مجلة البيان للبرقوقي/العدد 56/محاورة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 56/محاورة



بين فقيه متدين وفيلسوف ملحد

للفيلسوف الألماني الأكبر آرثر شوبنهور

تابع لما نشر في العدد الثالث من هذه السنة

الفقيه - إذا كانت نتيجة تعاليم المسيحية لم تجيء متفقة مع هذه الملة الغراء في الطهر والنقاء فلعل السبب في ذلك أرجع إلى أن شرف المسيحية وقداستها هي أعلى وأرفع من أن ترتقي إليها الإنسانية مع ما قد ركب فيها من غرائز السفال وما جبلت عليه من نحائز اللؤم والضعة - وإن أغراضها أسمى من أن تنالها همة البشر الضعيفة الواهنة الكليلة الوانية مع ما يقعد بها من دواعي السقوط والضعة والإسفاف. ولا مراء عندي في أنه أهون على بني البشر وأيسر أن يتبعوا شريعة الوثنية أو اليهودية. ولا مشاحة في أن أسمى ما في المسيحية وأسناه. وأشرفه وأعلاه. هو أقربه أن يجعل ذريعة إلى الشرور والإضرار. أفلا ترى كيف عمد ذوو المآرب والغايات إلى أقدس عقائد المسيحية فاتخذوه سلّماً إلى إتيان أشنع المآثم. واقترف أفظع الجنايات والجرائم. ونحن قد أسلفنا أن انقراض النظامات الأوروبية القديمة واضمحلال الفنون والعلوم اليونانية والرومانية معزوّ إلى غزوات الشعوب البربرية أثناء القرون الوسطى. فلا غزو للحالة هذه إذا رأينا الجهالة والهمجية قد تسيطرت وتسلطت ونهضت دولة العنف والاعتساف. وقام سلطان البغي والإجحاف. وأصبحت فئة الإشراف وطائفة القسوس على كاهل الإنسانية كلاّ. وعلى عاتق الجماعات عالة وحملا. وبعض السبب في هذا راجع إلى أن المسيحية جعلت تحث على ترك المصالح الدنيوية والأخذ بالمصالح الدينية وتعلم الناس أن اتقاء السريرة وسلامة الطوية مفضلة على العلوم العقلية والمعارف الذهنية، وتحض على إطراح اللذات والملاهي التي هي في الحقيقة ثمرات العلوم ونتائج الصناعات والفنون. على أن المسيحية لم تحث على ترك العلوم والفنون فيما يعود على الدين بالفائدة بترويح شرائعه ونشر مبادئه وتعاليمه وعلى ذلك فقد استبقى للفنون والعلوم رواجها وانتشارها في هذه الناحية وهذا المجال.

الفيلسوف - مجال لعمر أبيك ضنك ضيّق - لقد صادف رجال الدين في العلم رفيقاً متهماً ظنيناً. وصاحباً لا موثوقاً به ولا مأموناً. فشددوا عليه الرقابة والتضييق وشدوا عله كل غل محكم وقيد وثيق. بينما الجهل وهو ذاك العنصر الضروري لنفاق مذاهب الدين قد بدل أقصى العناية في حفه، ورفه. وفي تأييده. وتعضيده.

الفقيه - ومع قولك هذا فنحن نرى أن الذين استنقذوا ودائع العلوم الأولين نم هاوية الفناء. وتلافوا نفائس فنون الأقدمين من شفا جرف الهلاك والتواء. إنما هم قسوس النصرانية من جلة الرجال. ولا سيما من سكن منهم الهضاب والجبال. فماذا كانت إليه تنتهي الحال لو أن المسيحية لم تظهر في العالم قبل غزوات الشعوب الهمجية وغارات الأمم المتوحشة البربرية؟

الفيلسوف - هذا لعمري مبحث عظيم جليل الفائدة لا مريء حر نزيه شريف الغاية نبيل المقصد. يتحرى سبيل العدالة والإنصاف ويتنكب طريق الجور والإجحاف. يوازن بأحكم قسطاس. ويوضح بأسطع نبراس. بين ما للمسيحية من مزايا وحسنات. ومخازي وعورات. ويبن ما نجم عنها من فائدة وخير وكارثة وشرّ.

