مجلة الرسالة/العدد 10/القصص

مجلة الرسالة/العدد 10/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 06 - 1933



في الأدب الإيطالي الحديث

الرواية في بونتاسياف!

للكاتب الإيطالي لوسيو دامبرا

شرع (مارك) يبتعد، وهو ممسك بذراعي:

- وهي؟. . . . هي؟. . . . . آه! ليتني أستطيع مشاهدتها! ليتني أستطيع ذلك!. . . . إنها لا شك مسرورة الآن كل السرور بل هي الآن فخورة بهذا الانتصار الذي هو انتصارها!!!

ولكن أنى لي مشاهدتها أثناء التمثيل، والظلام يغشى القاعة كلها؟. . . خير لنا أن ننتظرها على بضع خطوات من منزلها. . . وانتظرنا. . . . . انتظرنا أكثر من ساعة، وإذا الستار ينزل بين إعصار شديد من الهتاف والتصفيق، فتسابق أصدقاء (سيريني) إليه، ليؤكدوا له نجاحه، وليقودوه إلى المسرح، لتحية الجماهير، ولكنه أبى أن ينزل على رغبتهم، لم يتحرك، بل لبث يحدق في تلك النافذة، شاحباً كئيباً!!!

أخذت الجماهير تتدفق، وقصدت جموعها تلك القهوة الحقيرة، التي ربحت في تلك الليلة ما لا يصدق؛ وبعد ساعة من الزمن، طفقت ترفض زرافاتها شيئاً فشيئاً، فأوى من أسعدهم الحظ باستئجار غرف في (بونتاسياف) إلى مضاجعهم، وانطلقت سيارات القسم الآخر تعدو وتتسابق، فلم تلبث القهوة أن أقفلت أبوابها، ولم يبق أحد مستيقظا، غير جماعة النقاد المسرحيين، الذين كانوا يتهافتون على دائرة البرق، ليبرقوا إلى صحفهم بهذا الانتصار، وبآرائهم فيه.

أما (سيريني) فأنه لبث واقفاً يحدق في تلك النافذة، ولا يرفع بصره إلا عنها، وقد كانت تلوح على وجهه إمارات الكآبة والحزن:

- طالع منكود!!!. . . أنا الذي لم يرغب في هذا الانتصار إلا لأتمتع برؤيتها عن طريقه. . .

ماذا كنا ننتظر بعد تلك الساعة؟ ليس من شك أنها عادت إلى دارها من حيث لم تقع أبصارنا عليها. . . ليس من شك أنها عادت، ومن وقت غير يسير؛ وأنا كذلك، وإذ (سيريني) يتأكد أن منزل عروس أحلامه، لا باب له من واجهته!!!

طفقنا نبحث عن الباب، فاهتدينا إليه، في زقاق ضيق. . . . لا شك أنها عادت، ولكن. . . لو كانت عادت، لأبصرنا الضوء من خصاص النوافذ، ولو برهة وجيزة. إلا أنا كنا إذا أمعنا في التفكير قلنا: وما يدرينا؟ هل نحن واقفون على هندسة الدار، حتى نعلم إذا كان إشعال النور في إحدى الغرف، لابد أن يظهر من تلك النوافذ؟

دقت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، في الكنيسة المجاورة، وكان التعب قد بلغ مني مبلغه، حتى كدت أسقط إلى الأرض إعياء وضعفاً، فشرعت أتوسل إليه أن يعود، ومازلت به حتى أقنعته بذلك. . . وهكذا بفضل الله، وبعد سلسلة لا حد لها من التأوهات المحرقة، والتنهدات الملتهبة، وبعد كثير من الحدس والتخمين، وبعد نواح شبيه بمراثي أرميا، وبعد أن رسم خططاً ليقوم بتنفيذها في الغد، بعد كل ذلك، أوى (سيريني) إلى فراشه، وهو يزأر ويزمجر، وتركني أرقد بسلام؛ وأنا ألعن في نفسي الحب الريفي الذي يحتل قلوب كبار رجال المدن!!!

