مجلة الرسالة/العدد 101/ لوكريسيا بورجيا

مجلة الرسالة/العدد 101/ لوكريسيا بورجيا

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 06 - 1935


3 - لوكريسيا بورجيا

صور من عصر الأحياء

للأستاذ محمد عبد الله عنان

وينكر بعض الباحثين المحدثين هذه الروايات المثيرة، ولا يرون فيها سوى حديث خرافة أو على الأقل أحاديث مغرقة لا تؤيدها أدلة مقنعة؛ ويستبعدون بالأخص أن تمثل لوكريسيا بورجيا في مثل هذه الحفلات العاصفة الشائنة إلى جانب أبيها وأخيها

ولكن الرأي الغالب يميل إلى الاتهام؛ ويرى في أقوال بوركارت ما يؤيد تهمة مخزية أخرى تنسب إلى لوكريسيا هي عشرة المحرم التي أشرنا إليها؛ والتي تزعم أنها كانت خليلة أبيها، خليلة اخوتها

وإليك واقعة خطيرة يستشهد بها الاتهام. في أول سبتمبر سنة 1501، أصدر البابا اسكندر السادس مرسومين مازالا يحفظان حتى اليوم في محفوظات مودينا؛ في أولهما يعلن البابا بأن أبنه شيزاري قد رزق غلاماً غير شرعي يدعى جوفاني في نحو الثالثة من عمره، وأنه يبرئه من عيب هذا المولد غير الشرعي، ويباركه ويعتبره أبناً شرعياً لولده شيزاري، يتمتع بكل حقوق الوراثة الشرعية، وينعم عليه بلقب دوق نيبي؛ وفي المرسوم الثاني يقرر البابا، أنه وإن كان يبرئ هذا الغلام ويرفعه إلى مرتبة الولد الشرعي، فإنه يقرر بأن عيب هذا المولد لا يرجع إلى ولده شيزاري بل يرجع إليه هو (أي البابا) وسيدة حرة (من قيود الزواج)، وإن كان ما يؤول إليه من الحقوق والمزايا طبقاً للمرسوم السابق يؤول إليه أيضاً بصفته ولد البابا وليس ولد ولده شيزاري؛ أو بعبارة أخرى يعترف البابا في هذا المرسوم بأن هذا الطفل هو ولده وثمرة غرامه

فمن هي أم هذا الطفل (الروماني)؟ ومن هي هذه السيدة الحرة، حظية البابا أو حظية ولده شيزاري أو حظيتهما معاً؟

يقول المؤرخ الكبير أميل جبهارت في الرد على ذلك: إن مولد هذا الغلام الروماني (جوفاني) الذي تولت لوكريسيا فيما بعد، حين غدت دوقة فيرارا تربيته، باعتباره أخيها، هو اشد ما في حياة اسكندر السادس وحياة شيزاري غموضاً وإيلاماً. والواقع أن لوكريسيا قد وضعت في سنة 1498 ولداً يتفق مولده بالضبط مع تفاصيل المرسومين البابويين، وتوجد مراسيم أخرى في محفوظات الفاتيكان تنسب هذا الولد إلى شيزاري. يقول جبهارت، فهذا الاعتراف المزدوج بالأبوة، وهذا التناقض، مما يسمح لنا بالإشارة إلى عناصر هذه المسألة المحزنة دون أن نحاول بسطها

وبعبارة أخرى يرى جبهارت أن هذا الغلام هو ولد اسكندر السادس من أبنته لوكريسيا، أو ولد شيزاري من أخته؛ وأن ما كان ينسبه جان سفورزا إلى زوجته عندئذ من أنها كانت خليلة أبيها، خليلة أخيها، إنما هو حق صراح

بيد أن العلامة فوك برنتانو يعترض على هذا الإيضاح بشدة، ويقول أن بوركارت الذي يعني في مذكراته بكل ما يتصل بالفضائح البابوية وبالأخص بفضائح لوكريسيا لا يشير إلى مولد هذا الغلام بشيء؛ وليس معقولاً أن تعنى لوكريسيا بتربية غلام غير شرعي ينسب إليها في بلاط زوجها دوق فيرارا، وهو أمير رفيع الجلال والكرامة؛ وكيف تفعل ذلك، وقد تركت ولدها الشرعي رودريجو لعناية جده؟ ويرى هذا العلامة أن مصدر الشنائع كلها هم سفراء البندقية لدى الفاتيكان، وقد كانت مهمتهم الحقيقية أن يشهروا بإسكندر السادس وأسرته وكل ما يتصل بها

ويرى بعض الرواة المعاصرين أن هذا الغلام إنما هو ولد البابا من خليلته جوليا فارنيسي؛ ويرى آخرون أنه ولد لوكريسيا من وصيف البابا المدعو بيروتو، وقد عاقبه البابا بأن زجه إلى ظلام السجن