ولكن الذي يتصدى لمثل لهذا هذا البحث يجب أن يكون لديه من المعلومات التاريخية والبسيكولوجية ذخيرة أوفر مما لديّ أو لديك. فهو عمل أحق بالقيام به المجامع العلمية (الأكاديمية). ولكن حسبنا الآن رجل إحصائي يبين كم عدد الجرائم التي تحول البواعث الدينية دون وقوعها وكم عدد الجرائم التي تحول دون وقوعها بواعث أخرى. فاعتقادي أن الرجل إذا أحس في نفسه ميلاً إلى اقتراف جريمة فلا مشاحة في أن أول ما يخطر بباله هو الخوف من عقوبة القانون التي لا بد سيلقاها - ثم يتلو ذلك مسألة تعريضه سمعته للتشويه. ولا عندي في أنه سيفكر الساعة تلو الساعة في هذين الأمرين قبل أن يخطر بباله أدنى شيء من الاعتبارات الدينية وإني لعلى يقين من أنه إذا استطاع أن يأمن شرّ هذين الخطرين - خطر القانون وخطر تشويه سمعته فقلما تقف في سبيله دون الجريمة الموانع والعوائق من قبل الدين وزواجره.

الفقيه - إلى لعلى خلاف رأيك في ذلك، اعتقد أن زواجر الدين كثيراً ما تقوم عقبة دون ارتكاب الجرائم ولا سيما إذا كانت المؤثرات الدينية تحدث أثرها من طريق العادة فتزجر الإنسان عن مقارفة الجريمة لأول وهلة وذلك لتشبث المرء بما جبل عليه ولأن اعلق المؤثرات بالنفس أقدمها عهداً. وإذا طلبت مثلاً على ذلك فإذا كركم من رجل - ولا سيما الكريم العنصر الشريف المحتد - يضحي الضحايا العظيمة من ذات ماله وجاهه ونفسه ليفي بموعد أو يبر بقسم ولا باعث له على ذلك سوى ما كان أبوه لا يزال يوصيه به في الصغر من أن الرجل الشريف الكريم البعيد الهمة لا يمنعه من الوفاء بالعهد مانع مهما عظم

الفيلسوف - لقد غابت عنك أن هذه لن تنجع حتى تصادف المؤثرات من المرء نفساً شريفة وغريزة كرم ونبل فهي كالبذور ولا يزكو لها غرس وتينع ثمرة حتى يصيب تربة خصبة كريمة. فلا تعز إلى الدين خطأ من حسن الأثر ما هو في الحقيقة نتيجة الغريزة الطيبة والخلق الشريف الفاضل الذي يعز على صاحبه أن برى الشخص المقصود بالإساءة يقاسي الألم والعذاب فيمنعه ذلك من إتيان الجريمة - فالزاجر إذن عن الجريمة هي الرحمة الغريزية الفطرية التي لا صلة لها بأن تعاليم الدين البتة.

