مجلة الرسالة/العدد 1003/أخرسوا هذه الأصوات الدنسة

مجلة الرسالة/العدد 1003/أخرسوا هذه الأصوات الدنسة

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 09 - 1952


للأستاذ سيد قطب

(مهداه إلى وزير الدولة وضباط القيادة)

محطة الإذاعة المصرية لم تشعر بعد بأن هناك ثورة في هذا البلد. وقد ظل إدراكها لمعنى الثورة محصوراً في إضافة بعض إذاعات جديدة إلى البرنامج العادي، قائمة على جهد فردي بحت. لا علة أساس انقلاب أساسي في عقلية الإذاعة!

وهذا طبيعي. فغن العقلية المشرفة اليوم على المحطة هي بذاتها العقلية التي كانت تشرف عليها منذ نشأتها

ومكلف الأشياء ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار

إن الأصوات الدنسة التي ظلت تنثر على الشعب رجعها خلال ربع قرن من الزمان هي ذاتها التي تصبها الإذاعة على هذا الشعب صباً، وتكثر من عرض أشرطتها المسجلة بحجة أن الجماهير تحب هذه الأصوات

والجماهير تحبها نعم! كما أن هذه الجماهير تحب المخدرات! ولكن واجبنا اليوم هو حماية هذه الجماهير من الأصوات التي تحبها كما نحميها من المخدرات التي تحبها كذلك. وأجبنا هو أن نصون ضمائر الناس وأخلاقهم من التميع والشهوات المريضة، - المعذرة للرجولة والأنوثة - التي ينفثها في أرواحهم مخلوقات شائهة بائسة كعبد الوهاب ومحمد فوزي وفريد الأطرش وعبد العزيز محمود وليلى مراد ورجاء عبده وفايدة كامل وشهر زاد وأمثالهم.!

إن هذه الطابور المترهل الذي ظل يفتت صلابة هذا الشعب ويدنس رجولته وأنوثته، وهو المسؤول عن نصف ما أصاب حياتنا الشعورية والقومية من تفكك وانحلال في الفترة الماضية

إن فساد فاروق وحاشيته، ورجال الأحزاب ومن إليهم، لم يدخل إلى كل بيت، ولم يتسلل إلى كل نفس. أما أغاني هذا الطابور وأفلامه فقد دخلت إلى البيوت، وأفسدت الضمائر، وحولت هذا الشعب إلى شعب مترهل لا يقوى على دفع ظلم أو طغيان. وعبد الوهاب ينفث في ورعه أن الدنيا سيجاره وكاس! إن هذه الأصوات بذاتها تكون جريمة وطنية، وجرمية إنسانية، بغض النظر عما تقول! فلقد تحول هي ذاتها إلى ميوعة مدنسة حتى ولو كانت تنشد مشيداً حماسياً!

وهذا هو محمد عبد الوهاب يغني أخيراً (نشيد الحرية) للأستاذ كامل الشناوي. فماذا صنع به؟ لد استحال في حنجرته رجعاً ضارعاً؛ ووصل إلى ضمير الشعب دعوة خانعة إلى تهويمة مخدرة! ومع أن تلحين النشيد من الناحية الموسيقية فيه جهد واضح، ولكن الكارثة كلها تكمن في طريقة الأداء الصوتية التي انطبعت بالشجن الضارع المترهل المحلول!

وعبد الوهاب رأس مدرسة، والآخرون ليسوا خيراً منه بل هم شر. ولا سبيل لعلاج هذه المخلوقات الشائهة الزرية. لا سبيل لعلاجها إلا بأن تخرس هذه الأصوات الدنسة إلى الأدب، إذا أردنا أن نربي روح هذا الشعب تربية جديدة، وأن نبث فيه حياة جديدة، وما كنا بمستطيعين من قبل أن نصنع هذا، ولا أن نطالب بإخراس هذه الأصوات كلية - مهما كان الشعب يحبها - لأن العقلية العامة لم تكن تستسيغ هذا الطلب. وربما لا تستسيغه الآن كذلك. ولكن واجب الثورة يحتم عليها أن تفعله - مهما بكن فيه من اعتداء على حريات الأفراد - فواجب الثورة أن تحمي الناس من أنفسهم أحياناً. كما تحميهم من المخدرات. والمخدرات لا يمكن أن تفسد ضمير الشعب، وأن تفتت تماسكه، كما يفسدها فلم واحد، أو أغنية واحدة من أغنيات هذا الطابور!

