتداماً، فهي رماد بالقياس إلى شعلتك المتأججة، وجذوتك الملتهبة المتوهجة، وشهوته ضعيفة فاترة، بالنسبة إلى شهوتك المضرمة المستعرة، وكذلك قد عاشرت جارك الأعوام الطويلة في غفلة من حقيقة أمره، وعلى جهالة نم مكتوم حاله ومضمر شره، فأنت حين تزايله أجهل الناس به وأعماهم عن ماهيته وكنهه فأتن معه على حد قول القائل:

يا شاهداً يرنو بعيني غائب ... ومشاهداً للأمر غير مشاهد

لقد رأيت في جارك جماداً لا بشراً، ولم تر فيه ولا قلباً بل جحراً، فدع عنك هذا الغرور، وهذا الباطل والزور، وحاول أن تعرف الخلق، وتدرك الصدق، أن الألم حيثما كان ألم، واللذة أينما وجدت لذة، شأنهما ذلك سواء أكانا فيك أم في غيرك. إلا فاعلمن أنه في جميع أغاريد الطير وأساجيع الورق وأهاتيف القمارى بكل خميلة وروضة، وكل أجمة وغيضة، وفي جميع صيحات المتألم والمتوجع والمحتضر والمعاني سكرة الموت من الإنسان والحيوان وفي الزاخر الإقيانوس العديم النهاية الغاص بالملايين من الخلائق المائية المتنازعة على الحياة المتسابقة إلى الملمات، وفي الجماهير المكاثفة والجماعات المحتشدة نم الجوارح والسباع والضواري ومن القبائل العديدة والفضائل الجمة نم الهمج والمتوخشين. وفي كل بالأرض من الأمراض والأدواء والأحزان والأشجان ومن الفوز والانتصار والزهو والفخار. والهزيمة والاندحار. والزلل والعثار وفي جميع الخلائق من الذرة إلى المجرة. ومن سطور النمال إلى مواكب الأبطال. ومن أخس الأشياء وأوضعها. إلى شرفها وأرفعها. - في كل ما سردت وأوردت يبصر اللبيب المتبصر. والأريب المتدرب. عين ما يجيش بقلبه من تلك الحياة القوية. الجادة الذكية. المضربة الخفاقة، المنسكية الدفاقة. المحتدمة. المضطرمة. المأججة المتوهجة. البادية في عدد الرمل من الأشكال والمظاهر. المترائية في عدد الفطر من الصور والمناظر. التي لا تطفأ ولا تخمد أو تخبو نيران الشموس والأقمار. ولا تني ولا تخسر أو يقف الفلك المدار. فياليها الغافل أو المتغافل أدر في أنحاء الكون نظرك وقلب في أرجاء الوجود بصرك. فانظر قوة الحياة الهائلة ثم اصرف نظرك وحوّل بصرك وحاول إن استطعت أن تنساها أو تتناساها. فإذا عرفت هذه القوة الهائلة وأدركت في كل ذرة نم ذرات الكون معناها فلقد بدأت أن تعرف الواجب

أن تجلى أسرار الحياة بعد طول غموض واحتجاب قد يحدث لبعض الناس فجأة وبغتة ولكنه متى حدثت كان فاتحة عهد جديد في تاريخ حياته. ولقد قبل الكاتب الكبير إمرسون في هذا الصدد ما فحواه أن الحوادث التي تكشف لنا الحجاب عن أسرار الحياة يكون لها نم العمق ما ليس لغيرها من الحادثة وهذا العمق يقذف لنا من الحقيقة أضعاف ما تلقي به إلينا الحوادث العادية السطحية. ومن هذه الأحداث العميقة حادث الحب فالحب يعتري أحدنا فيزلزله زلزالاً ويصدع حجب روحه كأنما قد انفجر في أعماقها بركان. وقد تبدر من الإنسان فعلة يأسف على إتيانها تستثير في نفسه ندامة تظل سحابتها السوداء ناشرة ظلال الأسى فوق رأسه طول حياته ولكن لهذه السحابة بروق تريه شيئاً كثيراً من الحقيقة وإن كانت بروق صواعق.

