مجلة الرسالة/العدد 1011/بمناسبة الذكرى الثالثة

مجلة الرسالة/العدد 1011/بمناسبة الذكرى الثالثة

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 11 - 1952



علي طه وبيرون

للأستاذ أنور المعداوي

هكذا كان ينظر إلى حياته فيما قبل الثلاثين. لقد كانت تلك الحياة في رأيه أو رأى شعوره هذرا وتفاهات، لأنها قد خلت مما يبهج القلب ويؤنس الروح وغدت وهي دموع وزفرات؛ وجوهر شخصيته كما قلنا لك أنه لم يخلق للقيود وإنما خلق للحرية، ولم يخلق للدموع وإنما خلق للبسمات. . . وما كان أشبهه بالشاعر الإنجليزي (بيرون) في هذه الناحية النفسية أو في هذا المجال؛ لقد كانت الفكرة السائدة عند بعض كتاب التراجم عن هذا الشاعر هي هذه الفكرة المنحرفة حين يقولون: (لقد كانت طبيعة بيرون الحق أنه إذا حزن وتألم فاض بالشعر قلمه في سهولة وقوة وعذوبة، وأنه إذا سعد وهدأت ثورته هدأ الوحي بهدوء نفسه وبضعف ثورته، وأنه قد ظل على هذا الحال طوال حياته فسجلت أيام الشقاء أروع قصائد وأجدرها بالخلود!)

ولقد صححنا تلك الفكرة المنحرفة في الصفحة الثالثة والأربعين من كتابنا (نماذج فنية) حيث ورد في معرض السؤال هذا الجواب: (هذه الفكرة تنطبق كل الانطباق على طبيعة شاعر مثل هنري هايني وتبعد كل البعد عن طبيعة شاعر مثل لورد بيرون. إن الألم في حياة الشاعر الإنجليزي لم يكن ألما بالمعنى المفهوم عند الشاعر الألماني، ولكنه كان لونا من السخط على الحياة يزول وينقضي حين تفسح الحياة طريقها للفتى المدلل ليمضي إلى غيه وهواه! وما أكثر ما تنحت الحياة عن طريقه وهيأت له كل ما يصبو إليه من تحرر وانطلاق، وفي رحاب هذا التحرر كانت تنبعث أغانيه حلوه عميقة صادقة. لقد خلق بيرون وفي دمه طبيعة بلبل لا يجيد التغريد إلا إذ رأى النور خلف حجب الضباب سمعت منه بعض الغناء، ولكنه الغناء المختنق ينبعث من أوتار حنجرة ساخطة، ثائرة، تشكو هذا الظلام الذي لا يتيح لها أن تصدح كما تشاء!

من هذه الكلمات الموجزة تستطيع أن تضع يديك على مفتاح هذه الشخصية التي لا غموض فيها ولا تعقيد، يقول بيرون: لقد هببت من نومي ذات صباح فألفيتني مشهورا يتردد اسمي على كل لسان. قالها بعد أن دفع بديوان شعره الأول إلى الناشرين فدفعوا به إلى السماء، وكان ديوانه هذا الذي حقق له أسباب الشهرة والمجد والخلود هو (تشايلد هارود) وإنه في رأي الفن لخير أعماله الأدبية على الإطلاق! لقد جادت قريحته بهذا الشعر في لحظات الصفاء، هناك حيث قضى بيرون في ربوع الشرق اجمل أيامه واسعد لياليه: كأس خمر معتقة، وقلب غادة خفاق، وذهب يسيل بين يديه، وزورق يمخر به العباب إلى أثينا وأزميل ومالطة واستنبول، وهذه هي الحياة. . الحياة التي كانت تفجر الشعر في أعماقه تفجيرا، وتهدي إلى عشاق الأدب والفن أروع ألحانه وأعذب أغانيه، هناك في (تشايلد هارود) إن الطبائع الفنية معادن: بعضها يتوهج في ظلال الترف والنعيم، وبعضها يتأجج في رحابالفاقة والحرمان، وبعضها يخبو بريقه أو يسطع إذا ما انتقل من حال إلى حال!)

