مجلة الرسالة/العدد 1003/هل كان الزهاوي فيلسوفا؟

مجلة الرسالة/العدد 1003/هل كان الزهاوي فيلسوفاً؟

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 09 - 1952



للأستاذ محمد رجب البيومي

قرأت المقال الرائع الذي كتبه المستشار الفاضل الأستاذ محمد سالم الخولي عن اثر (الرسالة) في الأدب الحديث، وقد اغتبطت كثيراً بما نم عليه من رأي صائب، وإطلاع دائب، وذوق سليم. وليس ذلك عجيباً، فالأديب يمت إلى القانون بأوشج الصلات وأكدها، فهو عدة المحامي اللسن ينمق به الدفاع، وسلاح القاضي المتمكن يدبج به الحيثيات، ولن ترى فقيها مرموقاً لا يستند إلى بلاغة الحجة وقوة البيان

وقد لاحظت أن الأستاذ يقول عن الزهاوي رحمه الله أنه الفيلسوف الشاعر وليس الشاعر الفيلسوف! وذلك قول تختلف فيه الآراء، ويفسح مجالاً للمناقشة والتعقيب، إذ أن الشاعرية أصل في جميل، قام عليها بناء مجده وخلوده، وكان للفلسفة ظلال خفيفة تتراقص في أبياته ومقالاته، ولكنها لا تصبغ إنتاجه بطابعها الدقيق، فظل الزهاوي طيلة حياته شاعراً يتشوف إلى الفلسفة، وقد يوجد من ينعته بالشاعر الفيلسوف على ضرب من التجاوز يدفع إليه الإطراء والتقدير، وقد يكون هذا مقبولاً جائزاً، أما الذي لا يقبل بحال فهو أن يكون الزهاوي فيلسوفاً شاعراً كما ذكر الكاتب الكبير

وحين نتعرض لجلاء هذه الحقيقة نذكر أن كلمة (الفلسفة) قد فقدت مدلولها الصادق عند كثير من الناس، فأنت تجد من يطلقها على كل مبهم غامض من القول، ومن يقف بها عند البحوث الشائكة التي تتعلق بالقدر والإله وما وراء الطبيعة، كما تجد من يطلقها على الحكم السائرة، أو الأمثال العابرة، حتى جاز أن يكون شعراء الحكم والمواعظ فلاسفة متأملين، ولو علمنا أن الفلسفة هي البحث عن حقائق الأشياء في شتى مناحي الكون، لاتضح لدينا أن كثيراً ممن نزعمهم فلاسفة شعراء، لا يصدق عليهم الزعم في قليل أو كثير

ومن البديهي أن الفلسفة لم تكن - مرة واحدة - علماً - كما يقول الأستاذ مهدي علام - في أساطير القصاص، وشعر الشعراء، وأقوال الحكماء، ثم اجتازت هذه المرحلة على جسر من أنصاف الفلاسفة، حتى وصلت إلى أيدي أساتذة الفكر وسادة العقل البشري فأصبحت ذات مذاهب دقيقة، ومدارس متشعبة تكد الأذهان وترهق العقول

فهل كان للأستاذ الزهاوي مذهب خاص يدعو إليه، ويقيم الأدلة على صحته، حتى فيلسوفاً يتبوأ مكانه بين الفلاسفة الخالدين؟!

إننا نبحث في إنتاجه - النثري والشعري معاً - فلا نجد غير مجموعة متناقضة من الآراء، وقسطاً وافراً من الشكوك العقلية، لا تجد من يذهب بها إلى الجزم واليقين، والشاعر حائر مضطرب لا يدري بأي رأي يتمسك، وإلى أي سبيل يتجه، فهو من هواجسه في ليل دامس لا يشرق فيه بدر منير، وقد دارت أكثر شكوكه حول الموت وما يعقبه من فناء أو خلود، فأكثر من الحديث في ذلك دون أن يجزم برأي يظهر اتجاهه، ويكشف عقيدته، فقد تقرأ له القصيدة فتظن أنه من الماديين الذين ينكرون خلود الروح، فإذا انتقلت إلى قصيدة أخرى رأيته يتشبث بالفكرة الإسلامية في الخلود والبقاء، ثم تقرأ قصيدة ثالثة فتجده في حيرة دامسة بين الرأيين السالفين، يذكرهما في شك وتردد، دون أن يعتصم برأي خاص يجهر به، ويصرح باعتقاده، وما هكذا الفيلسوف الصادق، بل أنه صاحب المذهب الفكري الذي يقيم بناءه على دعائم قوية من الأدلة والبراهين، وقد نلاحظ صلات واضحة بيم ما قاله أبو العلاء وما نظمه الزهاوي، فكلا الرجلين عريق في هواجسه وظنونه، ينفي ويثبت، ويلحد ويستغفر، ويجزم ويتردد، وقد أطلق المؤرخون على المعري ما أطلقه المحدثون على الزهاوي، فكان الأديب الفيلسوف، على ضرب من التجاوز، ولم يكن الفيلسوف الأديب، وأذكر أن الأستاذ أمين الخولي قد كتب كتابه (رأي في أبا العلاء) ليجرده من الفلسفة، ويقصرها على أصحابها المفكرين، وقد ذكر مجموعة كبيرة من لزوميات أبي العلاء، تظهر تناقضه الصريح في جميع ما ذكره من المعاني والآراء. . فهو يقول في الموت والقدر والروح والإله وغيرها أشعاراً متضاربة ينقض البيت أخاه، والكلمة سابقتها، حتى لا يستقر بقارئه على موضع، ثم خرج الأستاذ الخولي بالنتيجة السافرة التي تنفي أن يكون من التناقض والاضطراب والتردد والحدة مذهب فلسفي يدعي صاحبه بالفيلسوف