ودقائق معاني الأسرار الغامضة ربما غتتنا نم ثنايا الجمادات وتضاعيف الكائنات الطبيعية. واستشهاداً على ذلك أسرد ههنا الفقرة الآتية من رواية. أو برمان، وهي قصة فرنسية كان لها في زمنها7 شأن. وها هي الفقرة. باريز في 7 مارس. كان الجو مظلماً بارداً وكنت أشعر بكآبة وانقباض فجعلت أطوف في الطرقات إذ لم أجد لي شغلاً سوى ذلك. فجزت أثناء جولتي ببضع أزاهير مدلاة على جدار. وكان بين هذه الأزاهير جلنارة قانية زاهية وكانت هذه الجلنارة أسطع عنوان على الشهوة الملتهبة والشوق المشتعل. وكانت باكورة رياحين الربيع فلما تنسمت عبقها. وتوسمت رونقها. أحسست كأن كل ما قدره الله من سعادة لبني الإنسان قد شاع في جوانحي واستفاض في ضميري. أجل أن خيال الحياة الملائكية الوهمية. وشبح السعادة الأبدية الحلمية. قد تمثل في صفحة ضميري تاماً مستكملاً. وإني أشهد الله أني ما شعرت قط بشيء يداني ذلك المعنى أو ذلك الشكل أو تلك المشابهة الخفية التي جعلتني أبصر في تلك الزهرة جمالاً غير محدود وجلالاً غير محصور. . . . . وليس في مقدوري ولا في مقدور أي إنسان أن يعبر بالألفاظ عن كنه تلك القوة وماهية تلك العظمة! التي لا ينهض بنعتها شيء في عالم السموات والأرض.

ومن ذا الذي يستطيع أن يصف بالكلام ذلك المعنى الذي لا شيء يسعه ويحتويه أو يشرح بالألفاظ ذلك المثل الأعلى من الحياة المثلى الذي يحسه المرء في أعماق قلبه ولكنه يشعر مع ذلك أتن الطبيعة لم تخلقه.

وكذلك الشاعران العظيمان وردذورث وشلى كانا مفعمين بمعنى ذلك السر الباهر المتجلى من وراء ظواهر الكائنات الطبيعية. فأما وردذورث فقد كان هذا السر يبدو لعينه هائلاً ذا معنى أخلاقي عظيم أو كما قال ذلك الشعار في بعض قصائده كان يبدو له كصوت مرحب منفرد في خلوة الطبيعية المنعزلة انظر إلى قوله:

لقد رأيت في كل كائن من كائنات الطبيعة - في كل صخرة وثمة وزهرة بل في كل حجر مفكك مما يكسو ظاهر الثرى - حياة وروحاً. لقد أعرت كل هذه شعوراً ووجداناً - لقد رأيت كل هذه تحس وتشعر وإن تشأ فقل أني ألحقتها بما له شعور وإحساس. أجل يا صاحبي أن كتلة الكون العظيمة لتبدو لي كأنها مغمورة في أثناء الروح مائجة خفاقة وكأن كل ما وقع عليه نظر يتنفس عن معان باطنة. ويبوح بأسرار كامنة.

وقد سمي وردزورث في قصيدة أخرى هذا السر الخفي الأنباء الصحيحة الواردة من قدسي المصادر عن خفايا الوجود هذا السر الخفي - هذا المعنى المستتر هذه القوة الرهيبة والحضرة المهيبة، التي تظهرها الطبيعة وتخفيها. وتنشرها صحيفة الوجود وتطويها، هذا الروح الخفي، والسر الجلي، لم يكن وردزورث الشاعر يدرك حقيقة ماهيته، أو يتجلى معالم صورته، أو يستطيع شرحه بالبرهان، أو يطيق وصفه بالقلم واللسان، بيد أن الذي قد=من عليه الله سبحانه وتعالى بوميض من ذلك النور المقدس ولمحة من ذلك السر الروحاني يطرب لا مثل شعر وردزورث الآنف الذكر ويرتاح لخفي معناه. وغامض مغزاه. ويبتهج بكل ما شابهه وجانسه من شعر ذلك الشاعر العميق - كالقطعة الآتية:

أسفر الصباح كالملك ذي السلطان يحتال في حاشية نم النساء، وموكب من الأنوار والأضواء، وكالبحر الجياش منفسح إزاءه مشرق الغرة، ضاحك الأسرة، وعلى كثب من ذلك تسمو الجبال الشماء، إلى عنان السماء، مصقولة الجوانب كأنها السحب الغراء، قد غمرت في نهر من الضياء، أما المروج الخضر والسهول والوديان فكانت ترفل في أبهى حلل الفجر الأرجواني. والصباح المتورد القاني، قد حليت نم الندى إجيادها بأمثال نظم الجمان وسحبت عليها الشمائل مطارفها عفية الذيول ممسكة الأردان، والدوح نم رحيق الجداول مرنح الأعطاف نشوان، والطير من طرب يرجع الهديل ويردد التحنان.

