مجلة الرسالة/العدد 1003/عرض سريع عن

مجلة الرسالة/العدد 1003/عرض سريع عن

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 09 - 1952



تاريخ النهضة الفكرية في السودان

للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

إذا أردنا التحدث عن تاريخ النهضة الفكرية في السودان فإننا لا نجد بأيدينا من الأدلة ما يكفينا للاستدلال على المعالم الواضحة التي تنير لنا الطريق أو توصلنا إلى الحجة، فالخطوط الرئيسية مطموسة المعالم يكتنفها الغموض ويحيط بها الضباب من كل جانب؛ فنحن إذن نسير في سبيل ملتاث وفي ظلام دامس غير منار، ذلك لبعد الشقة بين الأمس واليوم، ولانعدام الصلة بين الماضي والحاضر، ولعدم وجود رابطة بين العهدين القديم والحديث، وستظل الحلقة مفقودة إلى أن يهيئ لها الله باحثاً سودانياً ينقب بجد ليكشف لنا السر المختفي وراء أطلال الماضي البعيد

وإذا أردنا الرجوع إلى الماضي فليس لدينا ما يثبت صحة قولنا غير أحاديث يتناولها الناس في مجالسهم الخاصة، يقتلون بها الوقت أو يتسلون بها لينقلها الخلف عن السلف، وهي أشبه ما تكون بأحاديث الرواة في العصور الأولى من صدر الدولة العباسية. . وهذه الأحاديث ينقص بعضها الثقة وبعضها السند. . على أنني تمكنت بواسطة اتصالاتي ومراسلتي مع إخواني أدباء وشعراء السودان أن أجمع مادة لبحثي هذا الذي أقدمه للقراء، وخصوصاً أبناء البلد الشقيق، راجين منهم إيضاح ما فات عني، واستدراك ما قد سهوت عنه

بدء النهضة

تبدأ النهضة الفكرية في السودان منذ العهد التركي أي منذ سنة 1820 م، وكانت الثقافة آنذاك تحبو وتتعثر، إلى أن هاجر بعض أبناء الجنوب إلى مصر والتحقوا بالأزهر الشريف حيث أتموا دراستهم ثم عادوا إلى بلدهم يحملون طلائع نهضة جديدة، ولكن مهمتهم كانت مقتصرة على الوعظ والإرشاد والترنم بالمدائح النبوية، ونظم كل ما له علاقة بالدين الإسلامي. على أن ذلك لم يمنع من التفاخر بالأمجاد. وكانت الحالة آنذاك في السودان غير مستقرة؛ العصر عصر حروب واستبداد ومظالم وإرهاب وثورات داخلية وانحرافات خلقية، بل كانت الفوضى منتشرة في القطر، فمن فتك إلى سلب ونهب إلى تخريب إلى إقطاعية شاذة وعسف لا يطاق، وكيف تستقر الأمور في بلد كالسودان إذا كان الجهل باسطا جناحيه على السكان، والوعي القومي في مهده، والشعور بالحرية مقبور. فلهذه الأسباب لم تكن العوامل آنذاك مشجعة للنهوض بالأدب، لأن الطغيان التركي كان يحطم كل شيء ويسيطر على كل مرافق البلاد، حتى اللغة العربية كانت متفككة الأوصال، يكاد الدود العثماني العين ينخر جسدها المنهوك ويحترم عمرها وهي في الشباب

وظل السودان على هذه الحالة من العسف حتى سئم الناس الظالم، فولد الثورة في النفوس التي تمخضت عن انقلاب شامل قامت على أثره حكومة المهدي - المهدية - التي ظلت تحكم البلاد زهاء ستة عشر عاما، إلى أن تم الفتح الأخير على أيدي الإنكليز والمصريين في سنة 1898 م، إذ أبرمت الاتفاقية الثنائية لحكم السودان على النظام الحاضر