- 6 -

وفي الصباح، عند الساعة العاشرة، أحتشد الناس في قهوة القرية الحقيرة. وكان (مارك) قد دعا رهطاً من أصدقائه لتناول الطعام في الهواء الطلق، رغبةً منه في استبقائهم حوله. وكان بين المدعوين الممثلة الشهيرة (تيريز اندرياني) وعدد غير يسير من أصدقائه في فلورانسا وروما. وفريق من النقاد المسرحيين. الذين كان الشاعر الرصين، الذي يعرف كيف يدير أعماله لتكون موفقة حتى في اشد أحواله اضطرابا، سيرجعهم بسيارته الخاصة إلى روما. وهنالك طفق اعظم أولئك النقاد مقدرةً، وأبعدهم صيتاً، ينقد الرواية نقداً وجيهاً. مسهباً، ويمتدحها في غير تحفظ ثم أخذ يبين كيف كان يضعها لو عهد إليه بتأليفها. ولكنه لم يكد يدرك نقطة التدليل على سداد رأيه ببرهان جليل من علم الجمال حتى تحول عنه (مارك سيريني) ولم يعد يكترث به. وبأروع جمله. . .

حدث حادثان عظيمان. . . ظهرت عروس أحلامه. ومن ورائها أمها. تخطر وتتهادى في ذلك الزقاق الضيق. متجهة نحو الساحة الكبرى. ولم يكد يتميزها تماماً حتى كان أحد أصدقائه الفلورانسيين. قد هرع إلى السيدتين. ورفع قبعته لتحيتهما. . . وقد لبث يتحد إليهما زهاء عشر دقائق. كاد (سيريني) ينفجر أثناءها. . . وقد انفجر. . . واخذ يطلع الجميع على سره: (هل تريدون أن تعلموا أصررت على أن تمثل رواياتي لأول مرة في (بونتاسياف)؟. . . إذن فاعلموا. إني لم افعل ذلك إلا من اجل هذه السيدة. التي أهيم بها هياماً جنونياً!).

وبكلمات قليلة أطلعهم على كل شيء. أطلعهم على قصة غرامه منذ وقوف سيارته تحت نافذتها. حتى انتظاره إياها في الليلة السابقة إلى ما بعد منتصف الليل بساعتين!

وكانت ترتفع عبارات الدهشة. والاستغراب. من ههنا وههنا. وكانت ترافقها في بعض الأحيان تعليقات مختلفة متضاربة. ورغم هذا كله ومع إن سيدة النافذة كانت ما تبرح تتحدث إلى (جيورجيني) صديقه الفلورانسي فأنها لم تلتفت إلى جهتنا قط. . . ولكن لا. . . لقد جادت علينا بنظرة قصيرة عندما لفت (جيورجيني) نظرها إلينا.

اخذ (سيرين) يلاحظ الأم. كانت تحمل عددا من مجلة (الليستراسيون) وكتاباً للصلاة تحت إبطها. . . وقد فتحت المجلة وارت صديقنا صفحة فيها. لم يملك أن يكتم دهشته على أثر النظر إليها

- هي تريه رسمي بكل تأكيد!. . . ولكن. . . لماذا يبدي (جيورجيني) هذه الدهشة.

وفي هذه اللحظة تماما، هز الفلورانسي يدي السيدتين، ورفع قبعته لتحيتهما ووداعهما، واتجهت السيدتان، دون أن تلتفتا إلى جهتنا نحو الكنيسة. . .

وعاد (جيورجيني) إلينا مسرعا، ولكن (مارك) كان قد أسرع لمقابلته، وسؤاله:

- من هي؟؟؟

- مدام (ازوري). . . عرفتها وهي طفلة في مدينة فلورنسا

- وماذا قالت لك؟

- لم تقل لي شيئا ذا أهمية!!!

- إذا لماذا نظرت إلي؟

- لم تنظر إليك قط!!!

-. . . إني أؤكد لك إنها نظرت إلي. . .

قال مارك ذلك. واحتد. . . فذكر (جيوجيني)، وبعد مدة - ها. . . ربما كان ذلك عندما سألتهما إذا كانتا ترغبان في التعرف إلى (مارك سيريني). . .

- وهي. . . ماذا. . . ماذا قالت؟

- لم تقل شيئا!!

- كيف لم تقل شيئا؟. . . هذا محال!. . . تكلم!. . . تكلم!. . . تكلم!. . .

- إني أستميحك عذرا يا (سيريني) من اطلاعك على جوابها!. . . إني لا أجد في نفسي الجرأة الكافية لذلك!!!. . . إني لا يسرني أن أسمعك ما لا يسرك!!!!

- قل!!!. . . قل!!!. . . قل وإلا سحقتك!!!

أما نحن، فقد كنا في غاية الدهشة، والاستغراب. . . و (جيورجيني) المسكين لم يك يفهم سببا لهياج الشاعر وثورته، وكان كلما شدَّد المؤلف عليه النكير، أزداد هو جموداً واضطرابا

- قلت لهما: هل ترغبان في التعرف إلى (مارك سيريني). . . هذا هو!. . . فنظرتا إليك. . . ولكن. . بعد ذلك. .

