مجلة البيان للبرقوقي/العدد 56/عالم الأدب

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 56/عالم الأدب

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 6 - 1920



دول العرب

لأمير الشعراء أحمد شوقي بك

لفتنا الأنظار في العدد الماضي إلى ذلك االفتح العظيم الذي أجاءه إلى عالم الأدب العربي أمير الشعراء أحمد شوقي بك بتلك الملحة التاريخية الخالدة الني وضعها وهو في أسبانيا وألم فيها بالدول الإسلامية العربية جمعاء ومن بينها الأندلس - وقنا ثمت أنا أخذنا من سعادته النبذة الخاصة بالدولة الفاطمية وأنه ناط بنا شكلها وشرحها ووعدنا القراء بنشرها في هذين العددين، بيد أن سعادته كان قد أعطانا نبدة أخرى قبل ذلك تتعلق بتلك الأحداث التي نشبت بين سيدنا علي وسيدنا معاوية رضي الله عنهما، وبالكلام على كل منهما وخصائصه منفرداً، وكنا بدأنا بشرحها قبل شرح الفاطمية ومن هنا نقدمها عليها في النشر وهذه النبذة العلوية المعاوية هي من بحر الرجز وسائر هذه الملحمة إنما هو من بحر الرجز ما عد المقصورة الفاطمية وموشحات في الأندلس، وقد التزم فيها كلها مالا يلزم - وهذا لزوم ما يلزم هو من المحسنات البديعية التي تجمل الكلام أن منظوماً وان منثوراً مسجعا - جاء في شرح التلخيص الذي وضعناه قديماً وطبع سنة 1904 ما يأتي. ان هذا التنوع من أشق هذه الصناعة وأبعدها مسلكاً وذلك لأن صاحبه يلزم ما يلزم وهو ان تكون الحروف التي قبل الفاصلة حرفاً واحداً وهو في الشعر أن تتساوى الحروف التي قبل روي الأبيات، ومن هذا النوع نثراً ماروي أن لقيط بن زرارة تزوج بنت قيس بنت خالد فحظيت عنده وحظى عندها ثم قتل فآمت بعده وتزوجت زوجاً غيره فكانت كثيراً ما تذكر لقيطاً فلامها زوجها على ذلك فقالت أنه خرج في يوم دجن وقد تطيب وشرب فطرد البقر فصرع منها ثم أتاني وبه نضح دم فضمني ضمة وشمني شمة فليتني مت ثمة فلم أر منظراً كان أحسن من لقيط. فقولها ضمني ضمة وشمني شمة فليتني مت ثمة من الكلام الحلو في باب اللزوم ولا كلفة عليه، وهكذا فليكن، ومن ذلك قول الحماسي

ان التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها

بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأدق - ها وأجلها

حجبت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وٌله وإذا وجدت لها وساوس ساوة ... شفيع الضمير إلى الفؤاد فسلها

وهذا من اللطافة على ما يشهد لنفسه. وممن قصد من العرب قصيده كله على اللزوم كثير عزة وهي القصيدة التي أولها:

خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... فلوصيكما ثم حللا حيث حلت

وهذه القصيدة تزيد على عشرين بيتاً وهي مع ذلك سهلة لينة تكاد تترقرق من لينها وسهولتها. وبعد فإن ما يقع من هذا النوع لمتقدم فهو غير مقصود منه ولذلك لا يرى عليه من أثر الكلفة شيء أما المتأخرون فقصدوا عمله وأكثروا منه حتى أن أبا العلاء المعري عمل من ذلك ديواناً كاملاً سماه ديوان اللزوم فأتى فيه بالجيد الذي يحمد والردىء الذي يذم - انتهى. أما لزوميات شوقي فهي كلها آيات فقد تنزهت عن شوائب الغموض، وخلصت من أكدار الحشو والتعقيد وهي بعد ذلك لا ترد على السمع فتصدر إلا عن استحسان - فكأنه التزم ما يلزم لا ما يلزم. . . وذلك عنوانه الشاعرية الحقة، والعبقرية الصادقة، وآية من آيات خصوبة الذهن وصفاء الروح والقريحة السمحة الحافلة، فضلاً عن غزارة المادة، وسعة الاطلاع والبسطة في العلم وامتلاك ناصيتي البيان، وهكذا فليكن الشعراء - وهكذا شوقي - ومن هنا كانت هذه الملحمة خليقة بأن تكتب على جبين الدهر، وأن يستظهرها الناشئون في جميع الأقطار العربية بعد أن يستظهروا كتاب الله. وهنا نطلب إلى كل قارئ أن يفتح ذهنه تفتيحاً حتى يفطن - مستعذباً جذلاً - بتلك الأسرار وأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز التي ينطوي عليها شعر شوقي، والتي تطالع الذهن الثاقب من خلال كل بيت بل كل كلمة فتعبث باللب كما تعبث الشمول - قال حفظه الله تحت هذا العنوان:

