مجلة الرسالة/العدد 1004/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 1004/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 09 - 1952



بلادنا فلسطين

(229 صفحة من القطع المتوسط طبع القاهرة 1948)

التاريخ القديم للشرق الأدنى

(266 صفحة من القطع المتوسط طبع بيت المقدس 1951)

تأليف الأستاذ مصطفى مراد الدباغ

للأستاذ علي محمد سرطاوي

الأستاذ، مصطفى مراد الدباغ، مؤلف هذين الكتابين، المفتش في معارف حكومة فلسطين سابقاً، والوكيل المساعد لوزارة المعارف الأردنية اليوم، وأحد أفراد أسرة الدباغ اليافية، التي اشتهر أفرادها بالفضل والعلم والأدب، ومنهم الشاعر المبدع المرحوم إبراهيم الدباغ في مصر، علم من أعلام المؤرخين المعاصرين، وقطب من أقطاب التربية والتعليم جمع إلى العلم الغزير، المثالية الإسلامية في أروع صورها

حصل على ثقافة عميقة الجذور في كلية المعلمين في بيروت زمن الحكم العثماني، بحكم ذكائه الذي جعله الأول على جميع الطلاب في جميع سنوات الدراسة، والتحق بالجيش، فصقلت خشونة الجندية الرجولة الفذة الكامنة فيه، وطبعته بطابع الصرامة والجد، في كل ما يتصل بنفسه وعمله من شؤون؛ والجندية كالنار، لا يخرج منها غير المعدن الصافي، والذهب الإبريز وحين كانت الجحافل التركية تتراجع أمام جيوش الثورة العربية، التي كان يقودها المغفور له فيصل بن الحسين، في الحرب العالمية الأولى. وفي وهاد الأردن، وأطراف الغوطة ومرتفعات الأرز، انتقاماً من وحشية الاتحاديين، متمثلة في فظاعة السفاح، الطاغية، جمال، الذي راح يطارد، في جنون السلطان المطلق، أحرار العرب، ويسوق إلى أعواد المشانق، الصفوة الممتازة من رواد الحرية في الأمة العربية، في عالية، وقد التفت حوله بطانة مجرمة من رجال السوء، والخونة المارقين في أردية الكهنوت الإسلامي، كانت تعمل في الوقت نفسه لحساب الحلفاء، وراحت تلك الفئة التي تجري في شرايينها معاني الرق، تحرف كلام الله عن مواضعه إرضاء لطغيانه، وتفتيه في خيانة أولئك الأحرار، محللة له سفك دمائهم باسم الدين؛ لم يكد ذلك ليتم حتى كان حاييم وايزمن، المحاضر في جامعة منشستر يقهقه ملء رئتيه، في عاصفة هوجاء من المرح الأرعن، ويشرب من أصحابه الغادرين، نخب النصر الذي أحرزه على المغفور له الملك حسين بن علي، بوعد بلفور

لم يكن وعد بلفور في حقيقته غير بداية الهجوم على الشرق في حرب صليبية مقنعة، لم يكن للضمير الإنساني فيها أي نصيب، وتضاءلت فظائع القدامى من الفاتحين أمام وحشيتها، وضراوتها، وهمجيتها، لكم حولت - يشهد الله - تلك الحفنة الباسلة، التي كان نصيبها أن تكون في خط النار الأول في معركة الهجوم الوحشي على الشرق الأدنى، من أبناء فلسطين - أن ترسم أمام الأعين التي يغظ أصحابها في سبات الغفلة العميق، صورة الدوحة الهائلة تنبت من البذرة الصغيرة، وأن تجسم الخطر الذي سيهدد أمن الشرق جميعه من وراء عبارات وعد بلفور المتواضعة، ولكن كل تلك الجهود ذهبت عبثاً، ولم يكن أمامها غير الثبات إلى النهاية متحملة الخسائر في كل شيء، مدى ثلث قرن من الصراع الرهيب بين قوى غير متكافئة، وهي منفردة في معركة الشرف لم تتزحزح، ولم تفرط، حتى غلبت على أمرها، وشردت عن أوطانها، في مشارق الأرض ومغاربها، بعد أن استبيحت المحارم، وانتهكت الأعراض، ودنست المساجد، في عار لم تسجل صحف التاريخ مثله على أمة من الأمم، وسيظل الذين ظاهروا عليه، موضع اللعنة من الله ومن الأجيال المقبلة في تاريخ الأمة العربية والتاريخ الإنساني إلى يوم يبعثون

عاد (أبو عمر) إلى أرض الوطن الذي بارك الله ثراه بإسراء سيد المرسلين إلى المسجد الأقصى فيه، فرأى أن العمل الخليق بالجندي الباسل هو التعليم، بحكم ما فيه من شرف بالغ، وتضحيات جسيمة، وعمل مجيد للأمة يمد جذور حياتها إلى ثرى المستقبل

