مجلة الرسالة/العدد 1013/شلر

مجلة الرسالة/العدد 1013/شلر

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 12 - 1952



للكاتب الكبير توماس كارليل

ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت

تتمة

مور: من فوضني بهذا؟ - إن الظلام مخيم على كل مكان، متاهات شائكة، لا منفذ، ولا نجم هاد، يل ليتني تخلصت من هذا النفس، وكل شيء منته كمهزلة مؤسفة، ولكن ما مصدر هذا العطش الشديد للسعادة! ما مصدر فكرة الكمال الذي لا يمكن التوصل إليه! هذا الاستمرار في وضع الخطط الفاشلة، إذا كان الضغط الطفيف على هذا الشيء التافه (ممسكاً المسدس) يجعل من الحكيم والأحمق، والجبان والشجاع، وعزيز النفس وذليلها سواسية كأسنان المشط، وإذا كان الانسجام الإلهي موجوداً في الطبيعة غير العاقلة، فلم هذا النشاز في الطبيعة العاقلة؟ - كلا! كلا إن هناك شيئاً خلف كل هذا، لأنني لم اعرف العادة مطلقاً إلى الآن. أتعتقدون بأنني سأرتجف يا أرواح الذين أهلكتهم!؟ لا لن ارتجف (يرتجف بعنف) - فأنينكم الحافت الميت ووجوهكم المختنقة السوداء، وجروحكم الفاغرة المرعبة ما هي إلا حلقات في سلسلة القدر، ومصيرها في النهاية يتوقف على ألاعيبي الصبيانية وعلى نزوات مربياتي ومعلمي، وعلى مزاج والدي (مرتجاً من الرعب) لماذا جعلني بريلوس عجلاً نحاسياً لأشوي الإنسانية المسكينة في معدتي الملتهبة؟ (محدقاً في المسدس) الآن يمكن ربط الزمان والخلود في لحظة واحدة! - أيها المفتاح المرعب الذي يغلق خلفي سجن الحياة، ويفتح قدامي مسكن الليل الخالد - آه، قل لي! قل لي - إلى أين - إلى أين ستقودني؟ أإلى الأرض الغريبة التي لم يعد منها إنسان. انظر، إن الرجولة تنهار أمام هذه الصورة ويستسلم الإنسان لهذا المنظر المورع، والوهم الذي هو مسخ الشعور النزق يلعب بنا بصورة غريبة. كلا! كلا ليس من شأن الرجل أن يتأرجح ويخور في ساعة الحرج. كن من تشاء، إنني احتفظ بذاتي معي. أنا جنتي وأنا ناري. وإذا أردت أن ترسلني وحيداً فريداً شريداً طريداً إلى ركن مشتعل من أركان الكون. هذا الركن الذي أقصيته عن ناظريك، هذا المكان الموحش المظلم والصحراء المخفية التي لا حراك فيها ليصبح ذلك كل ما أمله والى الأبد. إني سأعمر هذا القفر الصامت بهواجس، وسأتخذ من الخلود مجالا للكشف عن سورة البلاء اللانهائي.

أو انك ستقودني من ولادة لأخرى، ومناظر أخرى للألم المفجع قدما إلى الفناء. أليس في مكنتي قطع أسباب الحياة كما اقطعها هنا والآن؟ هل لي أن أموت في سبيل حياة تعسة؟ هل سأمنح الشقاء نصراً علي؟ - كلا - إنني سأحتمل هذه الحياة (يرمي المسدس بعيداً) ولتثلم التعاسة نفسها على صخرة كبريائي. إنني سأسير محتملاً إياها.

وفي مؤلفه (عذراء أورليانس) نجد تالبوت، ذلك المحارب القديم، الأشهب، الملحد، الذي لا يقهر، وهو يمر مفكراً بأرض العدم، مستهزئاً حتى بالقدر الواقف له بالمرصاد، وهذا المنظر هو المنظر السادس من الفصل الثالث و (في زحام المعركة).

(يتغير المنظر فيصبح فسحة منبسطة محاطة بالأشجار. وفي أثناء عزف الموسيقى يرى الجنود وهم يهربون من ساحة القتال) تالبوت، متكئاً على فاستولف، يرافقه بعض الجنود. يقبل ليونيل بعدئذ بسرعة.

تالبوت: ضعني هنا، تحت هذه الشجرة، واعمدوا إلى المعركة: أسرعوا أنا لا أريد مساعدة كي أموت.

(يدخل ليونيل) فاستولف ياليوم الشؤم! انظر، ليونيل، ماذا ينتظرك، إن قائدنا الجريح يموت.

ليونيل: لا سمح الله: آه يل تالبوت الجليل، إن هذا ليس وقت الموت، لا تستسلم للموت، واجبر الطبيعة المترددة بقوة روحها حتى لا تفارقك الحياة.

تالبوت: عبثاً: عن يوم القضاء قد حم، هذا القضاء الذي يسوي جيروت فرنسا بالرغام. وعبثاً ما ضحيت بأعز شيء لدي للصمود في هذا التصادم الضاري وفي هذه المعركة اليائسة. لقد أصابت في الصاعقة مقتلا فتحطمت. وها أني مضطجع لا قومة لي بعد الآن. لقد خسرنا (ريمز)، فأسرعوا لإنقاذ باريس.

