مجلة الرسالة/العدد 1004/القصص

مجلة الرسالة/العدد 1004/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 09 - 1952



صديق جديد عن مجلة (تروستوري)

تطلعت من السيارة التي كنت أعمل فيها إلى أعلى، فوجدت - ماني بيترز - وعلى شفتيه ابتسامة بريئة، غير أن عينيه الزرقاوين - في هذه المرة - كانتا تشعان ببريق غريب

خالط عقله مس منذ أن كان في العاشرة من عمره، حينما حدث أن أصابه أحد رفقائه - دون قصد بحجر. ومما يحز في نفسي أن أقول إنني كنت أكرهه بكل ما في هذه الكلمة من معان، وإن كنت أدعه يعبث بأدوات السيارة التي وضعتها في (جراج) بمدينة (جيرسي الجديدة) وذلك لمعرفتي أن جنونه من نوع غير خطير، وأنه محتاج إلى كل ما يمكن أن يتسلى به، ولكنه أهاجني اليوم أكثر من أي يوم سبق، فقد قضيت عشر دقائق في البحث عن أداة احتجت إليها لعمل مستعجل

تذكرت أن (ماني) أمعن في العبث أمس - كما يفعل غالباً - فكان السبب في هذا التأخير، فأخذت ألعن الظروف التي خلقت لي مثل هذا المأزق الحرج، وأخيراً وجدتها

يستطيع الحدادون أن يقسموا على أن شيئاً لا يزعجهم مثل اختلاف مواضع الآلات التي يضعونها في أماكنها

لم أقل لـ (ماني) شيئاً، إذ أعرف أن نتيجة ذلك ستكون سيئة، وأنه لا يمكنه أن يفهم حقيقة الموقف؛ وإن فهم فلا يمكنه أن يتذكر ذلك غلا لمدة خمس دقائق. أقنعت نفسي بالتغافل عن أعماله، وأن أستمر على عملي، ولكن نيران الحقد ولهيب الكراهية، جعلاً مني مرجلاً ثائراً

نظرت إلى يدي القويتين، وأحببت أن أداعب بها رأس من تسول له نفسه العبث بأشياء تخصني، أما أن يكون هذا الشخص (ماني) فإنني لا أستطيع حتى رفعهما

مضيت في عملي وأنا جد متعجب من سكان القرية. ترى ما الذي جعل (ماني) محبوباً منهم، وأنا احمل له من البغض والكراهية ما ينوء تحتهما كاهلي! وطبعا لم يكن الذنب ذنبه، أحبه الناس أم لم يحبوه، وشعوري بالكراهية لم ناجم عن عدم الإكبار للرجال الضعفاء وغير المرغوب فيهم، كرهي لكل عضو لا يقوم بعمله تمام القيام

تحملت منه ما لم يتحمله أهل القرية الأنانيون الذين قدت قلوبهم من الصخر، لا يعرفون قوياً ولا يرحمون ضعيفاً، وحبي له لم يكن إلا شفقة عليه ورثاء له انتهيت من عملي، لو أنتبه للشخص المشرئب بعنقه ليرى ما أعمل، مما سبب اصطدامي به، وبعدها ألفيتني محملقاً فيه. أما هذا الشخص فكان (ماني)

تملكني الغضب الشديد، فصحت به: بالله ماذا جاء بك إلى هنا؟

ودفعته دفعة قوية لأزيحه عن طريقي

فتترنح إلى الخلف بمجرد اختلال توازنه، وغارت عيناه الزرقاوان في محجريهما متعجبتين سائلتين، ولم أكن رأيتهما على هذه الحالة من قبل

ثم اصطدم ببعض آلات مبعثرة هنا وهناك، وسقط سقطة أفقدته الرشد

زاغت عيناي واشتد بي الخوف، وأحسست بفيض من العواطف يدفعني إلى مساعدته على القيام. وفجاءة، رأيتني ماداً إليه يدي أساعده على النهوض

شعرت وأنا أنحني إلى الأسفل أن يدي قد بلتا، ونظرت إلى الأسفل فرأيت قطرات حمراً على الأرض على بعد ست وثلاثين عقدة مني

حينئذ عرفت أن رأسه قد أصيب ببعض أدوات سببت شج رأسه، فظننت أنه مات، ولكنني شاهدت صدره يعلو ويهبط فعرفت أنه لم يفارق الحياة. لم أعر ذلك اهتماماً بادئ ذي بدء، وطمأنت نفسي بأنه لن يلبث أن يستفيق. وبرغم ما كنت أتظاهر به من الهدوء، وكنت معتقداً أن إصابته خطيرة. سرت تحو التليفون وطلبت الطبيب قائلاً: أصيب ماني بيترز - بحادث خطير فأرجو أن تأتي بسرعة. وعلقت (السماعة) ورجعت إلى - ماني - أسائل نفسي ماذا يمكنني عمله حتى يصل الطبيب. استطعت أن اقف النزيف، ولكنني لم أعرف ما يجب أن أعمله أيضاً. وهكذا جلست إلى جانبه منتظراً مجيء الطبيب، محاولاً جهدي آلا أفكر فيها سبب هذه الحادثة