- ماذا بعد ذلك؟؟؟. . قل. . . تكلم. .

- وبعد ذلك. . . وبعد ذلك سألتني. . .

- ماذا سألتك؟؟

- سألتني. . . سألتني: ومن هو (مارك سيريني)؟؟

يا للصاعقة!!!

كان (سيريني) واقفاً، فهوى على كرسيه متهالكا، ثم قال بصوت ضعيف:

- وأنت، ماذا أجبتها؟

- لم اجبها بشيء. . . فقد تذكرت وقالت: (آه. . . أجل. . . أليس هو (مارك سيريني) مؤلف الأوبرا التي مثلوها مساء البارحة؟)

- (الأوبرا)!!!. . . (الأوبرا)!!!. . .

- إن التعبير غريب، أليس يسمون كذلك؟ ولكن ينبغي أن نتلمس لها عذراً، لأنها ريفية. وسكان الريف يسمون كل شئ يمثل في لغتهم (أوبرا). . .

- ولكن. . . قل لي. . . (استطرد (سيريني) بصوت يكاد لا يسمع). . . قل لي، هل ذهبت على الأقل لمشاهدة (الأوبرا)؟

- كلا!!! لم تحظر التمثيل. . . لقد سألتها ذلك. . . لم تحضره لان زوجها مسافر. . . ومن جهة ثانية ليس لها رغبة في مشاهدة الروايات التمثيلية. إذ لديها ما يشغلها عن ذلك من الأعمال البيتية. . . لقد اعترفت لي بذلك. . . وقد اصبح لها ثلاثة أولاد فأنى لها ذلك؟؟؟

اخذ يردد (مارك) في نفسه. كيف لم تذهب؟. وكلمة (أوبرا) كادت تسحقه. . . ثم التفت إلي: (أوبرا). . . (أوبرا) أهذا يصدق؟؟؟

وعرض له خاطر آخر فسأل (جيورجيني)، ولكن. . . لماذا أرتك رسمي؟

- رسمك؟. . . أي رسم؟

- آه!. . . هل أصبحت أنت أيضاً (خبيثا)؟ لقد أرتك رسمي. . . أرتك إياه. . . إني موقن من ذلك!!! أولم تفتح لك الأم مجلة (الليستراسيون)؟؟؟

- مجلة (الليستراسيون)؟. . . آه. . . هذا صحيح. . . تذكر (جيورجيني). . . ولكنها لم تريني رسمك!!!. . . لعل من المستحسن أن أعلمك، بان زوجها مسيو (ازّوري) كيماوي، وبكلمة اصح، صيدلي، وقد اخترع في المدة الأخيرة حبوبا تقوي نهود النساء متى ما بلغن سنا معينة، وهو يحسب انه سيكسب بذلك الملايين، ولو سمعت السيدتان تتحدثان عن هذه الحبوب، لأيقنت إنها حبوب عجيبة جدا، ولقد أرتني الأم الإعلان الذي نشرته مجلة (الليستراسيون) عنها، وهو إعلان طريف، يصور الإلهين (جينون) و (فينيس) يتشادان من شعورهما وهما يتنازعان علبة من هذه الحبوب التي دعاها الصيدلي: مجددة الشباب!!!

- 7 -

كان هذا الحديث ضربة قاضية على آمال (سيريني) وأحلامه فارتمى على كرسيه خائراً، مضعضعاً، وأشار إلى (جيورجيني) بيديه، ألايتابع حديثه، وألا يعود إليه. . . أما نحن، فقد كنا غارقين في صمت رهيب، لا يعدله غير صمت المقابر، ولا أضنني بحاجة لأن أعلمكم، بان الدعوة وقفت عند هذا الحد، وان المدعوين عادوا إلى فلورنسا عادوا إليها ليتناولوا الطعام في مطاعمها.

وقد تناولت الطعام مع (سيريني) في مطعم (ميليني)، وإذا الشاعر قد أضاع رشده، وفقد صوابه، وأعاد النقاد المسرحيين بالقطار إلى روما. . .

ولما فرغنا من الطعام، جعلنا نتناول الفاكهة، وإذا به ينفجر:

- أرابت؟. . . لقد صادفت في حياتي انتصارات واندحارات عديدة، ولكني لم اشعر في حياتي على أثر اندحار، بالخجل القاتل الذي تركه في نفسي انتصار البارحة كلا! لم اشعر قبل اليوم بمثل هذا الخجل السام!!!