ليونيل: إن باريس بيد الدوفان، وقد وصلتنا الآن الأنباء السيئة بأنها استسلمت.

تالبوت: (يمزق ضماداته) وإذن تدفقي يا سواقي الحياة، إن هذه الشمس أصبحت ممقوتة لدي.

ليونيل: فاستولف! انقلوه إلى المؤخرة: إن هذا الموقع يمكن أن يصمد لحظات أخرى، إن الخبثاء الجبناء يتراجعون، لقد أقبلت الساحرة التي لا تقاوم، يحيط بها الدمار والخراب.

تالبوت: أيها الجندي، انك تنتصر وأنا استسلم؛ إن الآلهة أنفسهم ضعاف أمام البلادة والخرق، وأنت يا آلهة العقل، يا ابنة الإله الأكبر، يا مؤسسة نظام الكون، وقائدة النجوم، من أنت إذا كنت مربوطة بذيل الحصان الأخرق، حصان الخرافة، إنك ستدفعين بعيونك المفتحة صراخك المدوي إلى الهوة السحيقة مع ذلك الحيوان السكير؟ ملعون من يربط مصيره بمصير العظماء والأشراف المبجلين، إن هذا العالم ملك السلطان أحمق.

ليونيل: آه، إن الموت قريب، ففكر في إلهك وصل، ولو أن القدر هو الذي نصر الشجعان على أمثالنا المغاوير لما اهتممنا قيد انملة، ولكن إن تسحقنا مثل هذه الأضحوكة الوضيعة فأمر لا يستحق منا كل هذا التعب وكل هذه المخاطر.

ليونيل: (يمسك بذراعه) وداعا، تالبوت! سأبكيك بملء دموعي إذا بقيت حيا بعد انتهاء المعركة. ولكن القدر يدعوني الآن إلى ساحة المعركة. . وداعاً! إلى الملتقى وراء الشاطئ غير المنظور، وداعاً مبتوراً لصداقة طويلة وليكن الله معك (يخرج).

تالبوت: إن كلل شيء سينتهي آجلاً، وسأسلم إلى الأرض والى الشمس الأبدية هذه الذرات الفانية التي امتزجت، إن خيراً أو شراً، لتكوني. أما تالبوت الجبار الذي ملأ صيته العالم فلن يبقى منه إلا كومة من التراب السافي. وهكذا يقبل الإنسان إلى نهايته، وكل نضالنا في الحياة هو معرفتنا أنها عدم في عدم، وما علينا إلا أن نسخر من هذه الصورة الجوفاء التي كثيرا ما نقشناها وعبدناها.

- الفصل الرابع -

(يدخل شارل، برغندي، دونوا، دو شاتيل، والجنود)

برغندي: لقد نسفت الخندق

دونوا: مرحى! إن المعركة في صالحنا

شارل: (ملتفتا إلى تالبوت) من هذا الذي يودع النهار بمثل هذا الوداع الحزين المكبوت، فمظهره يدل على أنه إنسان اعتيادي، اذهبوا فساعدوه، إن كانت المساعدة جدية.

(جنود من حاشية الدوفن يتقدمون إلى الأمام).

فاستولف: إلى الوراء، ابتعدوا لا تقتربوا من الراحل البطل، الذي كنتم تخشون التقرب منه في الحياة.

برغندي: ماذا أرى؟ تالبوت الجليل متخبطاً في دمه.

(يذهب برغندي إليه، تالبوت ينظر إليه في تمعن وتفرس ويموت).

فاستولف: ابتعد يا برغندي. لا تقلق آخر لحظة من حياة البطل بمنظر خائن.

وقلما نجد في هذا الكتاب تلك (الكلمات النارية القوية) كما يدعوها الألمان كالتي نجدها غالباً في (اللصوص) لأن الهياج البركاني قد خف، فبدلاً من الحمم والدخان والشظايا المتطايرة نجد أشعة الشمس والعالم الزاهي. وهناك أمثلة مثيرة على هذا التبدل اللطيف في مناظر كثيرة من مؤلفه (وولنشتاين) وكل كتبه الدراماتيكية التي أعقبت ذلك، وخصوصاً في (وليم تيل) التي هي آخرها. وهذا التغير يمكن العثور عليه في الكيان الشعري في كل هذه المؤلفات، هذه المؤلفات التي تعتبر قصائد كاملة، وكان أملنا أن نوفيها حقها في الشرح، ولكن ضيق المجال منعنا من ذلك.

وأملنا كبير في القراء المتمكنين والشرح المعنيين بأن يلتفتوا إلى هذا. واهم المؤلفات الشعرية التي نظمها شلر هي (ليدر وبركلوش) و (رترتو غنبرغ) و (نشال التنيرة) و (الغواص) و (كراكي - يبكي) وكلها تمتاز بالروح الإغريقية الصميمة كأنها نفحة عطرية من نفحات قيثارة اخليوس العبقة، أو كأنها أغان ملائكية.

