مجلة الرسالة/العدد 1000/اذكروا الشهداء

مجلة الرسالة/العدد 1000/اذكروا الشهداء

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 09 - 1952



للأستاذ محمد زيتون

(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند

ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون

بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم

يحزنون).

قرآن كريم

اليوم. . بعد أن انطلقت أسود العرين من إسارها، لخوض أروع معركة للتطهير والتحرير، في العصر الحديث، يحق لنا أن نذكر شهداء فلسطين من قواد وضباط وجنود، نعموا بجوار ربهم، وخلفوا وراءهم أرامل ويتامى، لهم عند الله اجر الصابرين.

أستشهد هؤلاء في نضال عنيف بين كتائب الحق، وشراذم الباطل، بعد أن ائتمرت على قضية فلسطين دعاة الميكيافيلية، وحماة الصهيونية، وتمكنت الذئاب المسعورة حتى تمكنت، وفي غفلة من الزمن، قامت لهم (دولة)، كان يوم ميلادها، نذيرا بحلقة جديدة من الاستعمار الجماعي، مما أصاب الضمير الإسلامي، بالحسرة والألم.

وشهداؤنا الأبرار، لم تذهب دمائهم من جراء مغامرة طاغية، ولا عدوان غاشم، وإنما هم الذين حملوا أكفانهم على رءوسهم، وجادوا بأرواحهم في سبيل الله، لا عن حزبية ولا عصبية، ولا دفاعا عن أموال وضياع، ولم تكن محارم الله مطيتهم إلى الهدف الذي تسابقوا إليه. وحسبهم أن باعوا الدار وأهلها، وخفوا لنجدة الجار المهضوم، والحرم المنهوب، فأنعم بها من غاية، وأكرم بها من سبيل.

كانت الشهادة - وهي إحدى الحسنين - رزقا، يتوسلون إلى بارئ النسيم أن يخصهم به، ورحم الله عمرو بن الجموح إذ حمل سلاحه، وأخذ يتكفأ في طريقة - وهو أعرج - ومن ورائه بنوه الأربعة كالأسود يجرون ليصدوه، ولكنه يتوجه إلى القبلة، ويضرع إلى الله في لهفة واشتياق (اللهم ارزقني الشهادة، ولا تردني خائبا إلى أهلي) وقاتل حتى استشهد، فرآ رسول الله، وهو يطأ بعرجته في الجنة.

فلنذكر هؤلاء الذين باتت أرواحهم في حواصل طيور خضر، يسرحون في رياض الجنة، ولنتذاكر ما يوجبه علينا دين الجهاد نحوهم ونحو أهليهم ومواطنيهم أجمعين، يدفعنا إلى ذلك، قول نبي المجاهدين عليه الصلوات (من جهز غازيا أو خلفه في أهله بخير فقد غزا). . فمن الذي ينكص على عقبيه، وقد بلغته دعوة إلى غزوة. . نصيبه فيها عمل صالح يرفعه، ولا يصيبه منها ضربة أو طعنة!

كان رسول الله أول من عنى بتكريم الشهداء، فقد كان - عقب المشاهد - يجمعهم في مصارعهم، ويترحم عليهم، ويستعبر، ثم يأمر بتكفينهم في أثوابهم التي استشهدوا فيها، ونزع ما عليهم من جلود وسلاح، ودفنهم من غير غسل، فقد استشهد حنظلة بن عبد الله بن أبي عامر الفاسق، وعليه جنابة، فأطلع الله تعالى نبيه على أمره، وسماه (غسيل الملائكة).

وكان يقدم للجنازة أكثرهم جمعا للقرآن. ويأمر بدفن كل رجلين أو ثلاثة في قبر واحد لما يكون بينهم من صفاء أو قرابة في الدنيا، وكان يشرف على القتلى ويقول: (أنا شهيد على هؤلاء. وما من جرح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه: اللون لون الدم، والريح ريح المسك)، وكان يواسي ذويهم، ويوصي بهم خيرا، ويتعهدهم بحنانه وبره، ويدعو الله لهم بالخلافة عليهم.

