مجلة الرسالة/العدد 1000/على ضوء علم الاجتماع

مجلة الرسالة/العدد 1000/على ضوء علم الاجتماع

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 09 - 1952



حركات الإصلاح

للدكتور عمر حليق

الإصلاح نشاط اجتماعي. ويعرف علم الاجتماع (الحركة الاجتماعية) بأنها (مجهود عملي مشترك تقوم به طائفة واعية من أفراد المجتمع لكسب ولاء الشعب ومعونته لإحداث تبديل في الوسائل والأساليب التي تتوخى خدمة الصالح العام). وقد يكون قالب هذا التجديد حديثا لم يصغ من قبل، أو قد يكون إحياء (لنموذج سبق استعماله. وفي كلتا الحالتين فإن الدافع لتبديل الأساليب والوسائل ناتج عن الاستياء من الوضع الراهن وعن الرغبة في إصلاح الأمور.

إذن فالمجهود الإيجابي المشترك بين الطائفة الواعية وبين المجموعة الشعبية التي تمنحها الولاء والمعونة هو ما يعرف في الاجتماع (بالحركة الاجتماعية). وهذا التعريف يفترض أن يكون هدف الحركة خدمة المصلحة الجوهرية للشعب بأسره أو للكثرة الساحقة من أفراده. فقيام نفر من أعضاء جمعية معينة لتعديل دستورها أو تغيير مجلس إدارتها لا يعد حركة (اجتماعية) لأن هذا التعديل يمس مصلحة الجمعية وأعضائها ولا يهدف مباشرة خدمة المجتمع القومي الأكبر. وبنفس المنطق لا يمكننا أن نعرف (التيارات) و (الاتجاهات) الفكرية أو السياسية بأنها حركة اجتماعية. فإذا اتجه الناس نحو المطالبة بحق من الحقوق أو تبديل وضع من الأوضاع، وإذا ساد هذا الاتجاه تيارات فكرية معينة فذلك لا يعني أن هناك (حركة) بمعناها الاجتماعي الذي نحاول أن نعالجه في هذا المقال.

وأبرز ما يعنى به علم الاجتماع هو الحركات الاجتماعية التي تولد في نطاق شعبي واسع وتؤثر في صميم الأوضاع السياسية أو الاقتصادية أو الدينية أو المقدمات الثقافية والخلقية للأمة بأسرها.

وعلى ضوء هذا التعريف فإن لنا أن نستنتج بان الحركة الاجتماعية صبغة مزدوجة طابعها الهدف والإنشاء في آن واحد. فهي موجهة ضد وضع معين تأمل الحركة في تعديله أو إزالته؛ وهي في نفس الوقت طامحة إلى تحقيق برامج وأهداف إنشائية ديدنها خدمة الصالح العام.

إذن فالحركة الاجتماعية تستند إلى عنصرين رئيسين هما: (القضايا) التي أخذت الحركة على عاتقها حلها والتغلب عليها، و (الأيديولوجية) - المبادئ والبرامج والأهداف - التي تنوي التقيد بها وتحقيقها بمعونة الشعب ولمصلحته العامة. وهذا التحديد يدفعنا لأن نتساءل عن جوهر (القضايا) وعن أسس (الأيديولوجية) التي تؤدي إلى ميلاد الحركة وإلى كسبها ولاء الشعب ومعونته، ومن ثم إلى الاستقرار والنجاح.