في هذه الناحية النفسية تتفق طبيعة شاعرنا المصري وطبيعة الشاعر الإنجليزي على التحقيق. . كلاهما سخط على الألم كل السخط، وعشق اللذة كل العشق، ووزن أيام الحياة بما فيها من متعة الحس والنفس حيث تقوم الحياة في رأيه بكل عيد من أعياد الشعور. . . تتفق الطبيعتان هنا ويلتقي المزاجان، لكن خط السير نحو الغاية المنشودة ويختلف عند علي طه عنه عند بيرون،، تبعا لاختلاف البيئة والنشأة وأثر الوراثة في تكوين الشخصية الإنسانية! لقد كانت المرأة مثلا تشغل حيزا كبيرا من حياة الشاعرين وفنهما على حد سواء. ولقد طاف كلاهما بالجسد الأنثوي ذلك الطواف الذي يطالعك من شعره في صورته القوية العارمة، حتى ليخيل إليك أن مفاتن هذا الجسد كانت هي الكوى الشعورية التي نفذ منها إلى تذوق الحياة. . . كان شعورهما نحو المرأة هو هذا الشعور، ولكن شتان في الإعجاب بها بين نظرة ونظرة وفي الوصول إلى حقيقتها بين طريق وطريق!

لقد أنحدر بيرون من صلب آسرة ورث فيها الشذوذ في النفس والخلق أبناء عن اباء، حتى لقد خرج إلى الدنيا وفي دمه مزيج من شرور الوراثة وانحراف النشأة. . . كان جل همه أن ينشد متعة النفس ولذة الجسد ونزوة العاطفة، ثم لا يعنيه من دنياه غير اللحظة التي تعيش فيها وتعود عليه بكل ما يشتهيه الفتى الجميل المدلل لا يمد عينيه أبدا إلى الأمام؛ الفتى الذي لا يتحرج عند جموح الشباب وسطوة الغريزة من أن يحطم في سبيل شهواته كل ما تعارف عليه المجتمع من حدود وقيود! كان إذا ما تردى في هوة الآثم والفسق والفجور سعدت نزواته وسعد عشاقهذا الفن ومريدوه. . أنها لحظات الصفاء بالنسبة إلى رجل يرى السعادة في إشباع رغبات الجسد، ولو تركزت هذه الرغبات الشريرة الجامحة في شخص (أوجستا) أخته من أبيه! ومن هذه النزوة المحرمة في شرع العرف والسماء يتدفق إبداع بيرون (عروس ابيدوس) وهي القصة الشعرية التي تصور طبيعة الهوى الآثم بين (زليخا) وأخيها (سليم) أو حقيقة الهوى الآثم بين (أوجستا) و (بيرون) كما نقلتها إلينا أصدق الأخبار والروايات. . صحيح أنه سجل ألمه المنبعث من وخز الضمير على ما اقترف من آثم في بعض شعره، ولكن الحقيقة التي بقيت لنا من شعره وحياته تؤكد لدراسته أنه لم يكن يفرغ من آلامه العابرة حتى يعود إلى لذاته الدائمة، فيسهب ويبدع هنا ويوجز ويفتر هناك؛ يسهب حيث تطول اللذة ويوجز حيث يقصر الألم، وما الفن إلا انعكاس صادق من الحياة على الشعور!

ولم يكن علي طه في علاقته بالمرأة أو في نظرته إلى الجسد الأنثوي من هذا الطراز. لقد كان طراز أتخر بلا مراء، أو صورة أخرى ستعرف على التحقيق ألوانها النفسية فيما يلي هذا الفصل من دراسة تحليلية. . . إن هذا المثال المستخلص من حياة الشاعر الإنجليزي، قد قصد به الإشارة إلى اختلاف خط السير عند الشاعرين تبعا لاختلاف لبيئة والنشأة كما قلت، أو تبعالاختلاف اثر الوراثة في تكوين الشخصية الإنسانية. وتبقى بعد ذلك نقطة الالتقاء بين علي طه وبيرون في زاوية واحدة تحددها المشابهة بين طبيعتين؛ تلك المشابهة التي تضع بين أيدينا المفتاح الحقيقي لجوهر الشخصيتين في لقاء الحياة، وهو أن كليهما لم يخلقللألم وإنما خلق اللذة، ولم يخلق للدمعة وإنما خلق للابتسامة، ولم يخلق للقيد وإنما خلق للتحليق شأن كل طائر طليق!