وعلى أي حال، فإن في هذه الروايات والشواهد كلها، ما يسبغ أشد الريب على خلال لوكريسيا بورجيا؛ تلك الفتاة الطروب الفاتنة، التي كانت تخوض بلا انقطاع حياة فياضة بالفتنة والغواية، والتي كان جمالها الساحر يثير حولها ضراماً من الشهوات الخطرة؛ وما يسبغ اشد الريب على علائقها بأبيها الحبر الفاسق الذي يسحق تحت قدميه كل مبادئ الأخلاق والحشمة، وأخيها الطاغية الذي كانت الجريمة وسيلته الوحيدة إلى كل غاية

ننتقل الآن إلى صفحة جديد وفي حياة لوكريسيا بورجيا

لم يكد يزهق زوجها الثاني الفونسو دي بزيليا، حتى وضع مشروع جديد بزواجها. وكان المرشح هذه المرة الفونسو ديستي ولد دوق فيرارا وولي عهده؛ وكان الترشيح لنفس البواعث السياسية التي ما زالت تملي على اسكندر السادس وشيزاري تلك المشاريع الزوجية المتعاقبة. وقد تردد الدوق وولده في قبول هذه المصاهرة بادئ بدء لما يعلمانه من غدر البابا وولده، وما توصم به لوكريسيا من شنيع التهم؛ ولكن سفراء فيرارا قدموا عن لوكريسيا تقارير حسنة وصفت فيها بالحشمة والتواضع والتحفظ وبأنها ضحوك يغلب عليها المرح. وتمت الصفقة على أن يدفع البابا لابنته مهراً قدره أربعون ألف دوقة، وأن يتنازل لدوق فيرارا عن بعض الحصون والجهات، وأن يخفظ إتاوته للكنيسة إلى أدنى حد. وتم العقد في فيرارا في أول سبتمبر سنة 1501؛ وفي اليوم الخامس احتفل البابا بإشهار زواج ابنته في كنيسة القديس بطرس احتفالاً شائقاً

وفي أواخر ديسمبر قدم وفد حافل من أمراء فيرارا وأعيانها وعلى رأسه فرديناند ديستي أخو الزوج لينوب عنه في استقدام زوجه، وشهدت رومة مدى أيام سلسلة من الحفلات والمأدب الباذخ والليالي الساطعة المرحة؛ وفي السادس من يناير (سنة 1502) أجريت مراسيم الوداع؛ وغادرت لوكريسيا رومة في ركب فخم من الأمراء والفرسان إلى وطنها الجديد فيرارا فوصلت إليها في الثاني من فبراير بعد رحلة باهرة، واستقبلت بأعظم مظاهر الفخامة والتكريم

وكان مقامها الجديد في قصر قاتم موحش لا يتناسب مع مقامها الفخم في رومة، ولكنها اعتادت حياتها الجديدة بسرعة، وعاشت في هدوء وبساطة، ولم تفقد شيئاً من مرحها وبهجتها؛ وكان هذا المرح الفياض يسحر أهل فيرارا ويجذبهم إليها، وكان زوجها الفونسو ديستي فتى متين الخلق والخلال كثير الخطورة والجد، يؤثر الاهتمام بالشؤون الحربية، ولكن رقيق الشمائل وافر الثقافة، يعشق الفن ويحميه؛ وكانت لوكريسيا تعيش معه في وفاق، يحيط بها حب الأسرة الجديدة واحترامها

بيد أن هذه الحياة الهادئة كانت تكدرها عن بعد مشاريع شيزاري وأعماله؛ وكان شيزاري يومئذ يخترق أواسط إيطاليا بجيشه، ويمزق العدو والصديق معاً، ويحاول بتلك الوسائل الدموية الغادرة، التي أثارت إعجاب مكيافيللي وجعلته يعتبر شيزاري مثله الأعلى للأمير البارع - أن ينشئ مملكة رومانية كبرى؛ وكانت لوكريسيا تقاسي في عزلتها من التبعة المعنوية التي تلحقها من جراء هذه المشاريع والأعمال المثيرة

ثم نزل بها مصاب فادح، ذلك أن ولدها رودريجو الذي كان يربى في بابل في أسرة أبيه، توفي في الثالثة من عمره (أغسطس سنة 1502) فحزنت عليه أيما حزن، وأثر الحزن في هيكلها الدقيق، فلزمت فراشها مدى حين وجداً وأسى؛ ولكنها لقيت من عطف زوجها ووفائه في محنتها ما خفف لوعة وجدها وعاونها على استكمال صحتها