وسنفحص أقوال الزهاوي على ضوء ما كتبه الأستاذ في أبي العلاء لنصل إلى ما وصل إليه من نتائج، وحين نفعل ذلك لا نظلم الزهاوي في شيء، بل ننصفه من الفلسفة وننصف الفلسفة من أناس فهموها على غير وجه صحيح، فلقد حسب كثير من القراء في عصرنا الحاضر، أن كل كلام يقال في القدر والحياة والموت يمت إلى الفلسفة بنسب عريق، ومن ثم فقد ظهر لدينا ألوف من الشباب، يتساءلون في قصائدهم عن سر الحياة، ورهبة الموت، ومن أين نجئ؟ وإلى أين نذهب؟ ويملئون أبياتهم بالدهشة والارتباك والذهول، ثم يحسبون بعد ذلك أنهم فلاسفة شعراء، مع أن الأفكار التي تجد مجالها في عقولهم كثيراً ما تتردد في أذهان العامة والأميين، فهل صار هؤلاء جميعاً بتساؤلهم الحائر فلاسفة مفكرين؟! كلا أيها القوم فالفلسفة لا تستند إلى الأوهام والتناقض، ولكنها تستند إلى الجزم والثبات، ونحن نعلم أن من الفلاسفة من بنى فلسفته على الشك في الحقائق، ولكن الشك شيء، والتناقض والتردد شيء آخر دون نزاع

ولابد لنا أن نذكر مثالاً من شعر الزهاوي يوضح قلقه الذهني، وتبلبله النفسي، وتردده في مجاهل اللوعة والحيرة، وأقرب شاهد لدينا ما ذكره في مصير النفس بعد الموت، فقد أطال في ذلك إطالة تدعو إلى السأم والاستخفاف، وما تكاد تقرأ له قصيدة حتى تستشف أوهامه الحائرة، وهواجسه المضطربة، فوجه بذلك أذهان الشبيبة الشاعرة إلى ما عرفوا فيه من التخرض والظنون، وأصبح المتأدبون من بعده ينهجون نهجه، زاعمين أنهم مثله، فلاسفة شعراء! وقد ارتاع أستاذنا محمد فريد وجدي لهذه النوازع الإلحادية، متى تسممت بها قصائد الشباب في فترة من الزمان، فكتب إلى الأستاذ الزهاوي خطاباً مفتوحاً، على صفحات جريدة السياسة (وقد كانت مسرحاً لنوازعه المادية) يرجو أن يناقشه نقاشاً علمياً أمام القراء لتتضح الحقيقة للعيان بعد الجدل والتمحيص، فاعتذر الزهاوي ولم يجد لديه من الأسلحة العلمية ما ينازل به فريد، وعلة ذلك واحدة، فالشاعر إذا نظم قصيدته لا يتقيد بمنطق دقيق بل يرسل آراء في جو شعري يستثير العاطفة والانفعال، ويحيطه الوزن العروضي بضرب من النغم الموسيقي الخلاب! أما الكاتب فملزم بمقارعة الحجة ومناهضو الدليل، ولن ينقذه من الحقيقة بيان ناصع، ولفظ رشيق

لقد قال الزهاوي في فناء الروح

يقولون إن النفس حق وجودها ... فلا ينبغي إنكارها وجحودها

فقلت لهم هذا جميل وعله ... خيالات عقل شارد لا أريدها

ولم يكن الإنسان إلا ابن غابة ... على فجأة قد أنجبته قرودها

فماذا يرى القراء في هذه الأبيات، إنها مثال من عشرات الأمثلة التي تؤكد فناء الروح، وقارئ الزهاوي يجد نظائره في دواوينه، ورباعياته، فهل استقر الشاعر على هذا الرأي لندرك نزعته المادية، ونضمه إلى فريق معين من الناس، كلا، فالشاعر يعلن ما يناقض ذلك حين يقول