أفبعد هذا كله يعجب الناس أن رأوني أبدي غاية الفرح والسرور. وأعلن أقصى غاية الجذل والحبور. وهل أنا في حاجة أن أقول أن قلبي كان بالسعادة فياضا وأني تسربات من أنس هذا الصباح ثوب ملذة فضفاضا. في تلك اللحظة المانوسة عاهدتني الطبيعة على أن أكون في معبدها المقدس حد خدمته: وفي محرابها المطهر بعض سدنته. في هذه اللحظة السعيدة بايعتني الطبيعة على أن أظل روحاً من أرواحها الطاهرة. وملكاً من ملائكتها البارة: وبهذه البيعة الشريفة تمسكت وبهذا السبب المتين تعلقت: وها أنا ذا سير في ساحة الطبيعة الرحيبة: وأمرح في مراتعها الخصيبة: مباركاً مبروراً ممتعاً مسروراً:

ولكن خبرني أيها القارئ ماذا كان يرى جيران وردزورث من القرويين السخفاء: والفلاحين الأغنياء: ماذا كان يرى منهم حينما كانوا يرونه يسير - على حد قوله - في ساحة الطبيعة الرحيبة: ويمرح في مراتعها الخصيبة: عاشقاً لبديع الكائنات مستهاماً: مشغفاً بروائع الآيات صبوة وغراماً: بالسر الجليّ مولعاً مفتوناً وبالروح المقدس الخفي مولها مجنوناً؟ ماذا كان أغنياء المزارعين من عادى الناس يرون في شاعر بريطانيا الأكبر. وهو هائم على وجهه في السهول والأوعار. والحزون والأغوار: والبراري والقفار: كالصيد النافر والوحش الضاري. أو كالظبية التي قد تاه رشأها وطلاها: مولهة قد ضل بالقاع خشفاها: ينهب الأرض نهباً: ويستعف الفضاء تمهلاً أرخبباً: شارد الذهن فيما يظهر لبصائرهم العمياء عازب اللب شارد العقل - ماذا كان أولئك الغوغاء - وإن كان فيهم السري والوجيه والغني - يرون في شاعر بريطانيا بل في شاعر العالم أجمع - شاعر الإنسانية في كل زمان ومكان - سوي شخص أحمق معتوه أبله قد مسه الخيال - وما ذلك إلا لأنه قد خالف سيرتهم: وتنكب طريقتهم فلم يجعل غرضه الأبعد وهمّه الأوحد من الحياة زراعة الأرض مثلهم وبذر البذرة وسقى الأغراس والعزق والجني والحصاد وتربية الماشية والدجن وهلم جراً: وما أحسب أن أحد هؤلاء المزارعين القصار الأبصار الكلال البصائر خطر بباله قط أن يسائل نفسه - إذ ينظر إلى شخص وردزوروث غارقاً في بحار تأملاته - في أي شيء يفكر مثل هذا المخلوق وماذا يدور بخلده وماذا عسى أن تكون تلك الخواطر التي شغلته عمايمهم الناس من شؤون هذه الحياة وأغراضها ومآربها وأوطارها - وهل لا يجوز أن ما يملأ ذهنه من الأفكار والخواطر ربما كان ذا قيمة ونفسة؟ كلا ما أحسب أن أحد أولئك الأقوام عني بشيء لا قيمة له وصورة متحركة وكائن عدمه خير من وجوده على أننا نعلم بالرغم من ذلك أن فكرة ذلك الشاعر كانت مادة طالما استمدت منها أذهان الأجيال المتتابعة والقرون المتوالية ومنهلاً طالما استقت منه قلوب البشر على اختلاف أنواعهم وأجاسهم وتباين مللهم ونحلهم: ومن معادن وجدانه المفعم تقتبس الضمائر أنفس كنوز المكنون: ومن صهاريج روحه الجياش تستعير الألباب أثمن ودائع اللؤلؤ المصون:

