مجلة الرسالة/العدد 1013/القصص

مجلة الرسالة/العدد 1013/القصص

ملاحظات: Hermann Bahr, Die schöne Frau بتاريخ: 01 - 12 - 1952



الزوجة الحسناء

للكاتب النمساوي هيرمان بار

. . . ولاقيت صديقي بول دوران بعد غياب طويل فاندفعت إليه في شوق قائل: (كيف حالك يا عزيزي؟ لقد احتجبت عنا طويلاً، أفتزوجت حقاً؟ لم يكن ليضطرب في خيال واحد من رفاقك أنك تتزوج فتزل على بعض ما فيك من عبث ومرح ولكن المرأة. . المرأة يا بول!).

وابتسم بول في رقة واخذ بذراعي يجرني اليه، أفكان لبول أن يتزوج وقد عرف في صحابته المجون والعبث؟ إن هذا خيال ما يستطيع الإنسان أن يثق به!

وتناول سيكارة في هدوء وقار، وحدجته بطرف عيني فآلمني أن أرى فيه الرزانة والسكون! لا ضير،، فهو زوج! ثم. . . ثم قلت: (لقد أبدلت طبعاً بطبع يا بول بعد أن تزوجت. . تزوجت من فتاة جميلة) فترك ذراعي في غضب وهو يقول: (دع عنك المزاح وإلا كان هذا فراق بيني وبينك!) وأزعجني حديثه فاندفعت أسأل: (ماذا يا صديقي؟)

قال: (حقاً، أنها حسناء فاتنة. . ولعمري إن البلاء في الزوجة الحسناء، فأنا ادفع الثمن غالياً! نعم إنني أحبها ولكن أتعلم ما يثقل زوج المرأة الحسناء؟ إذا غاب عنك هذا فلا تتحدث عن شيء بعده. إن الزواج من حسناء يتطلب صبراً كصبر أيوب ثم يصفر صفيراً مزعجاً وفي وجهه العبوس والتهجم؛ وخيل إلى أنني سموت إلى الغاية متى يريد فقلت: (أفرأيت يا بول، أن خطاياك تنحدر إليك من صبب! هذا هو الجزاء! إن الغيرة تكاد تعصف بك) ونظر إلى في دهشة وهو يقول: (يا للغباء! أي غيرة؟ فيم تفكر؟ وأسفت على أن رميته بتهمة هو منها براء، فقلت: (أفلا تستشعر الغيرة؟) قال: (لا. لا. إن الزوجة الحسناء هي خير ما يتمنى المرء ما لم يستعبده جمالها) قلت: (لقد قصر عقلي عن أن أستشف ما تريد) قال: (سأضرب لك الأمثال لأكشف لك عن بعض ما عمي عليك).

وبدا لي أنه يتنفس عن كربته حين ينشر على عيني أمره، وأنا صديق قديم حبيب إلى نفسه، فتعلق بصري به وهو يتناول سيكارة أخرى فيشعلها وهو يقول:

إن النشوة التي سيطرت علي - يوم زوجنا - كادت تستلبني عقلي. لقد انطلقت إلى ميونخ برفقة زوجتي، وخيالي يصور لي أننا نستطيع أن نجول في أنحاء المدينة في لذة وسعادة؛ نزو معا بعض أصدقائي ثم نطير إلى مروج بافاريا ننعم بالخلوة، ونقطف الثمرة الحلوة. ووجدت السعادة في ميونخ، وعلى حين فجأة بدأ القلق يضطرب في ناظريها، فجلست إليها أستطلع الخبر، فقالت: (لا شيء! إنني أرى الجمال هنا، ولكن. . ولكنني أرى الناس غلظة وجفاء!) وحدثتني نفسي: (يا لله! لا ريب أن في سكان ميونخ البطيء الهدوء، أما الغلظة والجفاء. . .!) واندفعت هي في حديثها: (حقا، إن فيهم غلظة وجفاء! إن المرء ليضرب في الطرقات والشوارع ساعات فلا يرى إنساناً واحداً يرفع بصره فيحدق في الآخر. هذه هي النقطة التي رأيتها فيهم).

أفرأيت يا صديقي؟ لقد زلت زوجتي، فهر تريد الشوارع تموج بالناس بين معجب بها وعاشق لها، وهي لا تجد بغيتها في ميونخ. لعلك تنفجر ضاحكا من هذه السخافة، ولكنك ستجد فيما أقص عليك متعة وسلوى.