فيا نفس سيري في الفضاء طليقة ... فلا شيء فيه للنفوس يعوق

لأنت شعاع طار عن مستقره ... وكل شعاع بالبقاء خليق

تحيق المنايا بالجسوم كثيفة ... وأما بأرواح فليس تحيق

فما رأى القراء مرة ثانية في هذا القول؟ ألا يقف من سابقه موقف النقيض! على أن الشاعر لا يريح نفسه بعد ذلك، بل يفعمنا بوابل من التردد المتذبذب بين هذين المثالين، فهو يعلن مرة ثالثة خفاء مذهبه بين القول الأول والقول الثاني، ويجهر بأن الدليل يعوزه في ترجيح أحدهما على الآخر، ويغرق في شكوكه واضطرابه، فهو من هواجسه في بيداء مجهل تتقاذفه الكثبان والأودية وتشرد به التعرجات والسهوب

وإنك لتلمس اضطراباته وبلبلته في مثل قوله

قالوا وراء الموت أهوال ولم ... أحفل بما قالوا ولم أتيقن

ولعل هذا الموت يتبع رحلة ... للروح خالدة وراء الأزمن

وقوله

إني ملم بأخبار الحياة وما ... عندي سوى الظن عما بعدها خبر

ما بال ليلتنا سوداء حالكة ... فهل تقدر ألا يطلع القمر

وقوله

أتحسب أن النفس بعد منيتي ... تطير بهذا الجو شبه قطاه

أم النفس من بعد المنية ريشة ... تقاذفها الأرواح في فلوات

أم الروح بنت الكهرباء مصيرها ... إلى هدران أفلتت وشتات

على أنني ماض إذا صاح بي الردى ... وآت، وماض بعد ذاك وآت

خلال دهور مالها من نهاية ... بسلسة موصولة الحلقات

والأمثلة السالفة وأكثر هواجس الزهاوي لا تخرج عن قول أبي الطيب المتنبي

تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب

ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعب

فإذا جاز لنا أن نعتبر المتنبي فيلسوفا، فالزهاوي إذن فيلسوف!

وقد كان الزهاوي حينا من الدهر أستاذاً للفلسفة بالآستانة، فمن المؤكد أنه درس كثيراً من الآراء الفلسفية، ومدرس الفلسفة لا يكون فيلسوفاً، وإلا فجميع أساتذتها بالمدارس والمعاهد والكليات فلاسفة مفكرون، ولن يصدق هذا أحد من الناس

وقد يقول قائل إن الزهاوي قد ألف كتباً علمية هامة، ونشر في المقتطف والمقطم أبحاثاً طبيعية، ونحن نعترف أن هذه الكتب تضع الزهاوي في صفوف العلماء لا الفلاسفة، وتنبئ عن جدارته العقلية، وملكته الفكرية، كما أنها لم تخل من مطاعن تتجه إلى دعائمها الثابتة فتحيلها إلى أنقاض، فكتاب (الكائنات) مثلاً يقوم على أن الأثير أم الكائنات تتولد منه القوى البسيطة، فترتقي إلى أن تكون مادة، والمادة ترتقي إلى أن تكون عناصر، والعناصر ترتقي وتتركب فتكون أحياء منها الإنسان والحيوان، وغير خاف أن الأثير شيء افترضه العلماء افتراضاً، فكيف يكون نواة الحياة والأحياء في هذا الوجود، وكتاب الجاذبية للزهاوي يطلعك على عجائب وهمية تتصل بالدماغ والإشعاع والنور والتصور، وقد أكون ممن لا يستطيعون الحكم على أقوال الزهاوي العلمية، فلست ممن يتعمقون في البحث الطبيعي، ولكني أقول إن الزهاوي قد اثبت بكتبه في الطبيعيات أنه عالم لا فيلسوف، ويجمل أن نشير إلى بحث هام نشره الأستاذ محمد فريد وجدي بمجلة الأزهر سنة 1356، مؤيدا بالأدلة التي تجرد الشاعر من الفلسفة دون تحيف أو إنقاص

لقد كان الزهاوي شاعراً فحلاً يطيل القول فيجيد، وهو من كبار المجددين الذين سنوا للشعر مناهج طريفة وطرائق جديدة؛ كما كان صاحب رسالة إصلاحية في المجتمع يدين بها ويكافح عنها، وقد قاسى بسببها آلام السجن والاغتراب، ولن يضير مجد الأدبي ألا يكون فيلسوفاً، فهو من أدبه الرفيع في قمة عالية وحصن منيع

محمد رجب البيومي