كان النبي على فرسه وسعد بن معاذ ممسك بلجامها، فأقبلت أم سعد تعدو نحوه. فقال سعد: يا رسول الله، أمي. . فقال النبي: مرحبا بها. فلما وقف لها، دنت منه، وأخذت تتأمله، فعزاها بابنها عمرو، فقالت: أما إذ رأيتك سالما، فقد اشتريت المصيبة. فقال لها: يا أم سعد، أبشري، وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعا، وقد تشفعوا في أهلهم جميعا. قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ يا رسول الله، ادع لمن خلفوا. فقال: (اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا)

وسار الخليفة الراشد أبو بكر، على هذا خليله المصطفى عليه السلام، فقد دخلت عليه فتاة، فألقى لها رداءه لتجلس عليه إكراما له، ولذكرى أبيها الشهيد الذي قال عنه رسول الله (رحمه الله، نصح لله ولرسوله حيا وميتا) وإذ ذاك قدم عمر، فما إن رأى من أبي بكر هذا التكريم لتلك الفتاة، حتى عجب من أمرها، وسأله عنها فأجابه: هذه ابنة من هو حير مني ومنك، رجل تبوأ مقعده من الجنة، وبقيت أنا وأنت، هذه ابنة سعد بن الربيع.

وعقب (أحد) أحتمل أناس قتلاهم ليدفنوهم بالمدينة، فجاء منادي رسول الله يعلن في الناس (ردوا القتلى إلى مضاجعهم) ولم يبق إلا قتيل واحد، ودفنوه حيث أستشهد.

على أن رفات الشهداء الأبرار لا تبلى كسائر الأجساد، فقد روى أن معاوية بن أبي سفيان أمر بحفر عين جارية وسط مقبرة شهداء أحد، واستصرخ الناس إلى قتلاهم، وأمر بنقل رفاتهم، فأخرجوهم رطابا تنثني أطرافهم، وذلك على راس أربعين سنة من دفنهم، ومع ذلك أصابت المسحاة قدم حمزة سيد الشهداء، فأنبثق الدم، وفاح المسك، وكأنما هو صريع ساعته، مع أن أرض المدينة سبخة، قيل يتغير الميت في قبره من أول ليلة، ولكن تأبى الأرض الطيبة - بقدرة الله - أن تأكل لحوم شهداء المعركة، لأنهم مع النبيين والصديقين والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.

ويجب دفن الشهيد فور مصرعه والصلاة عليه، فقد رجعت هند بنت حرام بعد أحد تسوق بعيرا يحمل ابنها خلاد بن عمرو بن الجموح، وأخاها عبد الله بن عمرو، وزوجها عمرو بن الجموح، وصار الجمل يبرك يهم كلما وجهته إلى المدينة، فإذا ضربت في وجهه إلى أحد نزع وأسرع، فسألت النبي في ذلك فقال: (أن الجمل مأمور، فقبرهم بأحد، يا هند ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن).

وفي تاريخ الإسلام أروع الأمثلة لرباطة جاش المرأة المسلمة إذا نعى إليها زوجها أو ابنها أو أخوها أو أبوها، فهذه حمنة بنت جحش تلقى النبي عند منصرفه من (أحد) إلى المدينة، فينعى إليها خالها حمزة فتحتسب، وأخاها عبد الله بن جحش فتحتسب، ثم زوجها مصعب بن عمير فتصيح مولولة وتقول: وا حزناه. فينظر النبي إلى من حوله، ويقول (أن زوج المرأة لبمكان ما هو لأحد) ثم يسألها: لم قلت هذا؟ فتجيب (تذكرت يتم بنيه، فراعني. فدعا لها أن يحسن الله الخلف على أولادها.