التحق بإدارة المعارف، مديراً لثانوية الخليل، ثم أستاذاً محاضراً في كلية المعلمين بالقدس، تلك الكلية التي طافت بها نفحات قدسية قومية ساحرة من عبقرية شاعر الأمة العربية معروف الرصافي رضوان الله ورحمته عليه، يوم أن كان أستاذاً محاضرا فيها ثم الحق بإدارة التفتيش وبقي فيها حتى اليوم الخامس عشر من أيار 1948 وهو اليوم الذي انتهى فيه الانتداب البريطاني على فلسطين

كانت المشكلة التي تواجه الوطن القومي، والتي كان يخيل للقائمين على تأسيسه أنها مستعصية الحل، هي الحصول على الأراضي الكافية لإقامة القلاع الحربية في مظاهر متواضعة من الأكواخ البسيطة، غير أن القدر الساخر ما لبث أن جعل المشكلة بصورة عجيبة، عن طريق انتقال صفقات هائلة من أخصب الأراضي، قامت عليها من أزمان موغلة في القدم، قرى، ومزارع، وفلاحون، إلى الأيدي الصهيونية، كانت تملكها الأسر الكبيرة من غير أهل فلسطين، تقيم في الأقطار العربية المجاورة؛ ذلك إلى جانب الوسائل الجهنمية التي ابتدعها رئيس النيابات العامة نرومان بنتويش، بما كان يصدره من أنظمة تعسفية وقوانين غريبة لوضع البلاد في أسوأ الأوضاع التي من شأنها أن تجعل في إقامة صرح الوطن اليهودي

وكان لا مفر لبناة الوطن القومي اليهودي من رسم مناهج التدريس في المدارس العربية الحكومية رسماً بارعاً، تعين النتائج فيه على بناء ذلك الوطن، بخلق طبقة مستغربة من العبيد لا تعرف مكانها من الكرامة، ولا تاريخها المجيد في تواريخ الأمم والشعوب، تعيش ليومها، ضيقة الآفاق، تعبد الغرب بدل من الخالق، يملأ الغرور نفوسها، ويوهن ما في ضمائرها من خلق وشرف ورجولة، طول الجري وراء أجساد العاهرات من بنات إسرائيل؛ ولكن الله رد كيدهم إلى نحورهم، فلم تفلح مناهجهم الآثمة في إخراج واحد من أبناء فلسطين، على النمط الذي أرادوا

وكانت محاولة الإصلاح في جو موبوء مسموم من هذا النوع، ضرباً في حديد بارد، ونفخا في رماد، ولكن الأستاذ الدباغ، رأى في تلك المناهج، على الرغم مما فيها من فساد، شيء لا بأس به من الخير؛ إذ ليس هنالك خير مطلق، أو شر مطلق في الوجود، وراح كالغواص البارع، يبحث في ظلامها الدامس عن الدر والجوهر، فوجد من ذلك ما حاول به إصلاح سوء النية في وضعها، وراح يركز نشاطه في بيئة الفلاحين، وفي مدارس الريف باعتبار الفلاح الحارس الأمين على أرض الوطن التي امتزج ثراها بدماء النافحين من خير أمة أخرجت للناس، وكان يهيب بضمائر المعلمين، ويبيح لهم التحلل من القيود المنهجية في الحد الذي يبصره الضمير القومي من حذف أو زيادة أو تغيير، وأن تركز المسائل الحسابية على شراء الأرض، وأن لا يجري بيعها على لسان أبدا

وظهر في هذه الفترة كتابه (في القرية)، ويدعو فيه إلى تركيز القوى للنهوض بالفلاحين، وتوفير ما يكفي من الخدمات الصحية والتعليمية لرفع مستواهم، وتوفير عدالة اجتماعية في الحدود الممكنة

وأدرك السير (آرثر واكهوب) المندوب السامي على فلسطين آنذاك، والذي يتظاهر بصداقة الفلاحين، ويكثر من زيارتهم، والحفاوة بهم، على الرغم من دخول أكبر عدد من المهاجرين أيام حكمه، وكأنما كان يمثل دور الصياد الذي يبكي هو يذبح العصافير في القصة المشهورة؛ أدرك ذلك الداهية الأريب والجندي المدرب، وكان رجلا، قدر المؤلف الرجل، وقد صدق وطنيته - وكان للسير واكهوب ضمير إنساني حساس، يختلف عن ضميره الرسمي - فبعث إليه بكتاب يطفح بالشكر، وينوه بمجهوده نحو إصلاح القرية، ويطلب إليه المزيد من العناية، ويبارك عمله المجيد

