مجلة الرسالة/العدد 1009/القصص

مجلة الرسالة/العدد 1009/القَصَصُ

ملاحظات: A. Dumas, Un Beefsteak d’ours بتاريخ: 03 - 11 - 1952



كل لنفسه

للقصصي الكبير اسكندر دوماس (الأب)

كان بالقرية فولى منذ سنوات فلاح فقير يدعى (جيوم مونا)

وكان هناك دب يسطو على بستانه كل ليلة فيصطفى من شجر الكمثرى ألذها طمعا وأكثرها عصيراً رغم أن هذا الحيوان يستسيغ كل شيء، فمن يشك إذن في أن هذا الحيوان له من حاسة الذوق ما للإنسان وإلا لما اختار هذا الصنف من الكمثرى التي غرم بها ذلك الفلاح الذي ظن بادئ الأمر أن ذلك من فعل الأطفال الذين يسطون على بستانه مما جعله يحشو غدراته بحبات كبيرة من ملح الطعام وينتظر هؤلاء الفتية.

وعند الساعة الحادية عشرة تقريبا سمع زئيراً يدوي في الجبل فقال لنفسه (آه. إن دباً غير بعيد).

وبعد عشر دقائق دوى عواء آخر قوي وقريب حتى ظن جيوم أنه لن يستطيع الرجوع أدراجه فانبسط على الأرض وليس لديه أمل إلا أن تكون الكمثرى هي مقصد الدب لا هو!

وظهر الدب فجأة في ركن الحديقة وتقدم نحو شجرة الكمثرى مارا على بعد عشر خطوات من جيوم ثم قفز على الشجرة فأنت من ثقله فروعها وأخذ يلتهم الثمار بشره حتى أنه لم زار هذه الشجرة مرتين أخريين لكانت الثالثة عبثا!

ولما بشم الدب هبط من الشجرة ببطيء كأنه يأسف لمفارقتها وعاد أدراجه مارا بصاحبه (الصياد) الذي لم تكن غدارته المحشوة ملحا لتغني عنه فتيلاً.

استغرق كل هذا حوالي الساعة ولكنها كانت طويلة جداً على الصياد كأنها عام في حين أنها مزت على الدب كأنها لحظة

ومع هذا فقد كان الرجل شجاعاً إذ أنه همس والدب يعود أدراجه (حسن، اذهب. ولكن هذا لن يمر هكذا بل سترى).

وفي اليوم التالي مر أحد الجيران فوجد جيوم منهمكاً في قطع أسنان مذراة حديدية فقال له:

ماذا تفعل؟

- أتسلى.

فأخذ الجار قطع الحديد وقلبها في يده وأخذ يفكر برهة ثم أردف:

- لو كنت صريحا يا جيوم لاعترفت لي بأن هذه الشظايا إنما تعدها لاختراق جلد أقوى من العنز البري.

- ربما.

فاستطرد فرنسوا (وهذا اسم ذلك الجار).

- أنت تعلم أنني نعم الفتى، فلو شئت أن يكون الدب لنا سويا، فإن اثنين خير من واحد.

- المسألة تتوقف على الظروف.

قال ذلك جيوم واستمر في قطع القطعة الثالثة.

- سأترك الجلد لك وحدك ولن نقتسم سوى الجائزة واللحم.

- إني أفضل الكل.

- ولكنك لن نستطيع أن تمنعني من أن أقتفي أثر الدب في الجبل ومن أن أكمن له في الطريق.

- أنت حر.

وانتهى جيوم من عمله وعمد إلى إعداد مقدار مضاعف من البارود.

فقال فرنسوا:

- كأنك ذاهب إلى ساحة القتال.

فلم يجب جيوم بل قال:

- ثلاث قطع من الحديد فيها ضمان أقوى من قطعة من الرصاص.

- ولكن ذلك يشوه الجلد.

- إنما فيها الموت الزؤام.

- ومتى تذهب للعمل؟

- غداً تعلم.

- مرة أخرى. . . ألا توافق؟

- كلا.

- أنذرك بأني سأقتفي أثره.

- هذا لا يضرني.

- لنا سوياً؟. . . قل!

- كل لنفسه،

- إلى اللقاء يا جيوم.

- أتمنى لك أسعد الظروف.

فانصرف الجار وهو يرى جيوم يحشو غدارته بالبارود وقطع الحديد.

وفي المساء وهو مار بالمنزل رأى جيوم جالساً على أحد المقاعد بالقرب من الباب وهو يدخن غليونه بهدوء. فذهب إليه ثانية وقال:

- لست آسفاً ولا مكتئباً. لقد وجدت آثار ذلك الحيوان فلم أعد في حاجة إليك مطلقاً. ومع ذلك فقد جئت أعرض عليك أن يكون لنا سوياً.

فقال جيوم بلهجة المصمم:

- كل لنفسه.

لم يستطع فرانسوا أن يعلم ماذا فعل جيوم بعد ذلك في تلك الليلة. ولكن امرأة هذا رأته في الساعة العاشرة والنصف يحمل غدارته وقد طرى تحت إبطه كيساً رمادياً، ولكنها لم تجرؤ أن تسأله إلى أين يذهب لأنه كان من الرجال الذين لا يفضون إلى نسائهم بشيء.

وأما فرنسوا من جهته فقد عثر حقيقة على الأثر الذي انتهى به إلى حديقة جيوم، ولما لم يكن له حق في أن يكمن على إحدى أشجار الحديقة فقد أخذ مكانه في غابة تقع بين منتصف سفح الجبل وحديقته جيوم.