وهنا يحمل بعض المؤرخين على لوكريسيا، ويتهمونها بالقسوة والنذالة لأنها لم تعن بتربية ولدها بنفسها في حين أنها عنيت بتربية (الطفل الروماني) الذي أشرنا إلى قصته

وكانت لوكريسيا في تلك الفترة تعنى بالقراءة؛ ولم تلق في فيرارا شيئاً من تلك الحفلات المرحة التي كانت كل حياتها في الفاتيكان، بيد أنها كانت قد عافت هذه الدنيا الصاخبة، وارتاحت إلى حياة العزلة والسكينة

ولم يمض عام آخر حتى فقدت لوكريسيا أباها اسكندر السادس؛ وكانت وفاته في 18 أغسطس سنة 1503 في سن الثالثة والسبعين

ويصف لنا المؤرخ جيشاردينو وقع وفاته في روما فيما يأتي: (هرعت روما بأسرها، وقد غمرها فرح لا يوصف، إلى كنيسة القديس بطرس، تتأمل ذلك الميت؛ ذلك الشيطان الذي يضطرم طمعاً ويفيض غدراً؛ ذلك الذي سمعت قسوته الوحشية، وفجوره المروع، وجشعه، وجرأته المثيرة في إدارة الشؤون المدنية والدينية، جو العالم كله)

ووقع النبأ كالصاعقة على لوكريسيا. ذلك أنها كانت تحب أباها رغم رذائله وآثامه، حباً جما؛ وكانت تشعر بأن هذا الحنان الفياض الذي كان يغدقه عليها دائماً، هو ملاذ حياتها وعزها، فغمرها الحزن مدى حين. ولكن زوجها وأسرته استقبلا النبأ بارتياح؛ ولم تر لوكريسيا أباها مذ غادرت رومة عقب زواجها، لأن زوجها كان يأبى دائماً أن تزور رومة أو يزورها أبوها في فيرارا

وقد كانت وفاة اسكندر السادس خاتمة ذلك السلطان إلى تبوأ آل بورجيا في إيطاليا مدة ثلاثة عشر عاماً، وكان نكبة حقه لولده شيزاري. ذلك أن مشاريعه انهارت في الغداة كانهيار قصر أسس على الرمال أن فقد ذلك العضد القوي الذي كان مصدر كل قوته وبطشه؛ فالتجأ إلى جونزالفو دي كردوفا قائد الجيوش الإسبانية في نابل، ولكنه اعتقله وسلمه إلى ملك إسبانيا فردياند الكاثوليكي؛ فزجه إلى السجن معتزماً أن يحاكمه على جرائمه التي أصابت كثيراً من أفراد أسرته؛ ولكن شيزاري استطاع أن يفر من سجنه بعد خطوب جمة، وان يلتجئ إلى حمية ملك نافار؛ وهناك جرح في إحدى المعارك، وتوفي في سنة 1507؛ واختتمت بذلك حياته المدهشة التي اتخذها الفيلسوف ماكيافيللي مادة لشرح كثير من آرائه من خلال (الأمير) الأمثل

في يناير سنة 1505 توفي هرقل ديستي دوق فيرارا، فخلفه ابنه الفونسو في الحكم، وغدت لوكريسيا بورجيا دوقة فيرارا

وكانت فيرارا تجمع في ذلك العهد طائفة من أكابر الكتاب والشعراء والفنانين بظلهم الدوق برعايته، أسوة بباقي القصور والعواصم الإيطالية الزاهرة؛ وكان ذلك السحر الذي تنفثه لوكريسيا أينما حلت يجذب إليها هذه الصفوة، فتجتمع حولها في ذلك البلاط الزاهر؛ وتشملهم الدوقة المستنيرة النابهة بعطفها وحمايتها

وكان من هؤلاء الشاعر الشيخ شتروتسي وولده هرقل شتروتسي وهو شاعر أيضاً، وأنتونيو تبالديو، وكالكانيني؛ ونيكوليو كوريجيو وهو من اعظم شعراء العصر؛ وجاكوبو كافيشيو أسقف فيرارا، وهو كاتب قاص؛ ثم الشاعرين الفتيين لاريوستي وبيتروبمبو

وكانت هذه الصفوة المفكرة تتغنى بسحر الدوقة الحسناء وتشيد بخلالها ومواهبها في نثرها وشعرها؛ وتهدي إليها كتبها وقصائدها. ومما يذكر أن شتروتسي الشيخ وصفها في بعض قصائده بأنها (مجمع عجائب الأرض والسماء كلها، وليس يوجد لها نظير في العالم كله)

وكانت لوكريسيا تبادلهم القريض أحياناً، وتنظم باللاتينية قصائد ساحرة، فتذكى بذلك إعجابهم وهممهم