ولقد عاش علي طه فترة من حياته في ذلك الجو الرومانسي الذي تلوذ فيه النفس بالوحدة وتأوي إلى العزلة وتستشعر قسوة الاغتراب، تلك الفترة التي عاشها شاعرنا كانت في حساب الزمن نصف ما قدر له من أيام الحياة. . ولقد مرت على بيرون من ذلك الجو الرومانسي لحظات؛ لحظات وإن كانت عابرة إلا أنها عكست على بعض فنه خصائص ذلك الجو كما تبرزها في الأعم الأغلب أشعار الرومانسيين. قد عرف علي طه في حياته تلك الرومانسية الوجودية التي استحالت في شعره الأول إلى رومانسية فنية وكذلك عرفها بيرون، ولكنها على اتفاقها في هذه الظاهرة يختلفان في التعرض لها والتأثر بعض الاختلاف، سواء كان ذلك في مجال الشعور أو معرض التعبير. . وهنا كما كان هناك، يلتقي الشاعران في الغاية ولكنهما يفترقان في خط السير نحو هذه الغاية حيث يمضي كل منهما في طريق!

ارجع في باب (الدراسة الفنية) لشعر علي طه أي قصيدة (الله والشاعر)، لترى أننا قد سجلنا حول تلك القصيدة هذه الكمان. . (هذه الواقعية النفسية الوجودية التي تسير فيها لفتة الفكر جنبا إلى جنب مع خفقة القلب، هي التي تطالعنا من قصيدة (الله والشاعر). . وهي واقعية تمثل القسط المشترك من الحقائق الكبرى المتبادلة تبادل كوني بين الله والإنسان، وهي حقائق أشبه بالرواسب الفكرية والنفسية المتخلفة في قرار الذهن البشري وبأقدم العصور؛ منذ أن بدأ الركب الإنساني يفكر في واقع هذا السير الطويل في طريق الحياة، ويناقش علة وجوده وغاية بقائه وما بعد فنائه، هناك حيث ينتظره الجزاء الحق أو غير الحق ممثلا في عالمي الثواب والعقاب. . ونقول الجزاء الحق أو غير الحق، ما دامت هناك صيحتان تؤمن إحداهما بأن الإنسان لا يملك أمام القوة العليا شيئا من أمر نفسه ولا من أمر دنياه، وإنما هو يدفع فيندفع ويوجه فيتجه ويسير فيسير، وأنه تبعا لهذه القدرة المسلوبة والحرية المفقودة لا ينبغي أن يجزي على سيئاته إذا أساء، فإن جزى عليها فهو جزاء غير عادل! أيمان بهذا كله تفصح عنه هذه الصيحة التي تقابلها صيحة أخرى عمادها أيمان أخر، هو أن الإنسان يملك أمام القوة العليا كثيرا من أمر نفسه ومن آمر دنياه، فهو قابض على الزمام لا يفلته إلا برغبته، مبصر للطريق لا ينحرف عنه إلا بإرادته، عليم بالحقائق لا يحيد عنها إلا بمحض هواه؛ فهو مخير تركت له الحرية فإذا أساء فهمها فعليه أن يتقبل ما أعد له من جزاء، وإنه لجزاء يتسم بالحق ويتصف بالحق ويقترن بالأنصاف!

وإذا أنت بحثت عن مكان علي طه بين أصحاب الصيحتين الخالدتين فإن مكانه هناك مع الفريق الأول. . هو معهم في اتفاق النظرة واتجاه الفكرة ولكنه يفترق عنهم في احتفاظه بإيمانه الذي لا يودي به كل تلك العواصف والأعاصير. إنه يتناول هذه القضية الوجودية الكبرى من زاويتين الأولى ليدافع عن الكيان الإنساني أمام سطوة القدر وحكمة القضاء، مستخدما في دفاعه منطق الشاعر الفيلسوف الذي يعرض المقدمات عرضا شعريا ترتضيه النفس يخرج منها بنتائج فلسفية يرتضيها الفكر. الثانية ليعبر عن حريته البالغة وحيرة القافلة الإنسانية وهي تتخبط في صحراء الوجود تلتمس الظل الظليل في رحاب الواحة الإلهية، فرارا من وطأة القيظ ولفح الهجير! وهو بعد ذلك متأرجح بين البث والشكاءة، وبين الأنين والحنين وبين العذاب المهذب والخضوع العميق. . وهو أخر الأمر معذب لا يدري أين يستقر ولا إلى أي وجه تمضي به قدماه. . خطوة يأس تقذف به إلى الخلف وخطوة أمل تدفع به إلى الأمام، ولكنه في غمرة تلك التيارات النفسية المتباينة ضارع مبتهل لا يشك أبدا في رحمة الله)!