ولما كانت الليلة قمراء فقد رأى فرانسوا جيوم وهو يخرج من بابه الخلفي، ثم تقدم إحدى الصخور الرمادية التي تدحرجت من الجبل، وكانت تبعد عن شجرة الكمثرى عشرين خطوة، ثم وقف وأدار طرفه ليرى ما إذا كان هناك من يراه ثم تناول الكيس ووقف بدخله بحيث لم يدع من جسمه خارجاً إلا رأسه وذراعيه. وارتكز على الصخرة فأصبح من غير المستطاع تمييزه عنه نظراً لاتحاد لون الصخر والكيس وثبات جيوم في موضعه.

مر من الساعة ربعها في انتظار الدب، وأخيراً أعلن مجيئه زئير متتابع وبعد خمس دقائق رآه فرانسوا.

لم يأخذ ذلك الحيوان طريقه العادي الذي سلكه بالأمس إما لدهائه وإما لأنه أحس بالصياد الآخر. وبدلا من أن يأتي عن شمال جيوم ارتسم لنفسه طريقاً منحنياً وأتى عن يمينه بحيث لا يمكن أن يصل إليه سلاح فرانسوا، ولكن على بعد خطوات من غدارة جيوم الذي ظل ساكناً حتى ليظن أنه لم ير ذلك الحيوان وهو يمر قريباً منه كأنه يتحداه. ويظهر أن الدب يشعر بعدوه إذ أن الريح كانت متجهة منه إليه ولذا استمر في طريقه نحو الشجرة.

ولم يكد يرتكز على رجليه الخلفيتين وقد حوط بهما الأماميتين ودفع بصدره إلى الأمام استعداداً للقفز حتى دوى في الوادي صوت هائل وسرى في الفضاء بارق من نار أعقبه أنين جرح مميت.

انقلب الدب راجعا ماراً على بعد خطوات من جيوم دون أن يراه فقد أدخل ذراعيه ورأسه داخل الكيس فاستتر في الصخرة من جديد.

كان هذا المنظر على مرأى من الجار الذي ركع على ركبتيه ويده اليسرى، قايضاً باليمنى على غدارته وقد اصفر لونه وهو يكتم أنفاسه وتمنى في ذلك الوقت لو كان نائماً في سريره بعيداً عن هذا الموقف.

كانت مفاجأة سيئة لفرانسوا حين رأى الدب الجريح بعد أن دار دورة طويلة قد أخذ سبيله عن يمينه حتى أسلم نفسه لبارئه، وتحقق من غدارته ليتأكد أنها محشوة. كأن الدب على بعد خمسين خطرة يئن من الألم ويقف ليدور برأسه فيعض على موضع الجرح ثم يتابع السير حتى صار على بعد ثلاثين خطوة.

ولكنه وقف فجأة وتنسم الريح التي تأتي من جهة القرية وزأر زئيرا مرعبا ثم قفز داخل البستان.

- خذ حذرك يا جيوم! احترس!

تفوه بها فرانسوا وهو يتبع الدب وقد نسي كل شيء إلا صديقه لأنه اعتقد تماماً أنه لن ينجو من الدب إذا لم يكن قد استطاع أن يحشو غدارته من جديد؛ ولكنه لم يكد يخطو خطوة واحدة حتى سمع صرخة ولكنها كانت صرخة آدمية، صرخة رعب، بل صرخة النزع الأخير. ثم تلتها صرخة استجمع فيها صاحبها كل ما بقي فيه من قوة ومن رجاء في الله: (أدركوني!) لم يعقب ذلك أي صوت ولا تأوه.

لم ينكص فرانسوا على عقبيه؛ بل تقدم حتى اقترب من مصدر الصوت، فتبين له بوضوح ذلك الحيوان الهائل منكباً على جيوم يمزقه بمخالبه.

كان فرانسوا على بعد أربع خطوات منهما ولكن الدب كان ثائراً على عدوه لدرجه أنه لم يكترث لغيره. لم يجرؤ فرانسوا أن يطلق غدارته خوف أن تقتل جيوم إن كان لم يزل حياً. فالتقط حجرا وقذف به الدب.

فالتفت الدب نحو عدوه الجديد. لقد كانا متقاربين جداً، حتى أن الدب انحنى إلى الوراء استعداد للمهاجمة؛ ولكن بحركة آلية ضغط فرانسوا على الزناد فخرج الطلق الناري وانقلب الدب على ظهره لان الرصاصة قد اخترقت صدره وكسرت عموده الفقري.

تركه فرانسوا يتخبط في دمائه وأسرع إلى جيوم، فلم يجده بشرا ولا جثة؛ بل وجده عظاماً ولحماً ممزقاً قد التهم الدب رأسه بأكمله تقريباً.

رأى فرانسوا الانوار تتحرك وراء النوافذ فعلم أن كثيراً من فلاحي القرية قد استيقظوا فأخذ ينادي ويستغيث ويحدد المكان الذي هو فيه.

فخف إليه بعض الفلاحين بأسلحتهم وما لبثت القرية أن تجمعت بتمامها في حديقة جيوم، وكانت امرأته من بين الحاضرين

وقد كان المنظر رهيباً مرعباً إذ أخذ كل الحاضرين يبكون كالأطفال.

اكتتب أهالي المنطقة بأكملها لأرملة جيوم بملغ سبعمائة فرنك، وتنازل لها فرانسوا عن الجائزة وباع لحسابها جلد الدب ولحمه.

وأخيرا اقتنع الجميع بوجوب التعاون والتآزر!

ع. م