جاء الطبيب في وقت مناسب ومعه خمسة رجال من أهالي القرية ممن أعرفهم. لقد كانوا في بيت الطبيب ساعة أن أخبرته بما حدث. ولما سمعوا ما قاله الطبيب عن (ماني) أتوا معه ليعرفوا حقيقة ما حدث

وكما قلت قبلاً إن أهل القرية جميعهم يحبون (ماني) ما عداي فتأثروا لما أصابه

لم ينبس أحدنا ببنت شفة، حتى فرغ الطبيب من الفحص، فرفع إلينا وجهاً ممتقعاً، فكان ذلك جواباً كافياً وفر عليّ السؤال تكلم بهدوء قائلاً: إن أصابته خطرة جدا، فليخبر أحدكم مستشفى (آردين) ليرسلوا نقالة لحمله. ثم الفت وسألني عن كيفية وقوع الحادثة فأخبرته بما حدث، فأومأ برأسه فاهماً

غير أنني لاحظت الخمسة الآخرين ينظرون إلى مستغربين، ورأيت واحداً أو اثنين - لا أتذكر - ينظر إلى متشككاً

عشر دقائق مؤلمات مرت قبل أن تصل النقالة. ولم تمض دقيقة أخرى حتى كان الطبيب وماني في الطريق إلى مستشفى (آردين)

شعرت بحمى خفيفة، وذهبت إلى حيث أستطيع أن أتنفس، لأن هواء (الجراج) يكاد يخنقني. وقبل أن أصل إلى حيث أردت، سمعت قائلاً يقول: فيلد، دقيقة من فضلك، لا يمكنني أن أدعك تذهب الآن

فالتفت قائل: ولم ذلك يا جاك؟ ألم تصدق ما أخبرت الطبيب به؟

وظهر في هذه اللحظة الأربعة الآخرون

- لا، لا، إن أحد لم يصدق ذلك لما نعرف من مبلغ حقدك على (ماني)

تملكني غضب مفاجئ. إنهم يظنون أنني فعلت ما فعلت عن عمد وإصرار

ظننتني قادراً إلى إقناعهم بادئ الأمر بأن ما حدث لم يكن إلا مصادفة سيئة، أما الآن فإن ذلك لا يزيد مركزي إلا حرجاً

أنثنيت إلى جاك قائلاً: تظنني حاولت قتل ماني؟ أليس كذلك؟! حسن، ظن ما شئت، فلست أبالي. والآن تفضل بالخروج وإلا أصابك ما لا يرضيك

فكان جوابه أن رفع يده وضربني بقوة، إلا أنني تحاشيت ضربته بحركة خفيفة من رأسي، فاستدار حول نفسه وسقط على الأرض يتدحرج

فلما رأى الأربعة الآخرون ما حل بصاحبهم هجموا علي دفعة واحدة كالذئاب الكاسرة يريدون تمزيقي. وسمعت (لودين) يقول: آه. . . هل تقدر أن تفعل بنا ما فعلت بماني. إيه؟ حسن إنك لا تقدر. إننا لا نتصارع من أجل جائزة كما تفعل، ولكننا سنلقي عليك درساً لن تنساه مدى الحياة

دافعت عن نفسي دفاع المستميت، ولكن ما حيلتي آزا خمسة رجال أشداء؟ نعم أسقطت اثنين منهم ولكن الباقين تمكنوا مني وضربوني ضرباً مبرحاً. وأخيراً وجدتني ممداً على الأرض مشرفاً على الإغماء

أذكر أنني سمعت (لودين) يتكلم بالتليفون طالباً نقالة أخرى، وبعدها لم أكد أفقه شيئاً مما يدور حولي، إذ أن الإغماء غلبني

فلما أفقت رأيتني على سرير أبيض من أسرة المرضى، ثم رأيت ممرضة منحنية فوقي وكان إلى جانبها طبيب فعرفت أنني في المستشفى. سأل الطبيب الممرضة عن حالي فأجابته أنني أحسن من ذي قبل. ثم التفت إلى مستفهماً: ما الذي حدث؟!

فأجبته بصوت ضعيف: تشاجرت. ثم سألت: هل كسر شيء؟!