ثم نعود إلى محطة الإذاعة فنجدها توالي برامجها القديمة بعقليتها القديمة - فيما عدا تعديلات طفيفة قائمة على جهود فردية بحتة - كأن شيئاً ما لم يحدث في حياة هذا البلد

لماذا؟ لأن الرجال الذين عاصروا مولد الإذاعة هم القائمون عليها حتى الآن. وأنا آسف حين أتعرض لأشخاص بأعيانهم؟ فالأشخاص لا يهمونني في شيء، لولا دلالة وجودهم على أن الثورة لم تصل لعد إلى محطة الإذاعة

خذ مثلاً لذلك رجالاً، ردهم العهد الجديد إلى مراكز هامة في محطة الإذاعة، بينما هو عنوان على عهد لا ينبغي أن تظل له آثار في العهد الجديد

كل من احتكوا بالإذاعة يعرفون كيف نال بعضهم رتبة (بالكوية) في سنة مبكرة وكيف صعدوا الدرجات المالية وثباً

إن رتبة (البكوية) كان لها معناها، ولها أسبابها في مثل تلك العهود. ومع هذا فقد استطاع بعضهم أن يعود إلى الإذاعة، وأن يطلق أبواق الثناء عليه في كافة الصحف!

لماذا. لمجد أن المنافسة القاسمة على الحظوة بالرضى الملكي السامي قد أبعدت قوماً وقربت آخرين

ولكن أحداً لم يسأل، ولم يعرف، فيم كان هذا الخلاف؟

إنه لم يكن قطعاً خلافاً على مبدإ، ولا على حق من حقوق الشعب، ولا على خطة ولا على فساد. إنما كان خلافاً على الحظوة بلثم الأعتاب الملكية الكريمة!

ولم يقل أحد إن انتصار موظف على موظف في هذا السباق يجعل أحدهما شريفاً والآخر مجرماً. ولكن بعضهم قال هذا. وجاء بالمبعدين ليشرفوا على محطة الإذاعة من جديد، في العهد الجديد!

إنني آسف حين أضطر إلى لمس ذلك الموضوع الشخصي ولكن عذري أنه عنوان على عهد يجب أن يزول

إن محطة الإذاعة يجب أن تنفض نفضاً من أقصاها إلى أقصاها. إنها في حاجة إلى تطهير من نوع خاص. فلم يبلغ الدنس في جهة من جهات الدولة ما بلغ في محطة الإذاعة. وإن جدرانها لو نطقت لأفصحت عن كثير، مما لا يجوز نشره في الصحف: لا لأن القانون يحرمه، بل لأن كرامة النفس البشرية تأبى الإفصاح عنه!

ولا سبيل للتطهير والأشخاص الذي عاصروا مولد الإذاعة وسايروها باقون في مراكزهم بالمحطة. إن لهم صلات معينة بالوسط الإذاعي لا يمكنهم التخلص منها. وإن لهم سهرات معينة لا يمكنهم أن يتنازلوا عنها. وإن لهم ارتباطات معينة لا يمكنهم التنكر لها، ومهما حاول الوزير المختص أن ينقي جو الإذاعة من الشوائب فإنه سيظل عاجزاً عن الوصول إلى تلك الملابسات التي تتدخل في عقود الإذاعة. وإلا اضطر إلى مراجعة ظروف كل إذاعة وهذا مستحيل!

وإن عقلية الإذاعة يجب أن تتغير، فتنصرف إلى بناء أخلاق الشعب ومبادئه ومثله وأهدافه. وإلى بناء ثقافته وتفكيره وتعبيره، وغلى تعبئة قوى الشعب وعزيمته وأطماعه وأشواقه وإلى دراسة مشكلاته وتوجيهه وجهة سليمة

وهذا لا يكفي فيه تعديل البرامج، ولا تنحية فرد أو اثنين، إنما هو في حاجة إلى تنحية عقلية، وتنحية تاريخ

ولا حاجة إلى المساس بالموظفين جميعاً لتحقيق هذه الغاية. فالمهم هو تطهير الرؤوس المشرفة. الرؤوس الموجهة. الرؤوس التي عاصرت الفساد وسبحت بحمده وانغمست فيه

إن الرؤوس وحدها هي المتعفنة في هذا الشعب. وقد سار الفساد من أعلى إلى أسفل، ولم ينتقل من أسفل إلى أعلى

وكذلك يمكن أن يسير الإصلاح في نفس الطريق

سيد قطب