الفقيه - ولكن هذا الباعث الغريزي من الرحمة والمروءة لا يكون له تأثير في الجماعات حتى يمزج بزاجر من الدين يظل له بمثابة مؤيد ومعضد. على أن البواعث الدينية وحدها بلا أساس ولا معين من الغرائز الفاضلة قد تمنع من ارتكاب الجرائم. وما هذا بمستغرب في أمر الجماعات إذا ذكرنا أن طوائف المتعلمين المستنيرين ربما تأثروا في كثير من الأحايبن بالعوامل الدينية بل بأسخف الخرافات والترهات يسترشدون بها ويستهدون في كثير من شؤونهم طول أعمارهم - كأن يمتنعوا مثلاً من مباشرة الأعمال أيام الجمعة ويأبو الجلوس على المائدة ثلاثة عشر نفساً ويؤمنون بالعرافة والقيافة يتشاءمون بالبوارح. ويتفاءلون بالسوانح - وإذا كان هذا شأن المتعلمين المستنيرين فكيف بالجهال من الغوغاء والدهماء. وإنك يا صديقي لن تستطيع أن تتصور شدة ما نشأت عليه أذهان العامة من الضيق وعقولهم من الكثافة والبلادة فإنها وأيم الله مفعمة بالظلمات ولا سيما إذا كان ينبوع مادتها القلوب الخبيثة والنفوس الخسيسة. فأمثال هؤلاء وهم السواد الأعظم من البشر ينبغي أن يسيروا ويقادوا جهد الطاقة بالبواعث الخرافية حتى يرتقوا بفضل التأديب والتهذيب إلى مستوى إدراك ما وهو أقرب إلى الحقيقة وأبعد من الخرافة وحسبنا دليلاً على قوة سلطان الأديان. وبليغ أثره في النفوس والأذهان. ما يزوى عن الثقات من أن لصاً طاب نفساً عن متاع نفيس غالي القيمة مما سرقه فرده إلى حيث كان قد سلبه وذلك بفضل تأثير قسيسه المقرر إذ افهمه أن نجاته من النار متوقفة على رد ذلك المسروق. ثم انظر إلى مسألة القسم وتحليف ومالسلطة الأديان من قوة الأثر والمفعول في هذا الصدد. وخبرني ما الذي يحمل الرجل من العوام والكثيرين من غير العوام على توخي الصدق في موقف التخليف - أهو لأن المحلف قد وضع نفسه في مصاف النبلاء المتروكين إلى طهارة ذممهم وصحة ضمائرهم الناظرين إلى شرف منزلتهم الأدبية وسمو مرتبنهم الاجتماعية - كما هي الحال في فرنسا حيث ينحصر القسم في قول المحلف. بشرفي أو كما هي الحالة عند بعض المذاهب في إنكلترا حيث يقتنع بقول الرجل نعم أو بلا أدنى قسم - أم هو لمحض اعتقاد المحلف أن اليمين الكاذبة معطية ومرداة ومدرجة إلى سقر وبئس المصير؟ وعلى أية حلا فالبواعث الدينية ليست سوى وسائل لا يقاظ الشعور الأخلاقي واستثارة الإحساس الأدبي. وأتن ترى الرجل رما أجاب إلى حلف القسم الكاذب بادئ ذي بدئ حتى إذا طلب إليه تنفي ذلك رفض فجأة - وبذلك يظفر الحق على الباطل وتفوز الفضيلة على الرذيلة - وما ذلك تأصثير الدين في نفسه.

الفيلسوف - ومع ذلك فنحن لا نزل نبصر الجرأة على القسم الكاذب نزداد استفاضة وانتشاراً ونبصر نتيجة ذلك من هزيمة الحق واندحار الفضيلة بمرأى ومسمع من الشهود الوافقين على الحقيقة. فالواجب والحال هذه أنن لا يجعل اليمين في المحاكم إلا بمثابة الملجأ الأخير للقضاء وعلى هذا لا ينبغي إلا كثار منه ولا تصح الاستعانة به إلا في الضرورة القصوى وفي هذه الحالة الحرجة يجب أن يرفرف جلال الوقار على مقام التحليف ويكون ذلك بحضرة القسوس ورجال الدين والأليق أن لا يجري هذا العمل إل بين جدران كنيسة بجوار الحكمة. على أنك محق في اختيارك مسألة التحليف شاهداً على نفوذ الديانات العملي وتأثيرها الفعلي. وأني مع كل ما ذكرت وسردت لأشك في أن نفوذ الدين يمتد إلى آمد بعيد وراء مسألة التحليف.