وهنا يحسن بنا أن نقرر السلوك الإنساني لا ينشط ضد وضع ما، وفي صالح هدف معين إلا حين يمر في تجربة قاسية تؤثر في المقدمات السياسية والاقتصادية والدينية التي يعيش عليها، وفي المثل العليا التي تتعلق بها الجماعات الإنسانية؛ فالحرية الفردية والكرامة القومية والقيم الإنسانية الأصلية التي هي في قرارة النفس تتوازى في مجال المقارنة مع المصالح السياسية والاقتصادية. وقد تمر الجماعة الإنسانية خلال هذه التجربة القاسية في ألوان من المحن والملمات التي تمعن في تحدي المصلحة الشعبية ومقوماتها ومثلها العليا وقيمتها الإنسانية، ولكن الحركات الاجتماعية لا تتبلور وتنشط للعمل الإيجابي إلا حين تبلغ هذه التجربة القاسية منتهاها، وهذا لا يكون إلا إذا كان المنتهى شاملا عاما لا يقصر سوؤه على طائفة معينة أو مجموعة محدودة العدد من أفراد الأمة، وإنما يمس الكيان الشعبي بأسره، وهو كيان له سيطرة قويه على عقول الناس وأفئدتهم حتى لو ساد الناس في بعض الحالات فتور وسلبية إزاء التجارب والمحن.

وقد يتريث دعاة الحركة وقادتها والشعب بأسره قبل القيام بعمل إيجابي عاجل لحل (القضايا) وتنفيذ (الأيدلوجية) ولكن هذا التريث ليس إلا نتيجة حتمية لهول الصدمة التي أوجدتها التجربة القاسية. وعلم الاجتماع يقرر بأن الذيول التي تتولد عن هذه الصدمة لا بد لها من أن تسير على منوال المساوئ التي كانت سائدة في الوضع الذي أوجد الصدمة ودفع المحن والتجارب المريرة إلى المنتهى. وهذا يعني أن سلوك أولياء الأمر في الأمة المسؤولين عن هول الصدمة الكبرى وعن سوء الأوضاع الراهنة سيمعن في التحدي محاولة منه للقضاء على ما تبقى في نفسية الفرد وفي شعور الأمة من معنوية وكرامة. وهذا السلوك ظاهرة اجتماعية قل أن يشذ عنها المسؤولون عن الكرامة القومية الذبيحة وآلام النفس المعذبة.

وعلى ذلك فإن ميلاد الحركات الاجتماعية (سياسة كانت أو عسكرية أو دينية) أمر لا بد منه. . . ومبلغ حماس الحركات وإخلاصها لحل (القضايا) والتغلب عليها وتحقيق (الأيديولوجية) الإصلاحية الجديدة يتوقف على الصدمات وفظاعة المنتهى.

ويمكننا استنادا إلى هذه الحقائق الاجتماعية أن نؤكد بان جوهر (القضايا) التي تتولى الحركات الاجتماعية معالجتها والتغلب عليها يتوقف على مبلغ الخطر الذي تتعرض له مقومات الحياة القومية ومصالح الشعب السياسية والاقتصادية والقيم والمثل العليا التي تعيش عليها الكثرة الساحقة من أفراد الأمة.

أما جوهر (الأيديولوجية) - المبادئ والبرامج والأهداف - التي تؤمن الحركة وتعمل لتحقيقها فيتوقف على مفهوم الحركة وقادتها لحقائق هذه (القضايا) وأي منها كان السبب المباشر للصدمة التي ألمت بالكرامة القومية وبمصلحة السواد الأعظم من الشعب. وهل سوء الجهاز الإداري هو ضعف القوة العسكرية أم فقدان القيم الدينية وانحلال القيم الأخلاقية وتفشي المساوئ الاجتماعية؟ وهل الخطر الذي يهدد الكيان القومي موجه من عدو يرتقب؛ أم أن أعداء الأمة هم الفاسدون من قادتها وأبنائها؟

وعلى مدى تقدير الحركة الاجتماعية الجديدة لحقائق هذه (القضايا) يتوقف استقرارها ونجاحها ومبلغ ولاء الشعب لها. وعلى ذلك فكلما كانت الحركة ورجالها نتاجا (شعبيا) شديد الصلة بالعناصر الأصلية التي يتكون منها السواد الأعظم من أبناء الأمة كان فهم الحركة ورجالها لحقيقة هذه القضايا صادقا أمينا، وكانت (أيديولوجيتها) مطابقة لمصلحة الشعب متمشية مع شعوره الصادق وضميره الحي ومنقذة لما يدور في خلده من آمال وما يطفح به فؤاده وعقله وعواطفه من حماس ورغبة في مؤازرة الحركة والاندماج فيها والتضحية في سبيلها كأحسن ما تكون تضحيات الأمم الحية في معركة الحياة الشريفة.