ورب قائل يقول: إذن كيف كانت الاتجاهات الفكرية في العهد (المهدوي)؟ أقول: لم تكن هناك اتجاهات أدبية وفكرية بالمعنى المفهوم الواضح نستطيع أن نتحدث عنها أو نسجل بعضها؛ إذ كل ما وصل إلى أيدينا من نتاج ذلك العهد هو أن الأدباء والشعراء كانوا يقصرون إنتاجهم الفكري على المدح والتغني بالأمجاد، وكل ما نظموه لا يتعدى حدود الدين والشريعة، وقد كان أكثر شعرهم نظماً شبيهاً بألفية ابن مالك ومدائح البرعي في الرسول الأعظم

وهكذا استمرت الحال حتى دارت عجلة الزمن دورتها البطيئة إلى أن وقفت أمام عام 1924 م، حيث تمخضت البلاد عن ثورة أخمدت في مهدها، ولا أريد أن أتحدث هنا عن الثورة، ولكني أحب أن أعرج على نفسية شباب ذلك العهد الذي يعتبر نقطة تحول بالنسبة للسودان من جميع النواحي، وإيضاحاً للحقيقة نقول: إن ذلك العهد بشبابه المتوثب الثائر، كانت فترة انتقال من عهد الجهل والخمود إلى عهد اليقظة والعلم والمعرفة

ففي تلك الفترة كان اتصال السودانيين بمصر الشقيقة وثيقاً، حيث أخذت الكتب والمؤلفات المصرية تغزو الأسواق فتتلقفها أيدي القراء، وتقبل عليها النفوس في لهفة وشو لتروي عطشها إلى العلوم والمعارف، وفي الحق أننا نستطيع أن نقسم ذلك العهد إلى أقسام ثلاثة هي: 1) التعليم:

كانت المدارس في ذلك الحين قليلة العدد، وكان باب التعليم مقصوراً على فئة قليلة من الناس

2) الصحافة:

أما الصحافة فقد كانت متأخرة وقليلة، إلا أنه كانت هناك صحف تعنى بالأدب وبالنتاج الفكري، وأهمها مجلة (الفجر) التي كانت كما قيل لي قد لعبت دوراً خطيراً في تاريخ السودان الأدبي، إذ خلقت ثورة أدبية لأنها كانت المنبر الوحيد لتجاوب المواهب والعبقريات المختلفة الأشكال والثقافة، ثم جريدتي (النيل) و (الملتقى)

3) التأثير الرسمي للثقافة:

لما كان السودان تحت الحكم الإنجليزي، والإنجليز يعدون أنفسهم مستعمرين وحاكمين، فطبيعياً تكون سياستهم مناوئة لنشر الثقافة، بل هم حاربوا العلم وسعوا في الحد من ذيوعه، حتى أنهم أخذوا يطاردون كل أديب متحرر وشاعر يفكر في طردهم من البلاد، أما تلك الحركات الأدبية والجولات القلمية التي ربت الجيل الجديد، ما كانت إلا نتيجة للصراع الفردي الذي بذله أحرار الفكر والعقيدة في السودان لخلق نهضة فكرية واتجاه ثقافي وأدبي مشرق اللمحات، بارز القسمات، إذ أنهم شعروا بضرورة العمل على خلق تلك النهضة لتؤدي خدمتها إلى أبناء البلاد كما ينبغي، وإذا ما ظهرت هناك جمعيات أدبية فمعنى هذا أن الاستعمار في خطر، لذلك كان الإنجليز يحاربون كل جمعية، حتى ولو كانت غير سياسية، على أنه رغم ذلك تأسست جمعية (اللواء الأبيض)، وهي سياسية الغايات والأغراض، ولعبت دوراً هاماً في ثورة عام 1924، ثم جمعية (أصدقاء الفجر)، وهي أدبية المقصد

ثم قام مؤتمر الخريجين، وكانت غايته أدبية اجتماعية، وقد فتح المؤتمر عدة مدارس أولية ومتوسطة وواحدة ثانوية. وكان المؤتمر يعد العدة كل عام لقيام المهرجان الأدبي الذي كان يعقد في (أم درمان) الجزء الثالث من العاصمة، والأبيض وعطبرة، وأخيراً تطور المؤتمر وأعلن عن أهدافه السياسية