وقد ألف الكاتب المشهور ريتشارد جيفريز: كتاباً جليلاً سماه قصة وجداني وحديث جناني ضمنها شيئاً كثيراً من وصف ما يجيش به قلب الشباب نم الطرب إلى مباهج الطبيعة والابتهاج ببدائع أسرار الكائنات: ومن ذلك فصل في شرح ما جلا بنفسه خواطر الفرح والسرور حينما كان واقفاً مرة على رأس جبل:

كنت منفرداً في خلوة مع الشمس والأرض لا رابع بيننا: فاستلقيت على مهاد العشب الوثير وجعلت أناجي الأرض والشمس من أعماق روحي والهواء والجو والبحر القصي وراء مدى البصر: لقد امتلأ قليب بحلاوة ذلك الشعور اللذيذ حتى فاض فأقبلت أسبح ببدائع صنع الله من شمس وأفق: وأرض وسموات طباق: وأمزج روحي بهذه المصنوعات الألهية وأصلي شافعاً صلواتي بما استثيره من النغمات الصامتة: والألحان الخافية: المنبعثة عن هذه الكائنات - كما يشفع المتعبد صلواته بأنغام الأرغن - على أن وجداناتي إذ ذاك هي مما يعني بشرحه البيان: ويعجز عن نعته اللسان أجل يا صاح إن الشمس الهائلة ضياء والأرض الراسية - الحنون الرؤوم - والجو الدافئ والهواء النقي أفعمت قلبي مسرة وعجباً: ملذة وطرباً: وبهذا الطرب مزجت صلواتي وبذلك التيه والعجب شفعت تعبداتي ولم أكن قصد بهذه الصلاة ولا بذلك الوجدان الروحاني والانفعال النفساني إلى شيء معين ولمنه كان مجرد انفعال ووجدان وعاطفة مطلقة وكان شوقاً وصبابة وغراماً وهياماً - لقد دفنت وجهي بين الأعشاب وقد تراخت أوصالي وتفترت مفاصلي وانحل عقد قوتي. وأنبت سلك مني وضممت الأرض حتى كدت أفني في هذه الضمة واعتنقت العشب حتى أوشكت أن أتلاشى في ذلك العناق وكأنما قد ضعت من شدة التأثر ضياعاً وكأن نفسي من فرط الطرب قد طاحت جباراً: ولو أن فلاحاً أو راعياً مربي عرضاً وأنا على هذه الحال لم يشكك في أن كل ما بي هو مجرد استلقاء على العشب التماس الراحة بضع دقائق ولم يكن ظاهر حالي يدل على أكثر من ذلك. ومن ذا الذي كان يدك ما ظل يجيش بفؤادي نم طوفان ذلك الطرب وما طفق يثور بضميري من عواصف ذاك الوجد والهياج وظاهر أمري لا ينم على أدنى شيء من باطنه.

ولا مشاحة في أن مثل هذه الساعة من الحياة تبدو حقيرة قليلة القيمة إذا قيست بالمقاييس التجارية الاعتيادية التي تجعل قيمة كل ساعة حسب ما يستفاد فيها نم المادة. ولكن خبرني أيها القارئ هل للقيمة التجارية المادية أدنى قدر إذا قيست بالقيمة الوجدانية الروحانية المعزوة لأمثال ما وصفنا من تلك الساعة الخطيرة التي تتفتح فيها صفحات زهرة القلب لاستيعاب الأنوار الملكوتية والنفحات القدسية فتزهو وتنضر. وتسقى بالفيوض الإلهية فتزكو وتثمر. وهل ما يستفاد في مثل تلك الساعة من كنوز العلم والحكمة يصح أن يقاس به ما يكتسب من خسيس المعدن الأصفر والأبيض في الساعات التجارية المادية؟

