مجلة الرسالة/العدد 10/نظرة في نظام بيعة الخلفاء

مجلة الرسالة/العدد 10/نظرة في نظام بيعة الخلفاء

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 06 - 1933



النمو الأول

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

- 1 -

جاء في صحيح البخاري إن النبي عليه الصلاة والسلام عندما جاءه الموت قال (ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبداً) فقال بعض من حضر (أن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن. حسبنا كتاب الله) فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول (قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده) ومنهم من يقول غير ذلك. فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله (قوموا)، ولم يكتب لهم شيئاً.

ولعل الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام يريده من ذلك أن يأمر بطريق الحكم بعده، ولكنه لم يكن ليفعل شيئاً عبثاً فلم يمض في ذلك وترك الأمر لأصحابه وأمته يختارون لأنفسهم ويجتهدون في أمثل الطرق لحكومتهم.

ولم يكن من قبل ذلك نظام مقرر لاختيار الخلفاء فكان على المسلمين أن يبتكروا من الخطط أمثلها في نظرهم بحسب ما تقتضيه الظروف والأحوال. وقد كان في الإسلام دوائر متعددة عند موت النبي. فقد كان هناك الأنصار أهل المدينة، وبين ظهرانيهم المهاجرون من أهل مكة، وكان هناك أعيان مكة من القرشيين المقيمين في عاصمتهم القديمة. وخارج هاتين المدينتين كانت قبائل العرب، بعضهم من قبائل اليمن وبعضهم من قبائل مضر، وكان كل من هذه الدوائر يشعر بالغيرة والأنفة أن يكون تابعاً للدائرة الأخرى، إذ أن الإسلام وإن هذب عصبية العرب وصرفها نحو الخير، لم يقض عليها أو ينزعها من القلوب كلها. فرفع الأنصار صوتهم أول شيء فقالوا أنهم أحق بالأمر، وتنادوا باسم زعيمهم سعد بن عبادة، وهتف بعضهم هتافاً كأنما يدعو إلى تحكيم السيف بالأمر. ووقف المهاجرون إلى جانب إخوانهم الأنصار يجادلونهم بالحسنى، ويذكرونهم بما وجب عليهم من الحق في ذلك الوقت العصيب، وما كان الأنصار ليثبوا وراء داعي الشقاق من أجل الحكم، وهم الذين قنعوا من قبل بأن يتركوا غنائم النصر الذي أحرزوه في وقعة حنين للمؤلفة قلوبهم ورؤساء الأعراب الذين لم يكن لهم كبير أثر في نصرة الإسلام، وقنعوا بأ يعودوا إلى بيوتهم ورسول الله في رحالهم راضين بأداء واجبهم ورضى ضمائرهم جزاء على أعمالهم. ما كان هؤلاء ليحرصوا على الحكم بل سمحت نفوسهم به، ورضوا بأن يكونوا الوزراء دون الأمراء بعد أن لم يرضى المهاجرون بان يجعلوا منهم أميراً مع أميرهم.

في هذا الموقف تقررت أمور كثيرة ذات خطر عظيم في دستور دولة المسلمين. فتقرر أن يخرج الأنصار من الأمر فلا يكون الخليفة منهم بل يكون من إخوانهم المهاجرين من قريش. وتقرر كذلك أن تكون دولة الإسلام موحدة منذ أبي المهاجرون إلا أن يكون على المسلمين أمير واحد من المهاجرين، ولو قبل مبدأ أن يكون في المسلمين أميران أحدهما من أهل المدينة والآخر من المهاجرين من أهل مكة، لانقسمت دولة الإسلام إلى قسمين من أول أمرها ولسار تأريخها سيرة أخرى غير التي سار فيها.

ولم يكن الأنصار وحدهم الذين رفعوا رؤوسهم يتساءلون عن الأمر لمن يكون، بل إن قبائل العرب جميعها اشرأبت أعناقها تتطلع إلى الحوادث الجارية. فخرج بعضها عن الإسلام جملة، وقال بعضها يجب أن يكون الإسلام ديناً لا حكماً فامتنعوا عن أداء الزكاة التي هي رمز الحكم وحق الدولة على رعيتها. غير أن ذلك الأمر لم يتعد الحد في خطورته فاستطاع المسلمون في المدينة أن يبسطوا سلطانهم على القبائل مرةً أخرى وأصبحت لهم بعد شهور قلائل دولة متحدة متماسكة.