- إن الألفي شخص الذين أطاعوا هواي، وتسابقوا إلى (بونتاسياف) لمشاهدة روايتي الحديثة، وتحيتها بأعاصير داوية من الهتاف والتصفيق. . . والجرائد الصافحة بالتقاريظ والانتقادات الفخورة بنشر اسمي ورسمي. . . والسياحة الموفقة التي ينتظر أن تصادفها فرقتي. . . وبرقيات التهنئة التي ما برحت تتقاطر علي من كل حدب وصوب. . . إن كل ذلك يا صديقي قد تلاشى واندثر!!!

ولإطفاء هذا اللهيب. . . ولإحداث الظلام بتلك الأضواء، لم تتكبد تلك الريفية التي كنت احسب إنها تعجب بي إعجابا، لا يعد التأليه بجانبه شيئا مذكورا. . . لم تتكبد مشقة كبيرة. . . إنما كفاها أن تسال ذلك الأحمق (ولكن من هو مارك سيريني؟)

كم يبدوا لنا العالم كبيرا. وكم هو صغير!!! إن اعظم العظماء، إذا خرجوا عن دائرة بضعة آلاف شخص، يصبحون مجهولين، لا يعرفهم أحد، ولا يأبه بهم أحد!!!

انظر هذه جريدة (لاناسيون) قد شغلت اكثر من نصف صفحة بالحديث عن روايتي، وهذا اسمي قد كتب فيها بحروف بارزة على أربعة عواميد. . . ويخيل إليك بعد ذلك إن جميع الناس أصبحوا يعرفون هذا الاسم، بل ربما ظننت انه ينبغي لهم بعد ذلك أن يعرفوه. . . ولكن الحقيقة هي إن لا أحد يتذكره، عندما يقلب الصفحة. . هو ذا الجارسون يتأهب ليقدم لنا القهوة، وهو قد طالع جريدة هذا الصباح، ادعه واسأله. من هو مارك سيريني)؟. . . إني أراهنك على زجاجة شمبانيا: انه سيسخر منك، وسيفتح لك عينين كبيرتين دهشتين.

إلا إن (مارك) لم يقدم لي شيئا من الشمبانيا، لأني أحسنت صنعا بعدم دعوة (الجارسون)، ولكن المؤلف لم ينقطع عن الشكوى والتذمر، وأخذ ينعى على نفسه جهوده الضائعة، ولم يتردد عن لصق بعض الوصمات بنفسه، لأنه زرع بذورا قوية من العمل الدائم، ليحصد بعد ذلك الموقف المزري الذي تقفه بلاده العاقة من نبوغه وعبقريته!!!

وأخيرا دعونا (الجارسون) لندفع له الحساب، وبينما (مارك) يعيد محفظته إلى جيبه، ابتسم الجارسون، وقال وهو يلتقط البقشيش:

- عفواً. . . ألم أحرز الشرف بخدمة (مارك سيريني)؟

فانتفض هذا الأخير وقال:

- وكيف عرفتني؟

- لقد أبصرت اسمك هذا الصباح منشورا في مجلة (الليستراسيون) وذهب يبحث عن العدد. ولم يلبث أن عاد به. وفتحه عند الصفحة التي نشر فيها رسم (سيريني) جديد بمناسبة تمثيل روايته الحديثة في (بونتاسياف) فنظرت أنا و (مارك) إليها. ولحظنا فجاء على الصفحة اليمنى. إزاء الرسم المنشور على الصفحة اليسرى تماما. أبصرنا يا لسخرية الصدف! أبصرنا (جينون وفينيس) يتنازعان علبة من الحبوب المجددة للشباب!!!

فخرج (مارك) من مطعم (ميليني) وقد هدأت أعصابه، وسكنت نفسه

هل ينبغي تهنئة (الجارسون) لأنه عرف (سيريني)؟. . . هل ينبغي تخطئة سيدة النافذة لأنها لم تعرفه؟

كلا أيها الأصدقاء! إن سيدة (بونتاسياف) الفاتنة قد ألقت علينا درساً مفيداً، ومفيداً جداً: ينبغي علينا أن ندير الاركستر وان نضع الروايات لا لغيرنا، بل لأنفسنا!!!

أما الشهرة، فهي كلمة جوفاء أيها الأصدقاء الذين أرادوني على الكلام كثيرا. الشهرة؟. . . كلمة لا أفكر فيها عندما أشير بعصاي اللدنة إلى أعضاء الاركستر. . . وهي الكلمة التي لم يعد (سيريني) يفكر فيها عندما يأخذ اليراع ليضع رواية جديدة. . . تمت

حلب. ايزاك شموش

قصة مصرية