ومع ذلك فنحن نرى أن لمصالحنا المادية وشؤوننا العملية من فرط الضجة والصخب ومن شدة الجلبة واللجب. ما يصمنا ويعمينا عن كل ما عداها من الشؤون والمسائل. حتى لقد نستنتج من ذلك أنه ليس ثمت سيبل إلى الوقوف على شيء من أسرار الحياة ولا إلى استجلاء الغامض من محاسن الطبيعة إلا بانصراف الإنسان عن المطالب المادية وصيروته كمية مهملة وشيئاً عديم القيمة من الوجهة العملية في نظر المجتمع. وعلى ذلك ترى أن هذه الوظيفة السامية - وظيفة الانصراف عن الماديات إلى الروحانيات وترك عيشة الجمود والنحجر إلى حياة الإحساس اللطيف الرقيق. والشعور الحاد الدقيق وما يقتضيه ذلك من الامتزاج بروح الله المتفجرة نم كل ذرات الكون وجزئيات الوجود حتى يصبح الإنسان كأنه شعبة نم شجرة الوجود العظمى ولبنة نم لبنات هيكل الكون إلا كبر ووتراً حساساً من الأوتار المؤلف منها قانون الطبيعة إلا كمل - أقول وعلى ذلك نرى أن هذه الوظيفة السامية وظيفة لا يستطيع تعاطيها وتأديتها إلا الرجل المطلق الدنيا الهائم وراء الخيالات والأحلام أو الرجل المتصوف المجذوب ممن يسمونهم أهلا لباطن أو الرجل العاطل البطال المتشرد الرافس بقدمه الحرف والمهن والصناعات والمعايش وأساليب الارتزاق النستهام في حب الله الطارح نفسه تحت مهاب أدق المؤثرات وألطفها تحرك أوتار قلبه كما تنبعث أنفاس النسيم بأوتار المعزف. فتبعث أنغامها - فأمثال هؤلاء من متخيل حال. أو متصوف مدله أو متشرد عاطل هم القادرون على تعاطي تلك الوظيفة الروحانية السامية التي تغير اصطلاحات الدنيا في أسرع نم لمح على الجد والمجون على الوقار والحمق على العقل والطيش على الرزانة والبله على الدهاء والفقر على الغني والمسكنة على الجاه والصعلكة على الإمارة وتمحو في لمحة كل ما أحرزه لنفسه الرجل الدنيوي المادي من الامتيازات والمناقب والمفاخر طول عمره بالكد الناصب. والجهد الحازب. والسعي الدائب. وتعزو كل محمدة ومفخرة للمتشرد البطال. والنؤوم المضيع المكسال. فأتن أيها القارئ إذا استطعت تعاطي هذه الوظيفة والقيام بأدائها حق قيام أمكنك أن تصبر نبياً ولكنك لن تنال في المطالب الدنيوية نجاحاً.

يرى الكثيرون منا في شاعر أمريكا والت ويتمان نبياً عظيماً ورسولاً كريماً بما قد ألغى من الامتيازات البشرية المألوفة. والإصلاحات الاجتماعية المقررة المعروفة ولأنه لم يجد ولم ينظم من الصفات الإنسانية سوى تلك الخصال البسيطة الأولية العامة المشتركة بين كافة أفراد البشر. ومن ثم أصبح يعده الناس الأعلى للعاطلين، والنموذج الأسمى للضائعين المضيعين، إذ كان رجلاً جل عمله وصناعته التفرج بمشاهدة خلق الله في موكبهم المتواصل المستمر الأبدي ينظر إليه تارة من نافذة غرفته وأخرى من سطح مركبة. الأمنوبيس وآنا من طاقة القاطرة وآونة من قارب المعدية وهلم جرا، ويرى فيه طائفة أهل العمل وطلاب الدنيا وأيضاً الدنيا رجال العم وأعضاء المجمع العلمي الأكاديمي شخصاً حقيراً قليل الغناء عديم الفائدة والقيمة عدمه خبر من وجوده، ولا يبصرون في شعره أكثر من مجموعة صيحات وصرخات - وجمل مفككة خال معظمها من الفعل أو الفاعل - وأكثر ألفاظها تعجب وأحرف استغاثة وندبة، والحقيقة أن هذا الرجل كان يتحرك ودجانه، ويهب إحساسه ويجيش صدره وجنانه لرؤية جمهور الخلق ومحتشد الجماعات الإنسانية كما كان يجيش روح وردزورث الشاعر الإنكليزي لآنف الذكر لرؤية الطبيعة واجتلاء منظر الأرض والسماء. والجبل والماء. أجل لقد كن يرى في منظر المجتمع الإنساني قوة باهرة. وحضرة جليلة للشعور غامرة. جديرة أن تستغرق الذهن فتصرفه عما به هو أحق وأولى نم المصالح الدنيوية. والشؤون المادية مما هو أكثر من أن تسعه مرحلة العمر عند الرجل الجاد المجتهد الرابئ بعمره أن يضيعه في أمثال تلك الترهات والخزعبلات والسفاسف.