هذه الأفكار والمشاعر التي طاف حولها عقل شاعرنا وعقله هي في حقيقتها أثر من آثار ذلك الجو الرومانسي الذي عاش فيه؛ وهي نتيجة مباشرة لظروف الوحدة النفسية والعزلة الروحية والانفراد الذاتي كما بعهدها في حياة الرومانسيين، هنا حيث يدفع الإنسان دفعا إلى إطالة التأمل فيما حوله من حقائق الكون وغاية الوجود ومصير الركب الإنساني بعد انتهاء الحياة؛ ومثل هذا التأمل لا بد آن يفضي بصاحبه آخر الآمر إلى التعرض لموقفه وموقف الإنسانية جمعاء إزاء الخالق العظيم، هكذا فعل علي طه في قصيدة (الله والشاعر) وهكذا فعل بيرون في مسرحية قابيل. . إن شخصية قابل في تلك المسرحية الشعرية ما هي إلا إحدى شخصيات بيرون التي كان يصور معالمها بصدق وأصالة ليعبر بها عن حالة خاصة من حالات نفسه وهي معرضة لهزات الوجود! اتفاق والتقاء، ولكن خط السير هنا مختلف كما قلت بعض الاختلاف عن خط السير هناك، لأن هذه الشخصية (البيرونية) في مسرحية (قابيل) ثائرة على الخالق ساخطة على القدر متمردة على السماء، تريد أن تبري الإنسان من كل شر وفساد عرفتهما الأرض، ومحاولة إن ترد كليهما إلى تلك القوة العليا التي تسيطر على الكون وتوجهه إلى مصير معلوم تحاول هذا ثم تدفعها الثورة العاصفة والعصيان الجامح إلى حد التخيل بأنها (إبليس جديد)، جاء لينتقم للإنسانية المظلومة من خالقها الذي لا تلقى منه غير الظلم والعذاب وهي بعد ذلك تنتظر على يديه ألوان من الحساب والعقاب!

ثورة عند بيرون ينقصها التهذيب ويعوزها التبصر وتتشح بثوب التجديف، وحيرة عند علي طه لتبلغ هذا المدى من التهور والتنكر والاندفاع، لأنها حيرة لا تنتهي بصاحبها إلى التمرد ورفع راية العصيان، وإنما تنتهي به إلى راحة نفسية مصدرها الخضوع والإذعان!

ولقد قلنا في سياق الحديث عن قصيدة (الله والشاعر) إن تلك القصيدة تمثل الواقعية النفسية خير تمثيل، فكيف يتفق هذا مع القول بأنها من نتاج ذلك الجو الرومانسي الذي قضى فيه علي طه أول العهد بالشباب؟ كيف تجتمع (واقعية) و (رومانسية) في أثر واحد من أثار الفن دون آن يكون هناك شئ من التعارض والتناقض والشذوذ، مصدره أن موازين النقد في أدب الغرب قد وضعت حدود فنية (فاصلة) بين هذين اللونين من ألوان الأدب؟ سؤال مقصود لأن الجواب عنه كذلك مقصود، ومن وراء السؤال والجواب نهدف إلى الكشف عن حقيقة المشكلة كما ينطق بها الواقع الملموس!