وأني أناشدك أن تصور لنفسك ماذا تكون الحال إذا أعلن على رؤوس الملا أن الحكومة قد أصدرت قراراً بإلغاء قانون العقوبات بحذافيره وأناشدك أيضاً لو أنه حدث ذلك أكنت تجرؤ على الذهاب وحدك من ههنا إلى دارك تحت حماية البواعث الدينية. ولكن لاشك هنالك مطلقاً في أنه إذا أعلن على رؤوس الملا كافة بطلان الديانات وكذبها فانمحى من النفوس أثرها. ومن القلوب ذكرها. فإنا لا نفتأ بعد ذلك ننعم من العيش بمثل ما كنا به ننعم أيام عز الدين في سلطانه. وشباب الدين في عنفوانه. فنحيا بفضل حماية القوانين وحدها حياة لا تزيد فيها مخاوفنا ولا محاذرنا ولا تكثر فيها وسائل تحفظنا واحتراسنا وتقوانا من أذى المجرمين وشر المعتدين عما كانت عليه من قبل. على أني أذهب في رأيي إلى أبعد من ذلك فأقول أن الدين هو في الأحابين الكثيرة مفسدة للأخلاق. وبيان ذلك أن واجباتنا نحو الله تكون في مذهب الدين في الأحابين الكثيرة عكس واجباتنا نحو أخينا الإإنسان، وأن من السهل أن يكفر الإنسان عن إساءته للبشر بتضرعاته إلى الله. ومن ثم لا نزال نرى السواد الأعظم نم الخلق في كل زمان ومكان يجدون الصلوات والعبادات أسهل في التماس ثواب الآخرة واجتناب عقابها من حسن معاملة الناس وإتباع سبل الخير والإحسان حتى يصبح المذهب الشائع في كل دين إذ رضى الله وغفرانه ومثوبته وإحسانه، لتنال برسوخ العقيدة وعمق الإيمان وبإقامة الشعائر والمناسك والمراسم والمواسم بأكثر مما تنال بمكارم الخلال، ومحامد الفعال وبإتباع منهج الفضل القويم، وصراط الخير المستقيم. وإذا كانت إقامة الشعائر الدينية والمراسم والمناسك تدر على معشر القسوس ورجال الكنيسة بالخيرات. وتفيض عليهم بالغنائم والثمرات. كانت ولا شك أخصر طريق إلى الجنة وأمنع وقاية من النار. وها نحن نرى تضحية القرابين من صنوف الحيوان وتلاوة الأدعية والأوراد ونصب الصوامع والصلبان على جوانب السبل والطرقات تعد في آراء الناس من أعظم ما يتقرب به إلى الله لمحو الذنوب وتكفير السيئات حتى أشنع المآثم وأفظع الجرائم كما يتوسل أيضا إلى العفو والغفران بالتوبة والندامة وبإنابة والاستغفار وبالخضوع إلى أحكام القساوسة ورجال الكنيسة وبالاعتراف والحج إلى مقامات الأولياء ومزارات القديسين وبالهبات والعطايا والتبرعات للكنيسة وتسوسها. وتشييد إلهياً كل والأديرة والمعابد حتى أصبحت طائفة القسوس وكأنما لا وظيفة لها إلا الوساطة يبن المخلوق والخالق وجمل الرشوة من المذنبين إلى خزينة الآلهة. وإذا كان الأمر لا يصل إلى هذا الحد فقل لي جعلت فداك أين القساوسة الذين لا يرون الصلوات والأدعية وأناشيد الحمد والاستغفار وغير ذلك من ضروب الشعائر والمناسك كفارة للذنوب وعوضاً وبديلاً من مكارم الأخلاق ومن البر والتقى والصلاح؟ انظر إلى قساوسة إنكلترا الوقحاء المتبجحين كيف سوّغوا لأنفسهم المطابقة بين يوم الأحد المسيحي ويوم السبت اليهودي وجعلوا هذ هو ذاك بعينه بالرغم مما قضاه القيصر قسطنطين من جعل الأحد ضداً للسبت، وكرّس الأول على الفرح والابتهاج واللهو والتلذذ إذا كان معنى الأحد هو يوم الشمس وتألقها بالنور والسرور. فكان من نتيجة تزوير القسوس وتموبههم هذا بأن حرموا على الناس أدنى اشتغال بالأمور الدنيوية من لذة أو منفعة كمباشرة أي صنف من الألعاب أو الملاهي الطيبة الحلال وتعاطي الغناء والعزف بالآلات والغزل والنسيج والحياكة وقراءة الكتب منزلين كل هذا منزلة الذنوب والخطايا واقفين يوم الأحد على التعبد والتسنك وقضاء الساعات الطوال في الكنسية واستماع إلى خطبة مملولة مسؤومة. وتريد سخافات غير معقولة ولا مفهومة.

عد عن ذكر هذا وانظر رعاك الله إلى زمرة أرباب العبيد وتجار العبيد في الولايات الحرة بأمريكا (حقها أن تسمى ولايات العبيد) هل تراهم إلا من صفوة المتدينين ونخبة الأتقياء الصالحين من تبعة الكنيسة الإنكليزية وهم مع ذلك أبالسة في صور آدميين. وأجساد بشر على أنفس شياطين. ترى حياتهم سلسلة آثام، ومتوالية إجرام. ويبلغ من فرط تظاهرهم بصحة الدين. وتكلفهم لقوة العقيدة واليقين. أنهم يتنزهون عن تعاطي الأعمال في الآحاد. ويكرسونها على عبارة رب العباد. ويحسبون أنهم يخدعون الله بهذه الأباطيل ويدخلون الجنة بهذه الأكاذيب والأباطيل.