وأثبت منها عند الجزع، امرأة من بني دينار أستشهد زوجها وأخوها وابنها وأبوها، فلما نعوا إليها احتسبتهم عند الله. واعتصمت بالصبر، وقالت، كيف رسول الله؟ فقيل لها: هو يحمد الله كما تحبين. فتقول أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل، وتعلقت بثوبه عليه السلام وهي تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذ سلمت من عطب.

وكانت الخنساء مضرب المثل في الإيمان عند النازلة، استشهد بنوها الأربعة في القادسية. بعد أن بلغت الثمانين من عمرها. ولما أقبل البشير بعد المعركة، جاءت تسأله عن حال الإسلام والمسلمين، فقيل لها: ألا تسألين عن أبنائك الأربعة؟ فقالت: هم بعد ذلك، فلما طمأنوها على سلامة جيش الإسلام، ذكروا لها أن بنيها قد استشهدوا جميعاً فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم في الإسلام وأساله تعالى أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.

والإسلام بهذا لا يتناقض مع طبيعة البشر، ولا يدعي القضاء على غريزة من الغرائز التي هي القوة الدافعة للسلوك، أو انفعال من الانفعالات التي هي مظاهر الوجدان. فقد ثبت أن هذا الدين المتين يتمشى مع الطبيعة البشرية إلى الحد الذي يرتفع بها إلى أفق أعلى، وخلق أسمى.

وآية ذلك، أن نسوة الأنصار جئن إلى النبي يذكرن عمه حمزة ويبكين موتاهن، فصرفهم النبي في غير عنف وهو يقول: أرجعن رحمكن الله. لقد واسيتن معي، رحم الله الأنصار. وبلغ الحزن مبلغاً لم يقدر على مغالبته رجل أو امرأة، فجاء وفد من الرجال يسألون رسول الله: (يا رسول الله، بلغنا أنك نهيت عن النوح، وإنما هو شيء ندب به موتانا، ويجد فيه بعض الراحة، فأذن لنا فيه، فقال: أن فعلن، فلا يخمشن ولا يلطمن، ولا يحلقن شعراً، ولا يشققن جيباً.

وتكريم الشهداء لا يكون بتلك الأساليب العقيمة المرتجلة، التي يجترها السطحيون، فلا يسمو بهم الحس البليد إلى أكثر من اقتراح تسمية شارع أو ميدان أو محطة باسم الشهداء، أو اقتراح لإقامة نصب أو تمثال أو لوحة تذكارية أو قبر للمجهول في العاصمة والمدن الرئيسية.

وما أبعد هذا كله عن سبيل التكريم الخالص لوجه الله ولن نصل لهذه الترهات إلى الهدف النبيل الذب من أجله أرخص الشهداء دمائهم الزكية الغالية.

كما أن نقل رفات الشهداء غير جائز اعتمادا على ما أمر به رسول الله عقب غزاة أحد من رد القتلى إلى مضاجعهم، ولذا يجب إعادة النظر في الخمسة والعشرين ألف من الجنيهات التي اعتمدتها وزارة الوفد الأخيرة لبناء المقابر بجهة الغفير ونقل رفات الضباط من شهداء فلسطين إليها.

وهذا تفكير عقيم ضحل، إن دل على شيء فإنما يدل على جهل مطبق بحقائق الدين. كما فيه امتهان لكرامة الشهداء الجنود، وإثارة الأحزان الدفينة في مشاعر ذويهم الصابرة وتملق رخيص للعواطف النبيلة.

وأول ما يجب البدء به لتخليد ذكرى الشهداء، وتمجيد بطولتهم وتكريم ذويهم. هو إحياء سنة عمر بن الخطاب، وذلك بإنشاء (ديوان المجاهدين) الذي وضع له اللوائح. ورتب الاختصاصات، وفرض مستحقات الجند أحياء ولذويهم من بعدهم، كل حسب بلائه وسبقه في الإسلام.