من أبرز ما يمتاز به (أبو عمر)، الأستاذ الدباغ، إحساس عجيب يسبق الزمن، وما يجري وراءه من أحداث، أو قد تتمخض عنه تلك الأحداث من مفاجئات ونتائج. ومن مظاهر ذلك الإحساس انكبابه على تأليف موسوعة تاريخية في هذه الفترة أطلق عليها اسم (بلادنا فلسطين). وكأنما ألقى إليه من وراء الغيب، أو أدرك بحاسة سادسة عجيبة، أن أحداثاً جساماً في طريقها إلى تلك البلاد، تأكل الأخضر واليابس، وتمحو من سجل الوجود مدنا وقرى بأسرها، وتشرد أهلها

وقد كانت طريقته في تأليف تلك الموسوعة السير من المعلوم إلى المجهول. كان يسائل المعمرين عما يعرفون من تاريخ قراهم أو مدنهم، وأنسابهم، وكل ما يتصل بماضيهم من شؤون وشجون، حتى إذا ما دون أقوالهم، انقلب إلى مكتبة غنية بالمصادر أنفق جهداً ومالاً في سبيلها، يراجع وينقب، حتى يصل إلى بعض الحقائق فيما لديه من أقوال. قد يرفضها كلها، وقد يحذف بعضها، وقد يزيد عليها، وقد يدفعه البحث والتدقيق، عن حقيقة من الحقائق، إلى السفر من مدينة إلى أخرى، أو إلى قطر مجاور، حتى إذا فرغ من الأساس التاريخي لبحثه عن تلك القرية أو المدينة، أنصرف إلى البحث الحاضر، وهو أمر ميسور تبرع لمعاونته عليه عدد كبير من المعلمين والموظفين في مختلف الإدارات الحكومية، فكانوا يجمعون الإحصاءات المفصلة من التقارير الرسمية، أو يحصون بأنفسهم، وبمساعدة أهل القرى، ما لا يدخل في تلك التقارير؛ فتجمع لديه من كل ذلك معلومات دقيقة عن عدد السكان، ومقدار الذكور والإناث، وعدد المتعلمين، ونوع التعليم ومستواه، وعدد المدراس والطلاب والمعلمين، وأنواع المحاصيل، وعدد أشجار الفاكهة، والمساحات التي تزرع بأنواع المزروعات، وعدد الحيوانات، والبيوت، والمساجد، إلى آخر ما هنالك من التفاصيل التي لم يسبق أن استعملها مؤرخ سابق على هذا النوع الدقيق من الأسلوب العلمي المضني الذي ينوء به الفرد ولا يقوى عليه

وتقع هذه الموسوعة في عدة مجلدات ضخمة، تولت مكتبة الطاهر إخوان عام 1947 طبع الجزء الأول - القيم الأول، منه في مطابع دار التوزيع والطباعة والنشر في القاهرة - وتشاء الصدف العجيبة أن يخرج هذا الجزء في شهر أيار من تلك السنة، وهو الشهر الذي انتهى في منتصفه بعد عام واحد (1948) الانتداب البريطاني على فلسطين

يقول الأستاذ الدباغ في المقدمة: (هذه البلاد عربية منذ آلاف السنين، وأول من عرف من سكانها الموجات العربية الأولى التي نزلتها، وقد قدستها الأديان العظيمة التي تدعو لخير البشرية. . .

اجتهدت في إخراج هذا الكتاب في أجزاء عدة، وجعلت بحثه يشمل تاريخ كل مدنية وبليدة، وتاريخ ما تمكنت من الوصول إليه عن القرى، والمزارع، والأنهر، مع وصف الحالة الحاضرة في كل منها

وقد رأيت أن البحث لا يستوفي ما لم يشتمل على المهم من التاريخ العام للقطر الفلسطيني، فقسمت هذا البحث على الأجزاء جميعها، بحيث لا يفرغ القارئ منها إلا ويكون لديه سفر تاريخي لهذه البلاد منذ أقدم الأزمنة إلى قبيل الوقت الحاضر. . .