هل قرأت (آلام فرتر) لجيته، و (رفائيل) للامرتين، و (رينيه) لشاتو بريان، و (ادولف) لكونستان؟ هذه القصص الأربعة يضعها النقاد في (خانة) القصة الرومانسية وهم يقسمون ألوان الأدب ومذاهبه تبعاً لما يتسم به هذا الأدب من خصائص ومميزات، يردونها عادة إلى شتى العوامل النفسية التي طبع بها العصر وتركت آثارها في كتابه، بعد اتفاقهم على أن الأدب نتاج مجتمعة وثمرة بيئة المرأة جيله التي تعكس على صفحتها معالم ذلك الجيل. وتبعا لهذا التقسيم الفني الذي انتهى إليه النقد عرف الناس إن هناك أدبا رومانسياً أخر واقعياً في عرف التسمية المذهبية، وإن لم يستطع النقد (واقع الأمر) أن يفصل فصلاً تاماً بين خصائص كل لون من ألوان الأدب وهو في خانته الفنية. . . لم يستطع النقد أن يوفق إلى تلك التفرقة الكاملة لأنه نسى إن بيئة الأدب في عصر من العصور لا يمكن أن تكون (خالصة) لطابع نفسي بعينه، يلقى ظله الخاص على وجه ذلك الأدب دون إن يفسح مكاناً لظل سواه! لو فطنت موازين النقد إلى تلك الحقيقة لما وجدت أبدا من التعديل في وضع الحدود الأخيرة للمصطلحات الفنية وتقدير خط السير لاتجاهات الأدب تقديراً نهائياً لا رجعة فيه! إنك قد تقرأ قصة تمثل اتجاه رومانسياً في عرف النقاد وهي لا تخلوا في بعض مواقفها من اتجاه واقعي هنا أو هناك، ثم لا تجد في هذا شئ من الغرابة إذا ما وضعت نصب عينيك هذه الحقيقة المادية، وهي أن عصر من العصور ينتج فناً من فنون الأدب لا يمكن أن يتسم بسمة شعورية واحدة تترك آثارها التعبيرية الواحدة التي تندرج في جملتها تحت عنوان! هل نريد بذلك أن نلغي تلك المصطلحات الفنية التي اتفق عليها النقاد الأدب محددين بها اتجاهاته ومراميه كلا. . وإنما نريد أن نصحح وضعا هو على التحقيق يحتاج إلى تصحيح، عندما نقرر مطمئنين أن تلك التحديات المذهبية يعوزها شئ من التعديل، عماده أننا إذا قلنا عن طابع عصر من العصور أنه رومانسي فيجب أن يفهم أننا نعنى الطابع الغالب لا الطابع العام، ونقصد المظهر البارز لا المظهر الشامل، ونشير إلى السمات الرئيسية لا السمات الكلية؛ وفي ضوء هذا التحديد يجب آن ينظر إلى ما كتبناه عن (طابع العصر) الذي قضى فيه علي طه أول العهد بالشباب!

ونعود مرة أخرى إلى تلك القصص الرومانسية الأربع في ضوء هذا التحديد؛ نعود إليها لنقرر أيضا في خانة الواقعية دون أن يكون شئ من التناقض والشذوذ. . هي (رومانسية) إذا نسبت إلى الجو النفسي القاتم الذي كتبت فيه أو إلى الخصائص الفنية التي اصطلح عليها النقد وهي (واقعية) إذا نسبت إلى واقع الحياة التي كان يحياها أصحابها في ذلك الحين؛ الحياة الذاتية التي تسجل حقيقتهم الإنسانية والتي قد تنطبق على غيرهم من الناس. أليس هذا هو واقعهم النفسي في فترة من فترات العمر سجلتها في تلك القصص سطور وكلمات؟ هو كذلك بلا جدال، وإنه لواقع عصر في صورته الغالبة لا في صورته العامة تبعا لما سبق من تحديد. . وفي هذا كله ما يفسر لك انتفاء التناقض في الجمع بين كلمتين: هما الواقعية النفسية والرومانسية الوجودية!

