مجلة الرسالة/العدد 1011/يا لجراحات الوطن الإسلامي!

مجلة الرسالة/العدد 1011/يا لجراحات الوطن الإسلامي!

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 11 - 1952


للأستاذ سيد قطب

تمثل فرنسا على مسرح الشمال الأفريقي في هذه الأيام أبشع مآسي (الرجل الأبيض) حتى إذاتحركت الكتلة العربية الآسيوية لتحول بين فرنسا وبعض صناعاتها في هذه الرقعة من العارض، وقف موسيو روبير شومان وزير الخارجية الفرنسية ينذر وزير الخارجية الأمريكية بأن فرنسا سترفض التصديق على معاهدة الصلح الألمانية وتوقيع ميثاق الدفاع عن غرب أوربا، كما ستنسحب من حلف الأطلنطي إذا أيدت الولايات المتحدة التونسيين والمراكشيين في الأمم المتحدة وحق لفرنسا أن تهدد أمريكا، فهي تعلم أمريكا غير جادة في نصرة قضية تونس ومراكشي، ولكنها تضحك على ذقون العرب المسلمين حينتتظاهر بتأييدهم في قضاياهم ضد الاستعمار الأوربي. ولو كانت جادة لوجدت الوسيلة، فإن فرنسا وإنجلترا تعيشان عالة على أمريكا. ولو أمسكت عنهما المدد لأفلستا. فهي تملك أذن أن تصنع شيئا لو أرادت، ولكنها لا تريد

واللعبة الأمريكية في موقفها هذا مكشوفة. . . إنها تدع فرنسا تهدد وتخضع لهذا التهديد الوهمي، الذي ما كانت فرنسا تقدم عليه لو أنها تعلم أن أمريكا صادقة النية. . وكذلك تستخدم دول أمريكا اللاتينية للغرض نفسه فتوحي إليها أن تعارض آي نص قاطع يؤكد حقوق التونسيين والمراكشيين في الاستقلال. ليكون ذلك تكأة لأمريكا في التراجع!

قد صرح رئيس الوفد الإندونيسي بأن أعضاء الكتلة العربية الأسيوية التي تعمل لوضع مشروع قرار بتشكيل لجنة معظم أعضائها منهم، قد تخلوا عن الفكرة الأولى التي تقتضي بأن يتضمن مشروع القرار فقرة تؤكد حقوق التونسيين والمراكشيين في استقلال وذلك خشية عدم تأييد دول أمريكا اللاتينية للقرار، إذا قدم متضمنا هذه الفقرة. . .

ووراء هذا كله أمريكا. فقد صرح مسطر فليب جيسوب رئيس الوفد الأمريكي في هيئة الأمم بأن الولايات المتحدة تحاول إقناع الكتلة العربية الآسيوية يعدم التطرف في عداء فرنسا وأنه (سعيد) لأن أعضاء هذه الكتلة قد بدءوا يتراجعون عن موقف التطرف الشديد في عدائهم لفرنسا. وقال كذلك: أن الولايات المتحدة تريد أن يكون مشروع إقرار الذي سيقدم إلى الأمم المتحدة معتدلا بحيث يقتصر على مطالبة الفريقين باستئناف المفاوض هذه هي المأساة التي تمثل في هذه الأيام على مسرح هيئة الأمم بمعرفة أمريكا والاستعمار الأوربي. ومع ذلك فنحن ببلاهة منقطعة النظير نقف ننتظر العون الأمريكي الذي يخلصنا من الاستعمار الأوربي!

إننا ننسى أن العالم الأوربي والعالم الأمريكي يقفان صفا واحد بازاء العالم الإسلامي. والروح الصليبية القديمة هي هي ما تزال. إننا ننسى هذا لأن فينا مغفلين كثيرين ومغرضين كثيرين يضللوننا، وينشرون دعاية مغرضة عن رغبة أمريكا في أنصاف الشعوب المستبدة، ومساعدة الشعوب المتأخرة. . ومع أننا ذقنا الويل من أمريكا في فلسطين، فإن أجهزة الدعاية الأمريكية تعمل. و (جمعية الفلاح) تظهر في الميدان، وتقوم بواجبها!

إن جراحات العالم الإسلامي تنبض بالدم في كل مكان وأمريكا واقفة تتفرج. بل تساعد المستعمر الأوربي القذر. ومع هذا توجد صحف ويوجد ناس. ناس مصريون ومسلمون، ويتسمون أحمد، وحسين، وحسن، وعلي. . . يتحدثون عن تمثال الحرية في ميناء نيويورك، وعن فرنسا أم الحرية!