على أن طريقة اختيار أبي بكر نفسه، لم تكن طريقة اختيار بالمعنى الصحيح. ولم يكن الحال عند ذلك يسمح للناس أن يطيلوا التفكير في طريق الاختيار لعلمهم بما حولهم من المشكلات والأخطار. فبعد أن اتفق المهاجرون والأنصار على المبادئ العامة ورضي الأنصار بمكانة الوزراء دون مكانة الأمراء، ولم يبق موضع للتردد الكثير في قبول مرشح المهاجرين، ولو سمي رجل من أكابر الصحابة غير أبي بكر للقي قبولاً عند ذلك، ولكن المسلمين وفقوا أكبر توفيق في اختيارهم. وكان اختيارهم نتيجة شعور عميق وصراحة عقيلة نادرة، فلم يجاملوا ولم يحابوا، بل نطق عمر بما وافق هواهم، فسمى لهم أبى بكر فرضوا به ولم يتطلبوا أن يتبع اختيار خليفتهم رسم خاص ولا خطة تضمن صدق الاختيار. وأكبر الظن أنه لم يخطر ببالهم أن هناك طريقاً آخر غير أن يسمي أحدهم رجلاً يرضونه فيبايعونه فلم يطل الأمر بعد المناقشة الأولى بل ازدحم الناس على أبي بكر يبايعونه وهم قانعون مما كان يعرفونه من وداعته وقوته وقدمه في الإسلام. ولم يخل الأمر مع هذا من وجود بعض الساخطين على هذا الاختيار مثل سعد بن عبادة من أهل المدينة ومثل أبي سفيان من أهل مكة، ولكن سيرة أبي بكر في مدة حكمه أرضت عنه من كان كارهاً لطريقة اختياره منتقداً لها لما رأى فيها من السرعة وعدم التمام.

وكان أبا بكر نفسه يشعر بأن طريقة اختياره لم تكن معصومة من النقد فقد روي عنه أنه لما مرض مرضه الأخير دخل عليه عبد الرحمن بن عوف وكان بينهما حديث طويل جاء فيه أن أبا بكر كان يشعر بالندم الشديد على أنه لم يكن قد سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن هذا الأمر لمن هو حتى لا يختلف فيه الناس، وعما إذا كان للأنصار حق فيه أم هو وقف على قريش.

ولم يرض أبو بكر أن يترك الناس للاختلاف مرة أخرى فقد كانوا في المرة الأولى حديثي عهد بالرسول، فكان أثر شخصه العظيم داعياً إلى زوال كثير من الحرص وتملك الزهد في النفوس وخشي أبو بكر أن يكون للناس عند موته فرصة للخلاف مع وجود جنود المسلمين في وجهين عظيمين تلقاء مملكتي الفرس والروم، فرأى أسلم طريق أن يعهد إلى صاحبه المجرب ووزيره القوي المؤتمن عمر بن الخطاب.

غير أن طريقة استخلاف عمر كانت طريقة جديدة قابلها أهل المدينة بالرضى الصامت الذي لا يخلو من النقد الصامت، بل قد صعدت بعض أصوات النقد من بعض الزعماء، فأن طلحة مثلاً قيل أنه لام أبا بكر على اختيار عمر إذ كان يرى فيه شدة وصلابة، وقد روي أن عبد الرحمن بن عوف نفسه عندما دخل على أبي بكر في مرض موته استشاره أبو بكر في تولية عمر فأنكر عليه ذلك وقال إن فيه شدة وصلابة.

وعلى كل حال قد مضى أبو بكر في عهده إلى عمر وسن بذلك سنة جديدة، وهي أن الخليفة له أن يفرض على المسلمين أن يتبعوا رأيه بعد موته في تولية من يختار لهم بغير أن يكون لهم الحق في أن يحيدوا عنه، أو يعدلوا من رأيه، فكان تلك سابقة للطريقة التي سيتبعها عمر في رسم خطة اختيار الخليفة بعده.

غير أن أبا بكر وإن أبتدع سنة جديدة لم يخرج عن السنة التي رسمت في أول الأمر فاختار الخليفة بعده من المهاجرين.

ولما قتل عمر بن الخطاب كانت الدولة في حال غير حالها الأول فقد فتحت الفتوح وأستقر العرب في البلاد المفتوحة وأنشئوا فيها أمصاراً لهم وعظمت شوكتهم فلم يكن يخشى عند موته من خذلانهم إذا طالت مدة اختيار الخليفة بعض الطول. فلم يشأ عمر أن يترك الناس لطريقة اختيار أبي بكر خوفاً من كثرة التردد والاختلاف، وما قد ينجم عنه في بلاد مثل بلاد العرب يسهل أن يثور فيها تعصب القبائل والعشائر ولاسيما بعد أن صار في المسلمين زعماء كثيرون معروفون امتازوا في حوادث الفتح بحسن الفعال وأصالة الرأي ولو لم يكونوا من أصحاب السابقة في الإسلام الذين جرى المسلمون على تقديمهم في أول الأمر، وكذلك لم يشأ عمر أن يوصي إلى رجل واحد كما أوصى أبو بكر إليه فأنه رأى أن في ذلك الشيء الكثير من عبء المسؤولية والاستبداد بالرأي في وقت ليس فيه ما كان عند وفاة أبي بكر من الخطر على الدولة وجنودها في ميادين القتال. فابتكر عمر طريقته المعروفة وهي وسط بين فرض الرأي وبين ترك الاختيار، ففرض رأيه في ترشيح جماعة من الزعماء أولي القدم والسابقة في الإسلام، ولم يخرج عن السنة الأولى، فاختارهم جميعاً من المهاجرين وترك لهم بعد ذلك أن يختاروا واحداً منهم يرضونه في مدة ثلاثة أيام، وأمر زعيماً اسمه مسلمة بن مخلد ألا يدعهم إلا مدة تلك الأيام الثلاثة.