وفي معرض المقارنة بين شاعرنا المصري والشاعر الإنجليزي نقدم هذا السؤال: هل تأثر علي طه في شعره في ذلك الاتجاه الرومانسي الذي نلمحه عند بعض الشعراء الغربيين ومن بينهم بيرون؟ سؤال مقصود أيضا لأن الجواب المنتظر عنه مقصود؛ حين نفتح الصفحة الرابعة والستين بعد المائة والصفحة التي تليها من الجزء الثالث من (حديث الأربعاء) للدكتور طه حسين فنجد هذه الكلمات: (ومن الكتاب من يقول أن شاعرنا تأثر بأبي العلاء ثم يضيق بهذا التأثر. ولست أدري أثأر شاعرنا بأبي العلاء حقا أم تأثر ببيرون أم تأثر بهما جميعا وبقوم آخرين غيرهما أم لم يتأثر بأحد، وإنما لقى من لقى من الشعراء مصادفة وعلى غير قصد ولا عمد. وأحس أنا في قصيدة أخرى اسماها (غرفة الشاعر) روحا (لموسييه)، ولكني لا أدري أهو روح الذي قرأ فتأثر أم هو روح الذي أحس فتألم، فشكا فلقي موسييه في هذا كله أو في بعضه. ولست أتردد في الرضى عن هذه القصيدة والحب لها والإعجاب بها، ولست أكره أن تشاركني في هذا الرضى وأن تشاطرني هذا الحب والإعجاب، فاقرأ معي هذه القصيدة وقف معي عند بعض أبياتها وقفات قصارا. . . هذه الصور المتتابعة المختلفة حسان كلها، ولكنها بعيدة إلى حد ما عن المألوف من حياة شعرائنا الشرقيين إلا أن يكونوا مترفين قد ألفوا حياة الغرب وكلفوا بالسهاد في غرفة يطرب فيها نور ضئيل شاحب، وتفنى فيها بقايا الجذوة في الموقد، وكل هذا يألفه الغربيون، وهو يذكر بموسييهتذكير قويا. وبعض الناس يعيب شاعرنا (بتغريب) الشعر، أما أنا فأحمد له هذا النوع وأراه تشريف للشعر العربي ورياضة للذوق الشرقي وللغة العربية على أن يسيغاه ما لم يتعودا أن يسيغاه من قبل. وإذا كان لي أن آخذ الشاعر بشيء فهو ما قدمته من أن الأمر يختلط في شعره على القارئ فلا يدري ألقي زملاءه الغربيين والشرقيين مصادفة أم عن تعمد وسعي)!

إن السؤال مقصود هنا لأن اسم الشاعر الإنجليزي بيرون قد ورد في سياق الحديث الذي دار به الدكتور حول قصيدة (الله والشاعر) أما آثار بيرون الفنية التي لا (يدري) الدكتور هل لقيه فيها شاعرنا المصري مصادفة أم عن تعمد وسعي! أما تلك الآثار فلم يشر إليها بكلمة واحدة تفصح عن حقيقتها حين يطلب إلى الدارسين مثل هذا الإفصاح. . ولا ندري نحن هل كان يقصد مسرحية (قابيل) التي ذكرناها عند المقارنة بين الشاعرين أم كان يطلق القول إطلاقا بغير تحديد! إن غاية ما يقال هنا أننا قد تعرضنا لقصيدة علي طه ومسرحية بيرون، وانتهينا إلى أنهما متفقتان في الهدف ولكنهما تفترقان في خط السير حتى ليذهب كل من الشاعرين في طريق. وما أبعد الشقة في بينهما حساب النقد الذي يلمس الفارق بين فكرتين قد اختلفت حولهما القيم الشعورية والتعبيرية!

لقد أدار الدكتور المفتاح مرة أخرى في ثقب الباب ولم يفتح؛ أما ذلك المفتاح فلم يكن غير تلك العبارة التي ساقها وهو يفترض وجود شيء من التجاوب الفني بين علي طه وموسيه. . ترى أهو روح الذي قرأ فتأثر، أم هو روح الذي أحس فتألم، فشكا، فلقي موسيه في هذا كله أو في بعضه؟ أن الدكتور هنا أيضا لا (يدري) ولا يستطيع أن يقطع برأي لأنه لا يملك الدليل. . والدليل الذي يعوز الدارسين كما قلنا ونحن نتحدث عن هذه القصيدة في باب الدراسة المذهبية مرجعة إلى عدم الإحاطة بظروف الحياة التي تنتج الفن، وتضع بين أيديهم أداة الربط بين شخصية الكاتب وما كتب أو بين شخصية الشاعر وما نظم وتحول بينهم وبين السؤال الذي يبقى بلا جواب! لو رجع الدكتور إلى حياة شاعرنا فيما قبل الثلاثين كما استعرضناها في الفصلين السابقين، لأدراك أن الشعور بالحزن في (غرفة الشاعر) أو الشعور بالحيرة في (الله والشاعر) كان طبيعيا لا أثر فيه للتقليد والمحاكاة، وأن ذلك الروح الذي أحسه في هاتين القصيدتين كان روح الشاعر الذي تحير في صدق فالتقى في حيرته عن غير قصد مع بيرون، وتألم في صدق فالتقى في آلمه عن غير عمد مع موسييه