وفي الصباح التالي انطلقت أجلس في ندى مكسمليان أنتظر زوجتي لأصحبها إلى المعرض. لقد تركتها في الفندق ترتدي ملابسها تتزين. ولبثت طويلاً أنتظرها. ودقت الساعة عشراً وأنا جالس إلى نضد أردد بصري بين المارة وأحدق في دار الأوبرا وهي قبالتي؛ وابتدأ الناس يتصدعون عن المكان والنذل متكئون إلى الجدار في كسل وفتور. وخلا المكان إلا من شرذمة من الطلبة يحتسون الجعة ويلعبون؛ وهدأ المكان إلا من بعض كلمات تنفرج عنها شفاه الطلبة بين الحين والحي؛ وبذر الانتظار في نفسي غراس القلق والضيق. . ثم جاءت عند الظهر. . جاءت ترف رفيفاً جميلاً، حسناء جذابة، فاتنة خلابة، تسير الهوينى في خيلاء وصعر، وعلى ثغرها ابتسامة عذبة. . ومالت إلى النادلة تسألها ثم دلفت إلى في أناة وتؤدة، وحين صارت بازاء الطلبة تركت مظلتها تسقط من يدها فاندفعت النادلة إليها والطلبة في شغل.

وسألتها عن بعض ما تحب من أصناف الطعام لتتناول طعام الإفطار فلم تعر سؤالي التفاته وراحت تقول: (أنا لا أريد أن أجلس إلى هذا الشباك فهناك في الشارع وعلى جدار الملهى أشياء تبعث في النفس الضيق والملل. . خبر لنا أن نتنحى عن هذا المكان. ثم انطلقت تختار نضداً إلى جوار الطلبة؛ وحين سحبت إليها كرسياً هزت الآخر فانتثر ما عليه من صحف فتناولتها والطلبة في لهوهم ما ينظرون. واستقر بنا المقام فسألتها مرة أخرى عما تتطلب من طعام، والشوق يدفعني إلى المعرض؛ غير أنها قالت في تؤدة وهي تضع نظارتها على عينيها: (خبرني، أفلا يجد هؤلاء الطلبة عملاً سوى شرب الجعة ولعب الورق؟) وأمسكت بصحيفة أصرف بها عن نفسي السوء وأكفكف بين سطورها نزوة تضطرب في قلبي، ولكنها لم ترض أن تتنزل عن رأيها في سهولة، فاندفعت تتحدث إلى: (يا لتعس آباء هؤلاء الطلبة! إنهم يبذلون آخر فلس في جيوبهم في سبيل أبنائهم وهم يبددون المال في المقاهي! أين المعلم وعصا المعلم؟) وانطويت عنها أردد بصري في سطور الصحيفة في إغضاء وإهمال؛ ولكنها قالت: (أنظر إلى كؤوسهم. . إلى رؤوسهم! يا عجبا! إنهم كحمالي المحطة!).

وتأجج الغضب في رأسي وأنا أهدئ من ثورتي خشية أن يتثلم شرفي في هذا الندي، ثم قلت في هدوء: (لا، بل أستطيع أن أرى أن ميونخ تبعث في نفسك الضيق والضجر، وأنا لا أجد بداً من أن ننطلق إلى شليرسي بعد ساعتين، فهو مكان هادئ جميل، وهناك دريتشر صديق قريب إلى نفسي) ثم رجعنا إلى الفندق نتأهب. . .

وأبرقت إلى صديقي. . وبلغنا شليرسي عند الساعة الرابعة، فألفيت صديقي لدى المحطة ينتظر. وانطلقنا جميعاً إلى فندق جميل على شاطئ البحيرة وحللنا غرفة واسعة أنيقة جميلة، تتراءى أمامها البحيرة وما حولها من مباهج. وأضنى التعب زوجتي - أجاتا - فانطرحت في فراشها في سبات عميق، أما أنا فقد انطلقت على دراجتي أطوف بالبحيرة والقرية وأستحلي رواء الريف الجميل، ثم عدت عند الثامنة فإذا هي في الحديقة، وفي يدها كتاب ما تستقر عيناها بين سطوره، وعلى خطوات منها بعض الريفيين، وقس يجلس إلى الحارس. وأخذتني روعة المكان فأحببت أن أقضي بعض وقتي هناك؛ واندفعت إليها وهي جالسة في ثوبها الأبيض الحريري الجميل، يتأرجح العطر منها عبقا طيبا؛ غير أنه لم يلتفت إليه أحد، وقفت بازائها أقول: (ما رأيك يا عزيزتي؟) فحدجتن بنظرة قاسية وقالت: (أهذه هي شليرسي؟ أنا لا أستطيع أن أمكث هنا أكثر من يومين فهذا مكان لا يلذني) قلت: (إنه هادئ. . . والبحيرة. . .).