بيد أن هذا الجو الأدبي الزاهر كانت تكدره سحب الريب والظنون، وكان اشد أولئك الشعراء تأثراً بسحر لوكريسيا بيتروبمبو؛ وكان بمبو من سادة البندقية، فتى جميلاً، بديع الخلال والمواهب، بارعاً في التاريخ والشعر، وكان من شعراء بلاط فيرارا، ومن أخصاء الدوق، يضطرم نحو الدوقة الحسناء إعجاباً وحباً؛ وكان يوجه إليها كثيراً من الرسائل والقصائد في مختلف المناسبات؛ ومن ذلك تلك القصيدة التي نظمها باللاتينية للإشادة بمعبودته

إلى لوكريسيا بورجيا

(أيتها الحسناء، أنت أجمل من أوربا، أنت ابنة ملك آجنور، ولست مثل هيلانة الإسبارطية التي اختطفها باريس التروادي، تسمحين لجمالك أن يطغى على عبقريتك. وإذا قلت الشعر بالإيطالية فأنت ابنة الأرض الإيطالية. وإذا تناولت القلم لتكتبي القريض بنفسك، فإنه لقريض يجدر بوحي الشاعر؛ وإذا راق لك أن تهزي أوتار القيثارة، فإن أمواج نهر بو ترتجف في مجراها سحراً من غنائك، وإذا راق لك أن تستسلمي إلى الرقص بقدمك الطائر، فآه! إني لأخشى أن تلفتي نظر إله ما، فيأتي لاختطافك من قصرك، ويحملك إلى السماء، ويجعل منك أيتها الحسناء الرائعة، إلهة كوكب جديد)

كان بمبو يشعر نحو لوكريسيا بأكثر من الإعجاب والحب، كان يشعر نحوها بهيام مبرح؛ وكان هذا الهيام يبدو في قصائده ورسائله مع شيء من التحفظ تمليه عليه الظروف واتقاء الريب. ذلك أن الفونسو ديستي كان أميراً صارماً عنيف الأهواء، وكان يحب زوجه، وإن لم تكن كل شيء في حياته الغرامية؛ وكان يحيط الدوقة بسياج منيع من غيرته وصرامته، ويرد العواطف المتوثبة إلى سحرها وجمالها في مهادها

بيد أن الروايات المعاصرة تقول إن لوكريسيا كانت تقابل حب بمبو بمثله، وأن علائقهما الغرامية اتصلت مدى حين أثناء إقامة الشاعر في فيرارا حتى سنة 1506؛ وقد كان طبيعياً أن يتفتح قلب لوكريسيا في مثل هذه الظروف؛ فقد كان الفونسو ديستي مشغولاً عن حب زوجه بمشاريعه السياسية والعسكرية، وكانت لوكريسيا تتأثر بجمال الشاعر ورقة شمائله وفيض هيامه؛ وكانت تبادله الرسائل؛ وما زالت رسالة منها تحفظ في مكتبة امبرواز بميلان ومعها خصلة من شعرها، ذلك الشعر الذهبي الأشقر الذي كان يبث من حولها النور والسحر. وقد كانت نفحة الوداع. ذلك أن بمبو رأى أن يغادر فيرارا فجأة (سنة 1506) بعد أن أقام بها ثلاثة أعوام؛ وقد كان ذهابه نوعاً من الفرار، ولعله كان اتقاء لريب الدوق وبطشه، وربما رأى المحبان أن الفراق خير وسيلة للسلامة من عواقب غرام خطر

ولقد لبث بمبو يكاتب معبودة قلبه من أوربينو مقامه الجديد حتى وفاته في سنة 1519. وهناك من يرى أن علائق لوكريسيا بالشاعر لم تتعد الصداقة الحميمة، وأن هيامه بها لم يكن سوى نوع من عبادة الجمال والحب الفلسفي

ولا ريب أن بمبو كان فتى حريصاً فطناً حين خشي نقمة الدوق. ذلك أن زميله الشاعر الفتى شتروتسي وجد ذات يوم قتيلاً مخضباً بدمائه (يونيه سنة 1508). وطارت الإشاعة في الحال بأنه ذهب ضحية لغيرة الدوق وبطشه، ذلك أنه كان يهيم بالدوقة، ويشيد بجمالها في شعره دون تحفظ. ولكن رواية أخرى تقول إن لوكريسيا لم يكن لها في تلك المأساة شأن، وأن الدوق كان يهوي فتاة حسناء هي بربارة توريللي، وقد تزوجت من شتروتسي، فقرر الدوق موته لكي يزيله من طريق هواه

وعلى أي حال فإن الرواية تقرن اسم لوكريسيا بكثير من مآسي الحب الخفية التي وقعت يومئذ ببلاط فيرارا.

للبحث بقية

محمد عبد الله عنان المحامي