فقال الطبيب مغمغماً: تشاجرت؟ وتابع فرحاً: آه، لا، يحدث شيء مما تعني، إنما كل ما هنالك رضوض لن تلبث أن تزول آلامها فيمكنك أن تخرج بعد يومين. ثم انصرف

أردت أن سأل عن (ماني) ولكن حالتي كانت من الضعف بحيث لم أستطيع معها أن أتكلم. سرى بي التفكير إلى الرجال الذي أشبعوني ضرباً. ومن الغريب أنني لم اشعر نحوهم بذرة من الحقد، وكأن ما حدث لم يكن إلا خيالات وأوهاماً

غير أنني سعيد، سعيد لأن عظامي لم يصبها عطب، وإلا لكانت الدنيا لدي أضيق من سم الخياط. وأدركت أخيراً أن عملي كان جنونيا. ترى من يصدقني إذا قلت إنني دفعت (ماني) دفعة لم ابلغ من جرائها قتله؟

وفجأة وثب إلى ذهني خاطر أذهلني، واصطكت أسناني رعباً، وهو ما سيكون شأن الشرط معي إن. . . إن هو مات؟!

انقبض صدري لهذا الخاطر المروع، وكدت أصيح بكل ما في حنجرتي من قوة. والفضل في إنقاذي من هذا الموقف للممرضة التي دخلت في تلك اللحظة فأزمعت سؤالها عن ماني، قلت:

- إن لي زميلاً هنا اسمه (ماني بيترز) كيف حاله؟ فأجابتني بصوت هادئ

- إنه في حالة سيئة، وإنه الآن في غرفة الجراحة لإجراء عملية جراحية خطيرة

فسألتها بلهفة:

- هل تدعينني أذهب لأرى ما يعملون؟

ففغرت فاها متعجبة، ولكنها لم تلبث أن استعادت ثباتها وتعهدت بأنها ستفعل، وتركتني وانصرفت

قضيت مدة أتقلب على فراش الألم خائفاً مذعوراً مما سيحدث لي ولماني. لم أكن أشتكي في ذلك اليوم من شيء، غير أنني كنت منزعجاً مما سيحدث لي

وفي ذلك المساء أقبلت الممرضة قائلة:

- إن الأمل في نجاح العلمية كبير جدا، ولو أنهم لم يحبروا أحداً، وإننا سنعرف عنها في الصباح كثيراً

كنت أريدها أن تقول أنه سيعود كما كان دون أنت يكون في قولها هذا ذرة من الشك. لذا بقيت في حيرة من أمري، مما أثر في حالتي وأخر شفائي

وفي صباح اليوم التالي رأيت الممرضة مبكرة عليّ غير عادتها، فأحسست أن دقات قلبي توقفت، وأن الدم قد جمد في شراييني. وتمثل أمامي بعين الخيال ماني ممدداً على السرير جثة هامدة. ياله من منظر مخيف تقشعر منه الأبدان! وسألتها: ما هذه الضوضاء؟ هل هو ماني! هل. . . هل مات؟

- لا، ولكنه يسير من شيء إلى أسوأ، وقد سأل عنك، فهل في استطاعتك أن تذهب إليه؟

لم أحبها عن سؤالها، بل أسرعت في إلقاء الأغطية عني، وحاولت القيام فلم تسعفني أعضائي المنحطة، فجلست على مضض

حاولت أن أسترد قوتي، غير أن رأسي كاد ينفجر فأسرعت الممرضة نحوي، ومددتني على السرير بهدوء، ثم قالت بقلق ظاهر: سآتي بنقالة لحملك، فأخبرتها أنني قادر على المشي على قدمي، إذا هي ساعدتني. ففعلت، ووصلنا إلى غرفة (ماني)

انحنيت فوقه، وسألته عن حاله، فأجابني، وفي عينيه تلك النظرة البريئة الطاهرة: إن رأسي يكاد ينفجر، ولكنني أحببت أن أراك حيت علمت أنك أصبت أنت أيضاً، ورغبت أن أراك سليماً معافى

شعرت بالدموع تجري على خدي حارة غزيرة. يمكن أن يكون معتوهاً، ولكنني لم أر قلباً بريئاً طاهراً مثل قلبه

عرفت أن لم يتذكر ما فعلته به، ولا كيف كنت أعامله دائماً

وشعرت لأول مرة في حياتي منذ أن كنت طفلاً، بشوق إلى الصلاة، فأخذت أصلي، وأصلي بحرارة. صليت وابتهلت إلى الله، من أجل - ماني - ليشفى، ولأستطيع أن أدعه في (الجراج). وكأن دعائي أجيب، إذ أن - ماني - ترك المستشفى بعد شهر منذ دخوله وقد عاد كما كان لم يتغير

إنه الآن يقضي جميع أوقاته إلى جانبي في الجراج، وإنه لم يعد يحدث لي المتاعب. إنني أرغب أن يكون دائماً هناك، لأنه يزيل وحشتي في وحدتي، وقد جعلني أشعر بالشفقة والحنان لكل من يكون مفتقراً إليهما.

ع ب