فقاطعتني (والبحيرة صغيرة عابسة) قلت: (والوادي الجميل. . .) فقاطعتني ثانية: (والوادي الجميل غير صحي) قلت: (والجبال. . .) فقاطعتني مرة أخرى: (والجبال، أنا لا أحبها!) ثم نظرت إلى في ازدراء وهي تقول: (والطعام رديء الطهي والجعة البافارية تملأ الجسم شحما، أنا لا أريد أن أبدو عبلة كالفلاحات. إنني أبتغي حياة هادئة. لقد كان من الخير لي أن أسجن في دير ولا أتزوج من رجل لا يحبني) قلت: (لا بأس، سنرحل إلى بلد آخر إن لم تجدي اللذة هنا)، واضطرب قلبي، ن وانتفض فؤادي، واستولى علي الأسى والحزن، فأنا لا أطمئن إلى حياة قلقة لا أستطيع فيها أن أستقر في مكان جميل جذاب أجد فيه السكون والراحة، ولكن ماذا أفعل وأجاتا ما تهدأ ولا تطمئن. لا ريب فهي تريد أن تنطلق إلى فينا حيث تطوقها الأنظار في كل مكان، لأنها إن افتقدت من يعجب بها حارت حيرة من اعتاد التدخين ثم لا يجد إلى الدخائن سبيلاً. تلك حقيقة مروعة، فخير للإنسان ألا يتزوج من حسناء!

وفي الصباح التالي بكرت إلى البحيرة، إلى الوادي، إلى الغابة أمتع نظري وأشيعها جميعاً بنظرات الوداع، فنظرات فيها الألم والحسرة، والخواطر المتناقضة تصطرع في خيالي. أما هي. . . هي أجاتا فما تزال في مخدعها تنعم بالنوم الهادئ. . إنني أتعشق هذه الناحية من الأرض، ولكن. .

ولمع في خاطري رأي، انفجرت له شفتاي ع ابتسامة فيها الرضا والاطمئنان، فانطلقت أعدو في لهفة إلى صديقي دريتشر، وهو ممثل بارع، وهو رئيس فرقة التمثيل الأهلية في بافاريا يستمتع بشهرة عالية؛ وهو أيضاً شاب فيه المرح والطرب والفكاهة والرأي النافذ والقريحة الوقادة. . وهو صديق فيه الإخلاص والوفاء.

وحين ضمنا المجلس اندفعت أقول: (دريتشر، إنني أطلب إليك شيئاً وارجوا ألا تجادلني فيه. إنك تعرف كل إنسان في هذه الناحية، أفتستطيع أن تمدني بشاب أنيق وسيم يمثل دور عاشق؟) قال في دهشة (ليمثل ماذا؟) قلت (ليمثل دور عاشق. إنني أريده يجلس ويحدق. . يحدق في زوجتي ساعة من نهار. إن زوجتي قد اعتادت هذا النوع من الغزل فهي تفزع من كل مكان تفتقد فيه بغيتها. وسأدفع له ثلاث ماركات في اليوم ثمنا لجلوسه في الحديقة يردد بصره بي الفنية والفنية في زوجتي، وأدفع له ثمن شرابه) قال: (لا ضير، لا ضير. . .!) ثم نشرت الخبر أمامه، فقال: (نعم سأفعل غير أني لا أستطيع أن أستغني عن واحد من زملائي، ولكن. . . آه، نعم، إن في الفرقة عاملا شاباً فيه الأناقة والظرف و. . . دع عنك هذا، سأحدثه الحديث كله الآن؛ وفي المساء نبتدئ العمل. .) قلت (أشكرك يا صديقي. ولكن أفتطمئن إلى العامل؟) قال (وماذا يعنيك أنت؟ إن المرأة لا تعني بنظرات من يعشقها بقدر ما تعني بنظراتها هي؛ وسترى. . .)

وعند المساء انطلقت إلى مكتب البريد وخلف أجاتا وحدها في الحديقة. . . وجاء العامل في ثوب أنيق. . جاء ينفذ أمر سيده في براعة وإتقان. . . ورجعت أحدثها: (لقد ذهبت إلى المحطة. . فراقني أن نسافر على قطار الساعة العاشرة صباحاً) قال في لهفة: (ماذا؟ ماذا تعني؟ أفلا تستطيع أن تستقر في مكان؟ إنني أميل إلى هذا المكان، إلى البحيرة. . .) فقاطعتها قائلاً: (ولكنها صغيرة!) قالت: (هذا هو موضوع الجمال فيها) قلت: (والجبال من حولها) قالت (لا ضير، فأنشد الهواء العليل في أعاليها. سنبقى هنا حيناً من الدهر فما يرضيني أن نضطرب في أنحاء العالم. . .)

ومكثنا هناك ثلاثة أسابيع دفعت فيها الثمن غالياً. ولا ريب أن أجاتا لن ترضى بهذا المكان بديلا. . .

ك. ح