يبحث الجزء الأول من هذا الكتاب عن تاريخ القطر الفلسطيني، منذ فجز التاريخ إلى انقسام المملكة اليهودية، وعن تاريخ مدن وقرى وقبائل بلاد نابلس

وسيتناول الجزء الثاني البحث عن غزة والسبع، وقراهما وقبائلهما، كما أن البحث في الجزء الثالث سيدور عن يافا والرملة واللد وجوارهما

وأرجو المولى أن يوفقني لإتمام البحث عن المناطق الأخرى من فلسطين ثم تجهمت أحداث الزمن، وتوالت النكبات بسرعة فأوقف طبع الأقسام التالية من الجزء الأول؛ وليت الأمر وقف عند هذا الحد! بل تعداه إلى خسارة فادحة بفقدان الأجزاء التي لم تطبع من الكتاب، حين كان الأستاذ الدباغ ضمن آخر جماعات أرغمت على مغادرة يافا في باخرة رأى ربانها إلقاء عدد من الحقائب من حمولتها إلى مياه البحر، وكانت الحقائب التي تحمل ذلك الكنز الثمين من بينها. وكأن القدر أراد أن لا يبقى كتاب يتحدث عن بلاد ذهبت وذهب أهلها

لقد أورد الأستاذ مقتبسات من الأحاديث النبوية في الفصل الأول جاء فيها

1 - عن معاذ قال: قال رسول الله (ص): (يا معاذ. . إن الله عز وجل سيفتح عليكم الشام من بعدي من العريش إلى الفرات فمن اختار منكم ساحلاً من سواحل الشام أو بيت المقدس فهو في جهاد إلى يوم القيامة)

2 - عن وائلة بن الأسفع: قال رسول الله (ص) (يجند الناس أجناداً؛ فجنداً بالشام، وجند باليمن، وجندا بالعراق، وجندا بالمشرق، وجندا بالمغرب، فقلت يا رسول الله، أني رجل حديث السن، فإن أدركت ذلك الزمان فأيها تأمرني يا رسول الله؟ فقال: عليك بالشام فإنها صفوة الله في أرضه، يسوق إليها صفوته من خلقه)

3 - روى المشرف بسنده عن كعب قال: (أحب البلاد إلى الله الشام، وأحب الشام إلى الله تعالى القدس، وأحب القدس إلى الله تعالى جبل نابلس، ليأتين على الناس زمان يتماسحونه بالحبال بينهم) صدق رسول الله فقد جاء ذلك الزمان

(ومن المصادفات العجيبة أن صلاح الدين الأيوبي، تسلم القدس من الفرنج يوم الجمعة في السابع والعشرين من رجب سنة 583 هجرية أي في ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم، وهذا اتفاق عجيب، فقد يسر الله بأن تعود الدس إلى أصحابها في مثل زمان الإسراء بالني الكريم (ص) ترى من هو القائد العربي العظيم الذي أعدته قدرة الله لشرف إعادة القدس من الصهيونيين؟

أما كتاب الأستاذ الثاني (التاريخ القديم للشرق الأدنى) فهو تلك القصة الخالدة من الصراع الدائم في تاريخ الحضارة، يتابع المؤلف أحداثها في وصف تاريخ ولفتات رائعة تدل على فهم لما وراء حوادث التاريخ، من عصر إلى عصر، عبر الزمن الغابر البعيد، والإنسان هو الإنسان لا يتغير ولا يتبدل. لد كان الشرق الأدنى ولا يزال، مقابر القاتحين، في جميع عصور التاريخ، والجسر الذي عبرت فوقه موجات الحضارة، وموجات الفتح؛ ولم يعرف الزمان تاريخا معقداً مثقلاً بالحوادث الجسام كتاريخ هذا الجزء المتعب من العالم، يتصارع الأمم على وفرة خيراته وطيب مناخه، وموقعه الطبيعي الاستراتيجي وهو يربط أجزاء القارات الثلاث العظيمة

يقول الأستاذ في مقدمة كتابه: (هذا كتاب وضعته لطلاب المدارس الثانوية، وللطلاب الذين يستعدون لامتحان الاجتياز إلى التعليم العالي، إلا أن القراء عامة، في وسعهم أن يستفيدوا منه، إذ يطلعون فيه على صفحة من تاريخ الشرق العربي في العصور القديمة، وقد تبسطت في الكلام عن تاريخ بلاد الشام وعلى الأخص تاريخ القسم الجنوبي منها، وهو القسم الذي يعرف الآن باسم (المملكة الأردنية الهاشمية)، وكان يسمى قبلاً (فلسطين وشرق الأردن) وهذا البحث، على ما أعلم، لم يتعرض له أحد من المؤرخين على هذا الوجه)

وبعد، فلقد أطلت الحديث لقراء الرسالة الغراء، عن هذا الجندي، الذي طالما أبى عليه تواضعه إلا أن يظل مجهولاً، وأنا شديد الإيمان بأننا أحوج ما نكون إلى رجال من هذا الطراز يكونون مثلنا الأعلى في الحياة الجديدة الكريمة المقبلة التي تليق بكرامة الإنسان وهو يخطو على الصراط المستقيم الذي أقامته يد السماء، ليكون طريقه على ثرى الأرض، وهو يعبر إلى الطرف الآخر، المتواري في ضباب الغيب، في ركب الحياة

علي محمد سرطاوي