الخصمان

يا فطِناً بسير الكبارِ ... مُفتتناً بغرر الأخبارِ

وطالبَ الجوهر في التراجم ... مُلتمسَ التِبرِ من المناجم

جئتك بالبرجاس والمريّخ ... خَصمَين بين يدي التاريخ

فرنْتُ خيرها تقىَ وعلماً=بخيرها سياسة وحلما

بل قرنْتُ بينهما أيدي الغِيْر ... وافترقا على التلافي في السير

أبو الشهابين وهل يخفى القمر ... والثاقبُ الرأي اللعوب بالزُمر أو قيمُ الدين ولا أحابي ... وقيم الدنيا من الصِحاب

ان ذُكر الآباء جاآ القمر ... جَدّا تمناه العتيق وعمر

تحدرا مُزْنَين من غمامِ ... ولاقيا الدِيمة في الاعمامِ

قُربى على تفاوت المنسوب=كالمُومِ والشهد من اليَعسوب

  • * *

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه

أما الإمام فالأغرّ الهادي ... حامي عرين الحق والجهاد

العمران يأخذان عنه ... والقمران نسختان منه

أصل النبي المجتبى وفرعُهُ ... ودينه من بعده وشرعهُ

وَصفحتاه مقبلاً ومدبراً ... وفي الوغي وحين يرقى المنبرا

يدنو إلى ينبوعِه بيانا ... ويلتقي بحراهما أحيانا

الحجرُ الأول في البناء ... وأقربُ الصحَب بلا استثناء

وأوهدُ الناس وفي الدنيا يدُه ... وأخشع العالم وهو سيدهُ

وجامع الآيات وهي شتّى ... وسُدّة القضاء باب الأفتا

والسُّهدُ الآوِى إلى أشواقِه ... إذا الظلامُ مَدّ من رُواقِه

بَحْرُ الهوى والقومُ رَكْبُ السفن ... كم من شِراع دون

يا ليتَ شِعْري والأمورُ تخفى ... والفِكْرُ في هذا الطريق يحفَى

ما ساَء هذا الناسَ من عليّ ... وحاد بالناصر والوليِّ

وغَرَّ بالليث الذّئابَ العَاويهْ ... وسهَّل الغابَ على معاويهْ

قيلَ دَمُ الشيخ الضعيفِ المسلم ... يَطْلُبُه اللهُ وكلُّ مُسلِم

تركُ الإمام قاتلَ الإمامِ ... أخلَّ بالهيبة للزمام

وقيلَ بلْ أدَلّ بالمكانَهْ ... ولو تَصوَّر الخشوعُ كأنهْ

والزَّهوُ أحياناً من المعاني ... أن سال من معاطِف الشجعان

وقيل في سياسة الطباع ... وفي المدارة قصيرُ الباع

لو صانعَ الإمامُ أو تأنى ... مابلغ الشاميُّ ما تمنى وقيلَ علمٌ مالَه انتهاءُ ... لم يَجْرِ فيه الرأيُ والدهاء

في ثقةٍ بمن به لا يوثَقُ ... ولا يدوم عهدُه والمْوثِِق

ونبذُ رأي الناصح المماحِض ... في قُحَم الأمر وفي المداحض

وقيل أخفىَ للثلاثةِ الحسَدْ ... وكادت الجيفة تأكل الأسَد

لا بل هو المنازِعُ التوَّاق ... طِلْبتُه الأعباء والأطواق

سما إليها بعيون الفضل ... وحنّت الحسناء تحت العَضْلِ

من كان في منزلة الرفيع ... يَدر مكان مِنْبر الشفيع

وطالما استأخر غيرَ قاحِم ... ولاذ بالحياء لم يزاحم

ياجبلا تأتي الجبال ما حمل ... ماذا رمت عليك ربة الجمل

أثارُ عثمانَ الذي شجاها ... أم غصَّة لم يُنتزع شجاها