وإذا شاء القارئ أن يعرف رأي هذا الشيخ المتشرد الذي شاب فؤاده في العطلة ولاكسل والبطالة في الطريقة المثلى لانتهاز فرص الحياة السانحة من قبل الملكوت الأعلى إلى المختارين نم صفوة عباده وصرفها في اكتساب أفضل نعم الحياة وأكرم ثمرات العيش فليقل كلمته الآتية من أحد رسائله إلى صديق كان سواقاً لبعض المركبات العمومية. وهي:

نيويورك 9 أكتوبر 1868

عزيزي بيت - إن الجو ههنا غاية في الصفاء والجمال. ونهاية في الطيب والاعتدال فهو سجسج لا قرّ ولا حرور. مصقول الأديم لا غيم ولا صبير. ولقد بكرت الغداة إلى ضفاف النهر فسرت فرسخاً أو اثنين. وبعد فهل لك أن تعرف كيف أمضي ساعات النهار؟ فاعلم أني أصرف الشطر الأول إلى الظهيرة في حجرتي أقرأ أو اكتب ثم أذهب إلى الحمام ثم ألبس ثيابي وأترك الدار فألقي حبلي على غاربي وألقي زمامي بيد الأهواء تذهب بي حيث تشاء. لا أتقيد في تصرفاتي نم الأغراض المادية بحاد ولا دليل ولا أوثر في تقلباتي سبيلاً على سبيل. وتراني مع ذلك لا أشعر بطول الوقت ولا ثقله ولا أحس منه بفراغ بل أجد لدي من الأعمال والأشغال ومن المآرب والأوطار ما يملأ ساعات اليوم ويزيد. فأنا إذا ركبت إحدى المركبات العمومية بعد ظهر يوم فاندفعت بي في شوارع والطرقات كان لي فيما أمر به من مختلف المناظر والمشاهد خير مسلاة. ومبهجة وملهاة. ومستراد للعين ناضر بهيّ. ومستمتع للنفس. مستملح شهيّ. كيف لا توان المركبة لتعرض على البصر في ممرها من مناظر المجتمع صورة حية متجددة سرمدية - دوراً. وحوانيت وقصوراً. وأرصفة للسفن وحياضاً. وخمائل وجنات ورياضا. ومخارف. ومصايف. ومعارض ومتاحف. ومرابع ومعامل ومصانع. وعلى جوانب الطرق يتدفق تيار المارة بين رجال في المجاسد والمعاطف. والملاحف والمطارف. وأوانس حسان. يبن حاليات وعاطلات لكنهن من حلى الملاحة غوان. وأتراب كواعب. بأفئدة الرجل عائبات لواعب. بيض السوالف مصقولة الترائب. ذلك إلى المركبات في إسراعها. والعجلات في اندفاعها. والدراجات في انسيابها. والسيارات في انصبابها. وما يتخلل كل ذاك من هرج. ومرج. ومن ضجيج. وعجيج. ومن صخب. ولجب ومن فرح. ومن مرح. ومن نداء. وضوضاء. وكأني بك أيها الصديق لا تكاد تدرك فرط ما لكل هذا من الأثر في نفس متشرد مثلى ولا عظم ماله من الوقع في فؤاد صاحبك الذي لا ألذ في قلبه ولا أحلى في نفسه من منظر المتجمع الهائج المائج يمر به عارضاً شتى صوره وأفانين مشاهده لا بهاجه وإمتاعه وهو واقف ينظر إليه نظرة وادع متمهل طويل النؤدة بعيد الأناة ليس يعنيه من أمر هذا المشهد العظيم سوى أنه ينظر فيتدبر. ويشهد فيتفكر. ويرمق فيتبصر. ويرنو فيتذكر.