وكان اجتماع هؤلاء المرشحين أهل الشورى وطريقهم في الاختيار خطوة واسعة في سبيل بناء دستور عربي متين لو بلغ مداه لكان من أتم نظم الحكومات.

أخرج أحدهم نفسه من الأمر واجتهد اجتهاداً لا يصدر إلا عن قلب عامر بحب المصلحة العامة، وقضى الليالي الثلاث التي جعلت للاختيار وهو لا ينام ولا يستريح بل يقضي الوقت كله في سؤال الناس سراً وعلانية. فسأل الأنصار والمهاجرين وسأل زعماء المسلمين وسأل قواد الجنود الذين وجدهم في المدينة عند ذلك وهم يمثلون جنود العرب الذين بالامصار، فكان بذلك ساعياً إلى الاستنارة برأي مختلف الدوائر، واستشارة مختلف الطبقات، والنظر إلى الأمر من مختلف النواحي. فلم يكن بين هذا وبين الانتخاب العام إلا خطوة واحدة، وهي أن يحصر حق الانتخاب في جماعة تتوافر فيهم صفات معينة وان تؤخذ آراؤهم بطريقة منظمة.

وقد تبين لعبد الرحمن من وراء بحثه أن الناس لا يقدمون أحدا تقديمهم لزعيمين من الصحابة من أهل الشورى وهما علي وعثمان، فلما استقر رأيه على اختيار واحد منهما ثارت في وجهه مسائل جديدة أولها المنافسة القديمة بين بيتي قريش: وهما بيت هاشم، وبيت أمية، وثانيهما ما كان في بيت هاشم من الاعتقاد بأن لهم الحق في الأمر لقرابتهم من رسول الله عليه الصلاة والسلام وخشي إذا هو اختار عليا أن يحمل ذلك على أنه إنما اختاره لقرابته من الرسول لا لفضله وصفاته السامية، فكان في أمره في حيرة شديدة، وخرج منها على أن يطرح على المرشحين سؤالاً يكون بمثابة استطلاع لبرنامج كل منهما إذا هو ولى الحكم. فجمع الناس في المسجد وعرض سؤاله فقال: (هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبى بكر وعمر؟) فرأى علي أن معنى ذلك تقييده فوق كتاب الله وسنه الرسول بفعل خليفتي المسلمين قبله. ورأى أنه لا يحسن به أن يقيد نفسه بغير الكتاب والسنة تاركاً لنفسه بعد ذلك الاجتهاد والنظر وإن خالف رأي صاحبيه. وكانت أجابته على ذلك أن قال: (اللهم لا ولكن على جهد من ذلك وطاقتي) وأما عثمان فانه قال: (اللهم نعم) وكان عبد الرحمن ممن يرون اتباع السلف فيما ساروا عليه منذ كانوا في ذلك مجتهدين، ومنذ دلت الحوادث على حسن سياستهم فيه وسلامة عاقبة حكمهم. فرأى اختيار عثمان ورفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان ثم قال: (اللهم اسمع واشهد. اللهم أني جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان) وازدحم الناس بعد ذلك على الخليفة عثمان يبايعونه.

فخرجت الأمة الإسلامية من ذلك الموقف بسابقة جديدة منظمة تنظيماً كبيراً صالحة لأن تكون أساسا لنظام وافٍ صالح لاختيار الخلفاء، ففيه نواة الانتخاب العام، وفيه نواة النظر والموازنة بين المرشحين، وفيه نواة إدخال جميع العرب حق الاختيار، سواءاً أكانوا من أهل المدينة أم من أهل جزيرة العرب أم من أمصار البلاد المفتوحة. وفيه فوق كل ذلك نواة لرسم خطة للحكم يسأل عنها الخليفة قبل توليته، ويكون اختياره بعد الإفصاح عنها والتصريح بها وبذلك يكون عليه الوفاء بما تعهد به من الشرط قبل استخلافه.

ولم يبطئ العرب فيتلقف هذه الحقوق ولم يتهاونوا في المطالبة به في عهد عثمان ولم يترددوا في الثورة عندما رأوا أن خليفتهم لم يف بما تعهد به.