إن من حمق الحمق وأسخف السخف أن يحسب الناس من أمثال هذه الأضاحي والقرابين والمواسم والشعائر والمراسم فيها كفارة عن مآثم الأديان وشنائعها وفظائعها كالاضطهادات والحروب والمذابح الدينية مما برأ الله أهل المدنيات القديمة عن ارتكاب مثله - كالحرب الصليبية - تلك المذبحة التي دامت نيفاً ومائتي عاماً وبرر فيها إزهاق الأرواح باسم الله ظلماً وجوراً. وكل ذلك من أجل الاستيلاء على قبر إنسان كان يوصي بالسلام والتآلف والوئام - وكجريمة طرد المسلمين واليهود من الأندلس وكالمذابح ومحاكم التفتيش وغيرها من المحاكم الملية وغزوات المسلمين الدموية الرهيبة في جميع أنحاء العالم وغزوات المسيحيين في أمريكا حيث استأصل الغزاة أهلها الوطنيين ولا سيما في جزيرة كوبيا فقد قال المؤرخ لا كازاز أن عدد من أفناه الأوروبيون في أمريكا بلغ اثني عشر مليوناً في ظرف أربعين عاماً باسم الدين طبعاً ونشر الإنجيل ولأن كل ما خالف المسيحية كان يعد في آرائهم الفاسدة خارجاً عن دائرة الإنسانية فهو بالإعدام خليق. وبالإبادة حقيق، ولا أنكر أني قد شرت إلى هذا آنفاً. ولكن المقام ههنا يأبى إلا تكرار ما تقدم. ثم لا تنس ما ارتكب أهل الدين في أقدس بلاد الله أعنى الهند الإنسانية ومنيت البشرية أو على الأقل منبت النوع الذي منه تسللنا وإليه نعزي وننتسب وما كان من جناية أؤلئك المجرمين أهل الدين على ديانة الهنود أصل الديانات ومنبع العقائد بتدميرها كلها البديعة ومعابدها العجيبة وما حوته من روائع الدمى والتماثيل والصور. وأفظع تلك الجرائم ما؟؟؟؟ الملكان المسلمان مرمود وأورنزيب قاتل أخاه، وما ارتكبه بعد ذلك البرتغاليون تقليداً لفظائع هذين الملكين واقتداء بسوء آثارهما. ولا تنس أيضاً شعوب اليهود ذلك الشعب المصطفى المختار الذي تقول على الله أن أمرهم بسرقة الأوعية والأواني الذهبية من أصحابهم وآباء مثواهم المصريين وكان أقرضوهم إياها ثم فروا بما سرقوا وسلبوا الوادي المقدس طوى بطور سينا يقودهم زعيم العصابة موسى كما ينتزعوا تلك المسروقات من أيدي أربابها الشرعيين ظلماً وعدواناً وذلك أيضاً بأمر ربهم فيما يزعمون ويدعون. وما في قلوبهم إزاء كل ذلك من رحمة ولا رأفة يتلون الرجال ويذبحون النساء والأطفال وما أن لهم من ذنب سوى أنهم غير مختونين وغير مؤمنين برب موسى وهرون وكفى بهذا مبرراً لسومهم الخسف والعذاب. ونكبتهم بكل رذيلة ومصاب. ومن أجل هذا السبب عينه أنزل النبي يعقوب وشيعته بملك شالم المسمى هامور الكارثة العظيمة المخزية والنكبة الجسيمة الوارد حديثها في التوراة. ولا مبرر لهذه الإساءة سوى أن القوم لم يؤمنوا برب يعقوب. لا مشاحة في أن أسوأ سوءات أي دين ما هو إلا أن أهله يبررون لأنفسهم إلحاق أي أذى ونكبة بإتباع غيره من الأديان. ولعلى مبالغ إذا عزوت هذه الرذيلة لي جميع الديانات بلا استثناء والحقيقة أنها منصورة على الديانات التوحيدية أعني اليهودية بفرعيها النصرانية والإسلام فإنا ما سمعنا قط بمثل هذا عن الهنود والبوذيين بالرغم مما نعلم من قيام البراهمة بطرد البوذية من مهدها الأصلي بأقصى جنوب الهند وما كان بعد ذلك من اتنشارها في كافة آسيا ولكنا بالرغم من ذلك لم يدل إلينا التريخ بأخبار صحيحة الأسانيد قاطعة البراهين تقيد أن البراهمة تذرعوا إلى عملهم هذا بأي شيء من وسائل العنف والعسف من حروب أو مذابح أو تنكيل أو تمثيل. ولهل هذا يرجع إلى ما يغشي تلك العصور الغابرة من ظلمات الخفاء وغياهب الإبهام بيد أن ما اشتهر به دين البراهمة من فرط التسامح واللين والدماثة الدالة على أن القوم كانوا أشفق وأبرّ بمخلوقات الله نم أن يتعمدوا إلحاق الضرر حتى بالنملة والبعوضة يؤكد لنا أن أهل تلك الملة لم يعولوا قط بسفك الدماء وتمزيق الأشلاء. وأنهم كانوا بلا شك أحقن الطوائف لدم العباد. وأزهدهم في الحرب والجلاد. وقد أورد المؤرخ الجليل سنبس هادري في كتابه البديع المعنون الرهبنة في الشرق فصلاً صافياً في مدح البوذيين ووصفهم بأقصى غاية اللين والتسامح واحتج بقوله هذا بأن تاريخ البوذية أقل التواريخ الدينية حوادث قتل وذبح وكوارث ظلم وضيم. والحقيقة هي كما قدمنا أن أقل الملل تسامحاً وأشدها عنفاً وقسوة هي الأديان التوحيدية. ولا بدع في ذلك فإن الإله المفرد يكون بطبيعته إلهاً غيوراً لا يسمح بوجود أدنى شريك ولا يقبل أي منافس ولا مزاحم. وعلى العكس من ذلك ديانات الشرك التي يتولى رئاسة الكون فيها آلهة عدة تكون بطبيعتها متسامحة متساهلة. فهم يأخذون بالمذهب القائل عش ودع غيرك يعيش. فهم يحتملون زملائهم المشاركيهم في سياسة الدين هم أربابه هذا التسامح يسرى منهم فيما بعد إلى أرباب الديانات الأخرى. حتى لتراهم يرحبون بآلهة الأديان المغايرة لدينهم يتلقونهم بأعظم البشر والاحتفال والحفاوة ولا يمنعوهم من التمتع بمثل مالهم من الحقوق والسلطات والامتيازات. وأصدق دليل على ذلك ما كان من أمة الرومان إذ رحبوا بآلهة اليونان والمصريين وغيرهم نم الآلهة الأجنبية. ومن ثم ترى أن الأديان التوحيدية هي وحدها التي سوّدت صفحات التاريخ بشنيع الفظائع من حروب التعصب والاضطهادات الملية ومحاكم التفتيش وما إلى ذلك من الشنائع كتحطيم الصور والتماثيل وإتلاف أصنام الآلهة وتخريب آلهياً كل الهندية والمعابد المصرية التي حيت بشرفاتها العالية طلعة الشمس ثلاثة آلاف عام. وكل ذلك السفك والسفح. والقتل والذبح. والتخريب والتحطيم. والتدمير والتهديم. لأن إلهاً غيوراً ظهر فقال لا إله غيري. حطموا الأوثان لا أوثان معي! الخ. الخ