انتهت رسالة شاعر أمريكا الأكبر إلى صديقه السوّاق.

وما أشك أن الكثيرين من القراء سيعدون مثل هذا الصنيع شرّ طريقة لصرف الوقت وأسوأ مضيعة لفرصة الثمينة وعملاً لا يصح أن يصدر نم رجل قد جاوز مرحلتي الشباب والرجولة وأشرف على الكهولة مثل الشارع والت ويتمان ولكن خبرني أيها القارئ إذا نظرنا إلى لباب الحقيقة أي الرجلين أنفذ بصيرة إلى أسرار الحياة وصميم الحق - الشاعر والت ويتمان ينظر إلى الدنيا من مظاهر مركبة الأومنوبيس يستطلع خبايا النفوس وخفايا القلوب نم أسارير الوجوه مملوءاً فرحاً بتلاوة آيات الخلق مسطورة على صفحة الوجود تجيش روحه طرباً باستجلاء هذه الأسرار المكنونة أم أنت أيها القارئ منصرفاً عن هذه الآيات الروائع والآثار البدائع ممتلئاً نقمة واحتقاراً. ومقتاً واستصغارا. لذلك الشاعر الذي تراه في رأيك ونظرك الأسمى عاطلاً متشرداً مضياعاً للوقت النفيس في الصغائر والحقائر.

أرأيت إذا امتطى ظهر تلك المركبة رجل نم الأغنياء الموسرين بين المتقلبين في أحضان النعيم المضجعين في أمهدة الترف أو رجل من التجار أو المزارعين المهتمين بشؤونهم الشخصية ومسائلهم الذاتية أكان خياله الراكد الضعيف مستطيعاً أن يطمح إلى عنان السماء فيحلق إلى ذهب الأصيل وبديع وشى الغروب بألوانه البهيجة وأصباغه العجيبة كما يفعل خيال ويتمان أم كان بفطن في أعماق قلبه إلى هذه الحقيقة المؤكدة وهي أن الدنيا في أزمانها المتوالية المختلفة وعصورها المنوعة المتتابعة لم تكن تشتمل قط معان أقدس ولا على أغراض أجل وأسمى مما كانت تشتمل عليه ساعة كان ينظر إليها من ظهر مركبته. هذه هي الحياة أمامه وعلة نحو شبر منها الموت. هذا الجمال الذي يراه الساعة في الدنيا هو ذاك الذي قد كان لها منذ القدم - هذه حرب الحياة العوان ومعركتها الدائمة مشفوعة بثمراتها وفؤادها ولكن العين الجامدة البليدة لا ترى في ذلك المشهد سوى شيء سوقي اعتيادي غث سخيف ممقوت. قال الفيلسوف المتشائم توماس كارليل ذات يوم لصديق كان يسايره تحت سرادق السماء المزدان بمصابيح الفلك وفد لفته ذاك الصديق إلى جمال روعة النجوم مه! إنه لمنظر يبعث على الحزن والأسى واذكر أيضاً أن تجدد منظر المجتمع على مرسح الحياة على أعين متتابع القرون والأجيلا وتكرر نظام الوجود العادي الأبدي الذي يملأ قلب ويتمان وأمثاله بذلك الفرح الباطن والطرب الدخيل كان يراه شيخ المتشائمين شوبنهور فيسوف ألمانيا العظيم المصاب بأعضل الأدواء وحشة القلب المظلمة وفراغ النفس الأليم الذي كان ينظر إلى الوجود من خلاله فيعيره وحشته وفراغه - مصدر الملل ومبعث الألم والسآمة. أليس هو القائل ما هي الحياة؟ أن هي ألا تجدد سخافات وتفاهات وتكرار أوهام وأباطيل وأصغار - وعين ما لم يزل نسمع ونرى منذ القدم من الصراخ والعواء ونبح الكلاب. وطنين الذباب! ولكنا على الرغم من مقالة كارليل ومقال شوينهور هذا نرى من صنف الخيوط التي تتكون منها هذه التفاهات والأباطيل والأصغار يصنع الوشى المنسوج منه كل ما كان ويكون وسوف يكون في هذه الدنيا من الشهوات والعواطف والنزعات والأهواء والأميال والمخاوف والآمال والأحزان والأفراح وسائر معاني الحياة!