والحركة الاجتماعية الناجحة هي التي تؤمن بما تعمل. وتعزيز القول بالعمل لا يكفي إلا إذا توفر للحركة مرونة فكرية طابعها الحكمة لا التزلف. فعليها أن توازن موازنة صادقة لحاسية الشعب - أو بالأحرى أغلبيته العظمى. فإذا لمست الحركة أن جزاء كبيرا من الأمة يؤمن بان الإصلاح يجب أن يشمل إحياء القيم الدينية ومكافحة الفساد وما أولده من انحلال في القيم الأخلاقية فجدير بالحركة أن تجعل لهذه الناحية من الإصلاح مكانا راسخا في (أيديولوجيتها).

وإذا أدركت بان بين المواطنين طائفة مخلصة واعية تثر في قرارة النفس على أن التنمية الاقتصادية والعدالة الاقتصادية والاجتماعية يجب أن تنال مكان الصدارة بين أهداف الحركة فمن الخير لإيديولوجية الحركة أن تولي ذلك عناية خاصة.

وإذا تحقق للحركة والمسؤولين فيها أن الحاجة ماسة لتعزيز الدفاع العسكري على أقصى حد مستطاع فما عليها إلا أن تلبي هذه الحاجة - فهي كحركة شعبية صلتها وصلة قادتها بالشعب صلة الأغصان بالجذوع كفيلة بأن تضمن حماس الأمة وتضحياتها في سبيل المناعة العسكرية، وجعل ذلك مبدأ أساسيا من مبادئ الأيديولوجية الجديدة.

وهناك طبعا سيل لا حد له من آراء الناس في أوجه الإصلاح وأيها أولى بالعناية من سواه.

والمهم عند تقرير الأيديولوجية أن توازن الحركة في مبلغ الحماس الشعبي الصادق لأوجه الإصلاح ومبلغ شعور الشعب وتقدير لأخطار (القضايا) والمشاكل التي تتحدى سلامة الكيان القومي. فليس المطلوب من الحركات الاجتماعية أن تتقيد بمعالجة قضية واحدة. فالعوامل التي توفر للحركة النجاح والاستقرار عديدة، وكثرتها تتوقف على كثرة الأخطار الناتجة عن هذه القضايا والمشاكل. ولذلك فلا نفر للأيديولوجية أن تتضمن أكبر عدد ممكن من البرامج والأهداف التي تكفل التغلب على هذه الأخطار.

والدراسة الاجتماعية للحركات الإصلاحية تثبت صواب الرأي في اتخاذ قضية أو أكثر من قضايا الأمة كعنوان للأيديولوجية الجديدة، إلا أن هذه الدراسة تؤكد كذلك أهمية إدراك الشعب للأخطار التي سببت له المحن والمساوئ في العهد أو العهود التي استبدلتها الحركة الجديدة.

فالحركة الشعبية الناجحة تولد عادة في جو اجتماعي اعتاد السماع لدعوات الإصلاح من دعاة أساءوا فهم المشاكل الرئيسية العميقة التي تواجه الأمة، ولذلك تفشل هذه الدعوات في كسب ولاء السواد الأعظم من المواطنين. فولاء السواد الأعظم وإخلاصه في مؤازرة الحركات الجديدة هو ميزان الاستقرار والنجاح، وعلى ذلك فإن الخطأ الذي ترتكبه معظم الأحزاب السياسية (وهي تقليد مشوه للحركات الاجتماعية) هو تصويرها القضايا القومية على نحو لا يستند إلى فهم أمين لضمير الشعب، وإنما هو فهم مشوه اقتبسه قادة الحزب من شعورهم الخاص وهو شهور تتضارب فيه المصالح الذاتية - شعور يتزلف في اغلب الحالات إلى أوساط ليست من صميم الشعب وليست عنوانا على شعوره ويقظته ومصالحه، أوساط تنتمي إلى هذه الفئات الطفيلية التي تعيش على الشعب لا معه.