وأحيانا يسألك بعض المتخاذلين أو بعض المدسوسين: وماذا نملك أن نصنع؟ إذا لم نستطع ونحن ضعفاء؟

ماذا نصنع؟ إذ لم نستطع أن نحطم الكف التي تمتد إلينا بالسوء، فلا يجوز أن نقبلها. ونحن نقبل الكف التي تصفعنا!

إذا لم نستطع أن نصنع شيئا، فلنحتفظ على الأقل بأحقادنا المقدسة، ولنورثها أبناءنا، فقد يكونون في ظروف تمكنهم من رد الجميل للرجل الأبيض!

إن الرجل الأبيض يدوسنا بقدميه، بينما نحن نحدث أولادنا في المدارس عن حضارته ومبادئه العالية ومثله السامية!

إننا نغرس في نفوس أبنائنا عاطفة الإعجاب والاحترام للسيد الذي يدوس كرامتنا ويستعبدنا!

فلنحاول أن نغرس بذور الكراهية والحقد والانتقام في نفوس الملايين من أبنائنا. ولنعلمهم منذ نعومة أظفارهم أن الرجل الأبيض هو عدو البشرية وأن عليهم أن يحطموه في أول فرصة تعرض. ولنكن واثقين أن الاستعمار الغربي سيرتجف حين يرانا نبذر هذه البذور

إن هذا الاستعمار هو الذي حاول أن يغرس في نفوسنا حبه واحترامه. فلما خشي اليوم أن تستيقظ اخترع حكاية (اليونسكو) ودعا هذا (اليونسكو) إلى حذف كل ما يثير الأحقاد القومية في دراسة التاريخ. وذلك باسم الإنسانية والإخاء البشري!

وهذه لعبة استعمارية جديدة يجب أن نتنبه أليها. إننا إذا اتبعنا تعاليم اليونسكو فسنخدر كل شعور قومي ناهض. ولن يستفيد من هذا التخدير سوى الاستعمار. وهذا ما تقصد أليه هيئة اليونسكو!

إن أوربا وأمريكا دول مستعمرة. فماذا عليها من حذف كل ما يثير الأحقاد القومية في دراسة التاريخ؟ إنها تكسب بهذا ولا تخسر شيئا. أما نحن فأن الاستعمار يخنقنا. فإذا لم ننبه شعور الحقد عليه فقد خسرنا السلاح الأول وخسرنا المعركة كلها. . .

ومع هذا فإن عندنا مصريين مسلمين يتسمون: أحمد، حسين، وحسن، وعلي. . . يعملون في مصر باسم (اليونسكو) وينشرون الأضاليل، ويخدعون أمتهم، ويحامون تنويمها باسم الإخاء الإنساني!

إن جراحات الوطن الإسلامي دامية في كل مكان من أن نحتفظ بالكراهية والحقد لمن يدميها. أما مبادئ اليونسكو الجميلة فنحن على استعداد اعتناقها يوم يتقلص ظل الاستعمار الأسود عن أوطاننا الدامية الجريحة

لقد عرفنا نحن مبادئ الأخطاء الإنساني قبل اليونسكو بأربعة عشر قرنا. عرفناها وطبقناها، على أنفسنا وعلى سوانا. ولم نجعلها خدعة ولا فخا، كما يجعلها الرجل الأبيض، فهذه المبادئ ليست جديدة علينا. ولكن ديننا الذي جاء بها مبكر جدا: علمنا كذلك أن نقاتل من يعتدي علينا، والانا من له ولا نستنيم، وأن لا نسالم أحدا يعتدي على شبر واحد من الوطن الإسلامي، أو يناهض العقيدة الإسلامية ويؤذي معتنقيها

(إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين أخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم. ومن يتوله منكم فأولئك هو الظالمون)

والرجل الأبيض - سواء كان ذلك في أوربا أو أمريكا أو روسيا - يقاتلنا في الدين، ويخرجنا من ديارنا، ويظاهر على إخراجنا، ومع هذا يوجد ناس مسلمون يتسمون: أحمد، حسين، حسن، أو علي. . . يوالونهم، ويروجون دعاياتهم، ويمكنون لهم في رقابنا. ثم يحاولون أخيرا أن يخدروا أحقادنا المقدسة حتى هذه الأحقاد التي يجب أن نورثها أبناءنا على الأقل مع العار الذي سنورثهم إياه، وتركنا جراحات الوطن الإسلامي تدمى في كل مكان، ونحن لا نصنع شيئا

إن فرنسا تمزق جسم الوطن الإسلامي في تونس والجزائر ومراكشي، وإنجلترا تقوم بدورها في مواضع أخرى، وأمريكا من خلفهما تبدو تارة وتتواري. . . هذا ما يجب أن نذكره صباح مساء، وما يجب أن نلقنه أبناءنا بكرة وعشيا

سيد قطب