ثم ولدت بعد ذلك الأحزاب السياسية المختلفة، وأنشئت الجرائد الحزبية التي لم تعد تهتم بغير المهاترات السياسية السخيفة التي لا طائل تحتها، والتي كانت السبب في موت الأدب وخنق قابليات الأدباء والشعراء

ومنذ سنة 1946 اتجه السودانيون نحو السياسة وخلفوا الأدب وراءهم غير مهتمين بكل ما يمت إلى الفن بصلة

فالخطب السياسية والقصائد الحماسية هي اليوم تدور على ألسنة الناس، وهي التي تمتلئ بها أعمدة الصحف، وإنها لو جمعت في كتاب واحد لكانت تعطي فكرة عن الأدب السياسي السوداني الآن

ولكن رغم انحراف الناس وراء السياسة، وحبهم للجدل السياسي، لا يزال بعض الشباب المتوثب يولي الفن الصادق والأدب الرفيع أهمية بالغة، وكما أنه لا يخلو كل قطر من بعض الشعراء الأفذاذ، وسنعرض لهم بالتفصيل في مقال قادم إن شاء الله

ماذا ينقص السودان

بكل ألم وأمل نلاحظ أن السودان لا يزال متأخراً عن القافلة الأدبية العربية، بل في حاجة إلى كتاب ثائرين يجمعون بين قوة الفكرة واتساقها إلى جمال الأسلوب وقيمته، كتاب ينقطعون للدراسات الأدبية والتأليف، ويخرجون من الكتب ما يحمل طابع بلادهم الأصيل

كما يراد من أدباء السودان أن يطرقوا باب الثقافة الشعبية عن طريق المحاضرات والمدارس الأدبية التي تعلم العلوم العقلية، والتي تربط بين طبقات الشعب عن طريق حياة جماعية مشتركة، والتي تنمي في نفوس أبناء الأمة روحاً من المساواة الاجتماعية، وتمنحهم إلهاماً ومثلاً إنسانياً رفيعاً يؤدي إلى تطور اجتماعي لا يقوم على نضال اقتصادي بين الطبقات، تثيره الأطماع المادية وروح الشر والقسوة والجدب الروحي

الشعر السوداني

من الإنصاف للواجب والإثبات للحقائق أن نقف لحظة نتناول فيها الشعر السوداني بكلمة. وهي أن الباحث الذي يقرأ كتاب (شعراء السودان)، الذي جمعه الكاتب المصري سعد ميخائيل منذ سنوات، يلاحظ أن الشعراء المذكورين في ذلك الكتاب لا ذكر لهم الآن، ولذلك عدة أسباب: فمنهم من مات، ومنهم من انغمر في الحياة فهجر الشعر، ومنهم من حطمته قيود الوظيفة، وبعضهم لم تساعده الظروف المالية على طبع ديوانه ونشره حتى اليوم. لأن السودان - وهو كالعراق تماماً - يفتقر إلى الناشر، إلا أن بعضهم - وهم الشيوخ. . . ظل مستمراً على النشر، كالأستاذ (محمد سعيد القياسي) الذي كتبت عنه في عدد سابق، و (الأستاذ عبد الله عبد الرحمن) و (التيجاني يوسف بشير)؛ أما الشعراء الشباب المعاصرون - وهم كثر بحمد الله - فأترك البحث عنهم إلى مقال مستقل، لأن روحتهم وأسلوبهم الفني يختلف بكثير عمن ذكرتهم، وهؤلاء جميعا يطلب منهم أن يكونوا أكثر جرأة من غيرهم، ويظهروا الحياة بجرأة وعزيمة صادقة، وليقفوا أمام العالم العربي ويظهروا نتاجهم للناس، غير عابئين بناقد أو حاسد، وإلا فإن انطواءهم على نفوسهم معناه الموت والضياع، لاسيما وأن فيهم من يبشر شعره بالخير العميم والعبقرية الكامنة وراء زوايا النسيان. .

بغداد - أمانة العاصمة

عبد القادر رشيد الناصري