والشعب - أو بالأحرى الجزء الهام منه - يتحفظ في إعلان الولاء وبذل التضحية للحركات الناشئة إذا توفرت له عوامل نفسية معينة سجلها علم النفس الاجتماعي في دراسات لنفسية الجماهير وعقليتها، وطبيعة الزعامة الصالحة ومقوماتها، وإلى الأخطار والتجارب التي مرت بها الأمم في نشاطها الاجتماعي، كما أشرنا إلى ذلك في صلب هذا المقال.

وبعض هذه العوامل غامض يحمل أكثر من تفسير واحد، والبعض الآخر محدود الصفات واضح المعالم إدراكه سهل ميسور.

على كل دعنا نسترض فيما يلي بعض هذه العوامل ما دمنا في حديث الاجتماع وعلمه ولو كان ذلك على حساب أدب المقال في غير مجلات الاختصاص.

أ - يجب أن تكون القضايا التي تولت الحركة معالجتها شديدة الصلة بالمصلحة الشعبية العامة وبالمصلحة الخاصة لأكبر عدد ممكن من المواطنين.

ب - للحركة الاجتماعية الناشئة أن بمعالجة القضايا التي بها مكان الصدارة في شعور الناس ويقظتهم العاطفية والفكرية وحين يقتضي الوضع تفضيل قضية على أخرى فللحركة أن تعالج قضية واحدة معالجة عامة شاملة وتبدأ في نفس الوقت بمعالجة القضية أو القضية التي تليها في الأهمية معالجة جزئية - على ألا يكون لهذا التوزيع هدف غير الموازنة العادلة بين أهمية القضايا في تفكير الناس وفي مبلغ صلتها بالصالح العام وبمستقبل الحركة وأيديولوجيتها وأثر ذلك كله على الكيان القومي ومصلحته الجوهرية.

جـ - يؤكد علم الاجتماع أن استقرار الحركة الاجتماعية الناشئة لا يتوطد إلا إذا كانت أيديولوجيتها حاوية لقيم وأهداف تمس المنفعة الشخصية للكثرة - الغالبة - من أفراد الشعب. والمنفعة الشخصية شيء والشعور الشعبي المشترك شيء آخر، وإن كان كلاهما يعزز الآخر. فالأهداف الوطنية مثلا شعور شعبي مشترك، أما العدالة الاقتصادية والمساواة الاجتماعية وصيانة القيم الدينية والأخلاقية فإنها أهداف تخدم المنفعة الشخصية لكل فرد من أفراد المجتمع، أو على الأقل أولئك الذين حرموا منها - وهم كثرة في معظم المجتمعات الإنسانية.

د - حين تختلف أوساط المجتمع في توكيد أهمية قضية ما على غيرها من القضايا التي يشغل بها الناس وتعالجها الحركة الجديدة فإن الضرورة تقتضي مجهودا صادقا يصدر عن الحركة والمسؤولين فيها ليقرر أولوية القضايا ويسعى جادا مخلصا لإقناع السواد الأعظم من المواطنين بها حرصا على سلامة وحدة الشعور الشعبي وتماسك اليقظة العاطفية والفكرية. وهذا المجهود يفترض حملة توحيد فكري وعاطفي واسعة النطاق يضمن نجاحها هذه الأيام المواصلات الفكرية الحديثة - الصحف والإذاعة والأفلام وما إليها من وسائل الدعاية والثقافة الشعبية.

هذا رأي علم الاجتماع في بعض نواحي الحركات الإصلاحية وهو رأي وإن كان لا يصح أن يؤخذ على أنه القول الفصل في تصور الحركة الاجتماعية ونضوج ثمارها فلكل حدث اجتماعي ظروف خاصة وتيارات وعوامل طارئة تتطلب مرونة للاستنتاج العلمي تؤكد في تواضع مقدرتها على تسليط ضوء نافع على جوهر السلوك الإنساني.

عمر حليق