ويجب أن توضع الملفات لأسر الشهداء، لكي يتسنى للتاريخ الصحيح متابعة مجريات حياتهم، والتنويه بمظاهر الإعجاب في سلوكهم، والإشادة بآثار شهدائهم، مع منحهم مزايا اجتماعية تبقى رمزا إلى ما قدموا للوطن من أغلى التضحيات.

أما أبناء الشهداء وبناتهم، فأولئك ودائع عزيزة، ائتمنت عليها الأمة: جيشا وشعبا وحكومة. فلتكن نشأتهم على خير وجه مسنون من كرامة العيش وحسن التربية.

فهذا الفتى أسامة بن زيد؛ عقد النبي له لواء على جيش كثيف لغزو بني غسان قاتلي أبيه، وهذه الربيع بنت معوذ قاتل فرعون العرب أبي جهل: نراها في عهد عمر تشتري العطر من أسماء بنت مخرمة أم أبي جهل وذات يوم وزنت لها ولأصحابها على الأعطية فقالت لهن أسماء اكتبن لي عليكن حقي. فلما أملت الربيع اسمها على الكاتب استشاطت أسماء غيظا وتداركت: وإنك لأبنة قاتل سيده،؟ قالت الربيع: لا أبدا. وقالت عبده فقالت أم أبي جهل: والله لا أبيعك شيئا أبدا. وقالت الربيع: وأنا والله لا اشتري منك شيئا أبدا، فو الله ما هو بطيب ولا عرف. ولما عادت إلى بيتها قالت لأبنها والله يا بني ما شممت عطرا قط أطيب منه، ولكن يا بني غضبت.

هذا الترفع والإباء وليد روح عالية - بلا شك - دفعت ببنت المجاهد إلى مقاطعة البضاعة الكافرة. لمجرد غضبة المسلمة الغيري على سيادتها وعزتها.

وخير هدية من شهداء الوطن نقدمها للجيل الناهض، سفر كبير. لا يخلو منه بيت، ولا يدع شاذة أو فاذة من تاريخ الشهداء الأبرار إلا أنطوي عليها. مع ذكر تاريخ حياتهم، ومسقط رأسهم، ومحامد سيرتهم وبطولتهم، والمعارك التي أسهموا فيها. إلى غير ذلك مما يقرب إلى النفوس مشاهد الجهاد في عصر تميعت فيه الرجولة، ورخصت فيه القراءة وطفحت الصحف والمجلات والكتب بقصص الغرام و (أصول الحب) و (نساء في حياتي).

وحق على وزارة المعارف أن تواكب هذه النهضة المباركة حتى تسير حملة التنوير وكتيبة التطهير جنبا إلى جنب. وتنهض بواجبها في بث الروح الجهادية قولا وعملا. فتختار للناشئة نخبة مختارة من أناشيد الحماسة، وخطب القادة، وأوامر الأمراء لجيوشهم، وعرض الأفلام والقصص التمثيلية التهذيبية، وتسهيل الزيارات لمتاحف الحضارة، وسرد الوقائع التاريخية بكل دقة وأمانة، من غير تمليق أو تزويق. هذا مع طبع المعاهد العلمية بطابع الجهاد الصحيح.

كان زين العابدين بن الحسين يقول (كنا نعلم مغازي رسول الله كما نعلم السور من القرآن)، وكان إسماعيل بن محمد ابن سعد بن أبي وقاص يقول (كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول يا بني إنها شرف آبائكم. فلا تضيعوا ذكراها.

وفي (جهاد النبي). . حقا. أغلى ما يتزود به الجيل المؤمن ليتخذ من حقائق التاريخ مقياسا متينا لكل دعوة وغزوة، تنحل إزاءها حرب البطش والعدوان في القديم والوسيط والحديث على السواء. . . وبالتربية الجهادية تسمو النفوس، وتعلو الرءوس، وتنتظم الخطى، وتنسق الخطط، ويستبشر الشهداء في مضاجعهم بالذين لم يلحقوا بهم. . فنظفر بنصر من الله وفتح قريب.

محمد محمود زيتون