والخلاصة أنك محق في قولك أن العامة تحتاج إلى الدين تفسيراً للغز الحياة والموت والواجبات والفرائض، ولكن أري الدين لا يسد هذه الحاجة وإن أضراره على العموم أكثر نم فوائده. وقد رأينا أن منافعه من حيث ترقية الآداب مشكوك في صحتها. ولكن مضاره ولا سيما ما ارتكب باسمه في سيبله من الفظائع الآنفة الذكر محققة مؤكدة. على أن لا أنكر منفعة الدين لأرباب العروش من الملوك والسلاطين والقياصرة فإن الدين قوام دولهم وعماد أرائكهم وروح سلطانهم. وذلك أنه لما كانت العقيدة السائدة في الممالك المطلقة والدول الاستبدادية أن العرش هو هبة الله أصبحت الصلة بين العرش والكنيسة متينة مؤكدة. ولذلك ترى الملك الشديد التعلق بعرشه يأبى إلا التظاهر لرعيته بمظهر الورع التقي المتدين. ولقد رأينا كتاب السياسة يوصون الملوك بالتعبد والتدين حتى الكاتب الشهير ماكيافيلي أوصى بمثل ذلك في الباب الثامن نم كتابه الأمير فحث الملوك على الصلاح والتقوى والإكثار نم التعبد، والله والناس يعلمون أنه كان أخبث خلق الله نية. وأفسدهم طوية. وأضعفهم ديناً وأمرضهم يقيناً. أضف إلى ذلك أن الديانات المنزلة تنزل من الفلسفة منزلة سلطة الملوك الإلهية الصدر من سلطة الأمة. فلا غرور إذا رأيت تناسباً وملائمة بين الشطرين الأوليين من الموازنة أعني بين الأديان وبين سلطة الملوك.