. . إن التشابه بين إنتاج الرومانسيين أمر لا غرابة فيه ولا موضوع للدهشة وافتراض الفروض، لأن الأجواء النفسية التي حلقوا فيها بالمشاعر وجالوا بالخواطر كانت متشابهة أو كان التوافق بينها جد قريب؛ ومن هنا لا يجوز لنا أن نسأل عن تلك العلاقات التأثرية بين أصحاب الآثار الرومانسية، ألا إذا استطعنا إن نثبت وجود شيء من تلك العلاقات بين جيته في (آلام فرتر) ولامرتين في (رفائيل)، وكونستان في (ادولف) , وشاتوبريان في (رينيه)!

ولقد قلنا أن مشكلة التفكير الإنساني في المصير وما يتعلق بها من بحث حول (شرعية) الثواب والعقاب مشكلة قديمة، ومما لا شك فيه أنها قد سبقت بقدمها أفكار هؤلاء الذين تعرض لهم الدكتور في حديثه وخص منهم بالذكر شاعرين هما بيرون وأبو العلاء. . . وإذن فلا مبرر للتساؤل عنا إذ كان علي طه قد تأثر بهذين الشاعرين في قصيدة (الله والشاعر) لأن الأمر واضح من إن يحتاج إلى سؤال!

إن المشكلة قديمة وجديدة في وقت واحد لأنها مشكلة الأمس واليوم والغد القريب والبعيد، مادامت هناك فترات قلق تمر بحياة الإنسانية المفكرة الشاعرة وتدفعها إلى إطالة التفكير فيما وراء الحياة. . هل نحن مسيرون؟ هل نحن مخيرون؟ هل نحن أصحاب إرادة فيما نقدم عليه من عمل أم إننا مجرد أدوات بين يدي قوة خفية توجهها كيف تشاء؟ أسئلة تعرضت لها الأجيال الماضية وتتعرض لها الأجيال الحاضرة وسوف تتعرض لها الأجيال المقبلة ما بقى هناك فكر يبحث في المصير وما يرتبط به من جزاء! وإذن فلا عجب إذا ما التقت أفكار الشعراء الثلاثة حول هذا المعنى الكبير في بعض ما خلفوا من أثار أدبية؛ آثار تتفق في جوهر المشكلة ولكنها تفترق في صب التجربة الشعورية في القالب ألفني تبعا لاختلاف المعدن النفسي وما يقترن به من تفاوت في معدن التعبير. . . إنه اتفاق في جوهر المشكلة كما قلنا وعامل الإثارة واحد لا اختلاف عليه ونعني به القلق الذي يهز النفوس والعقول ويدفعها دفعا إلى محاولة الغوص في أعماق المجهول. قلق عند بيرون وقلق عند علي طه وقلق عند أبي العلاء، ولكن مصدر هذه الظاهرة النفسية يختلف عند الشاعر الأول عنه عند الشاعرين الأخيرين، حين تفسره عند بيرون بأنه فراغ الحياة من العطف والعاطفة. . . لقد عاش بيرون في مجتمع حرم فيه عطف الناس فثار حينا على الله والناس، وعاش أبو العلاء كل حياته وهو محروم من نعمة الشعور بالعطف الإنساني وبالعاطفة الأنثوية، وكذلك كان الآمر بالنسبة إلى علي طه ولكن في فترة محدودة من فترات الحياة، ومثل هذا الحرمان كفيل بأن يهز سكينة النفوس والعقول!

أنور المعداوي