الفقيه - لا تضرب على هذا الوتر يا صديقي واذكر أنك بتصريحك هذا إنما تزين الفتنة وتروج الفوضى وتحاول هدم الأصول والشرائع والنظم والقوانين بل هدم المدنية الإنسانية.

الفيلسوف - أنت محق في هذا. لم تكن هذه مني إلا ضرباً من المغالطة والسفسطة - أو ما يميه معلم السيف - حيلة وخدعة. وإني وحقك لساحبها ولكن أرأيت كيف تفسد المجادلة على الرجل عدله وإنصافه وتتركه حائراً متعصباً خبيثاً. فلنكف الآن عن المناظرة والمنازعة.

الفقيه - يسوءني والله أن أرى تعبي ومجهودي قد ضاع عليك عبثاً وإني لم أستطع مع كل ما بذلت وحاولت أن أغير في الدين في رأيك فلتعلم أنت أيضاً أنك لم تستطع أن تغير في الدين رأيي.

الفيلسوف - لا أشك في ذلك ولا عجب، فلقد قال هو ديبراس من وافق على الشيء مضطراً، فما تحول عن رأيه فترا. ولكن لي بعد عزاء عما يبدو لي الآن من ضياع تعبي في المثل القائل إن متعاطي المناظرة كمتعاطي المياه المعدنية كلاهما لا يظهر فيه أثر ما تعاطاه إلا بعد حين الفقيه - أرجو أن يكون هذا المثل عليك لا على منطبقاً

الفيلسوف - قد يكون ذلك لو أني أستطيع هضم مثل معروف من الأمثال الإسبانيولية.

الفقيه - وما هو هذا المثل؟

الفيلسوف - هو القائل إن وراء الصليب يكمن الشيطان

الفقيه - حسبك يا صديقي ولا تجعل ختام حديثنا السخرية والتهكم. واعترف معي أن الدين شبه إله الموت عند البراهمة نم حيث أنه ذو وجهين وجه مشرق وآخر مظلم. وإن كلينا إنما ينظر إلى وجه دون الآخر.

الفيلسوف - الحق معك يا صاحبي: - تمت هذه المحاورة -

أصغر لتعظم كم تجمع واثب ... ثم استعز نعز بعد صغار

وأحسب الناس لو أعطوا زكاتهم ... لما رأيت بني الإعدام شاكينا

أهدى بعض الأمراء فرساً لشاعر فمات ليلة وصوله، فكتب إليه الشاعر يقول أن لا شيء أسرع من الفرس الذي أهديته إلى، فقد وصل من الدنيا إلى الآخرة في ليلة واحدة.

هوى بعض الشعراء إحدى الغواني الحسان ومضى على هذا الحب المضمر دون أن يعلمها بذلك وإنما كان يذكر لها أنه يهوي حسناء صفتها كيت وكيت وينعتها بكل نعت جميل ووصف نبيل فسألته ذات يوم أن يريها محبوبته تلك التي يصف فأبى عليها ذلك فقالت فأرني صورتها إذن فقال أما صورتها فأرسلها إليك غد ثم أرسل إليها في الغد مرآة. . .