فلسفته وعقيدته الكونية

أما موهبة شلر الفلسفية وما توصل إليه في هذا المجال الحيوي فأمر يحتاج إلى كثير من الجدل وكثير من التفكير، وهذا ما لن نطرقه الآن بإسهاب. وقد سبق أن أشرنا إلى أنه كان يمتاز بقابليتين: فلسفية وشعرية. وكان تفكيره معروفاً بهاتين الصفتين، وكان عقله قوياً، نفاذاً، نظامياً ومدرسياً اكثر منه بدهياً، وكان هذا الميل واضحاً في جميع البحوث التي عالجها وفي أسلوب معالجته لها. وقد أثرت فلسفة التسامي التي ظهرت في عصره فيه تأثيراً كبيراً: وقد درس باعتناء زائد منهج (عمانوئيل كانت) الفلسفي، ويظهر أنه لم يعترف به وحسب، بل إنه اعتنق تعاليمه الرئيسية، ولكنه مع ذلك صاغها بأسلوبه الخاص لدرجة أنها أصبحت فلسفته الخاصة وخرجت عن كونها فلسفة (كانت). وكثير ممن لا يعرفونه معرفة حقيقية يعتقدون بأن هذه التأملات لم تنفعه في شيء. ولكن شلر كان راضيا كل الرضى بفلسفته التي اعتنقها بعد أن صرف في ذلك جهداً شاقاً. وفي هذه الفلسفة - التي انسجمت مع شعره - تمكين لقوته الفطرية والخلقية. يقول شلر بخصوص ذلك ما يلي: (أنا لا انتظر من أعداء هذه الفلسفة الجديدة شيئا من التسامح، كالذي أظهروه تجاه الفلسفات الأخرى، التي لم يعرفوا عنها شيئا كما انهم لم يعرفوا هذه! لأن الفلسفة كانت - في قضاياها الإنسانية - لا تحتمل أي تسامح، وهي تحمل صفة جدية لا تفسح مجالا لأية تسوية. وهذا - في نظري - يشرفها لأنها لا تحتمل العبث بالحق. إن هذه الفلسفة لا تناقش بمجرد هز الرأس. ففي حقل البحث الصريح الواضح الذي يمكن التوصل إليه تبغي هذه الفلسفة ومنهجها - فهي لا تتظلل بأي ظل - ولا تبحث عن أية تحفظت تتستر بها، وهي تحب أن تعامل كما تعامل هي جيرانها، وهذا يجعلنا نغتفر لها عدم اعتدادها بغير البراهين. ولن أخشى من التفكير في أن قانون التغيير - الذي يأتي على كل شيء - الهي سيسري على هذه الفلسفة أيضاً، وسينال منها منالاً شديداً، إلا أنه سيحافظ على جوهرها، لأن النوع البشري منذ بزوغ شمس العقل اعترف بمثل هذه المبادئ الأولية وعمل بها.

إن إنجازات شلر الفلسفية تخص قضايا الفن والأدب بصورة رئيسية، وهي لا تخلو من نظرات مهمة في مجالي التأمل: لا بل إن الفن نفسه - كما تصوره - يستند على أساس متين من مصالح الإنسان وهو بنفسه (أي الفن) يتضمن تسوية انسجامية بين هذه المصالح. لقد أخذنا على أنفسنا من مدة أن نقدم إلى قرائنا خلاصة (الرسائل الجمالية)، هذه النتف المتماسكة العميقة من الجدول الذي قلما نجد مثيلا لها، وبهذه الواسطة نتمكن من دراسة الصفةالبارزة لشلر كفيلسوف، وفي الوقت نفسه فالفقرتان القصيرتان الآتيتان ستقدمان دليلا على وجهة نظره في جميع القضايا الفلسفية بدون الاحتياج إلى أي تفسير أو إيضاح. ليتكلم شيلر في هاتين الفقرتين عن (وليم مايستر) و (اعترافات القديس الجميل) التي تحتل الكتاب السادس من ذلك المؤلف فيقول: (إن الانتقال من الأديان البدائية إلى الديانة المسيحية بتجربة الخطيئة مفهوم بصورة جيدة - إنني في الواقع - أجد في النظام المسيحي أصول الفكرة السامية، ولكن الصور المشوهة المختلفة لهذا النظام في الحياة الواقعية، تجعل هذه الفكرة مؤذية ووضيعة، لأنها تمثل تمثيلاً سيئاً الفكرة الأصيلة التي تبناها واضع المسيحية الأولى. وإذا أنت درست الصفة البارزة في المسيحية تجد أن ما يميزها عن الأديان التوحيدية الأخرى هو قضاؤها على (القانون) والتوكيد الكانتي، وبدلاً من ذلك تسعى المسيحية لتحقيق الميول الحرة، وهكذا تراها في شكلها الفني تمثال الجمال الخلقي أو تجيد ما هو مقدس، ولهذا المعنى يمكننا أن نعتبرها الدين الجمالي الوحيد (البعيد ع التشريعات السياسية والأنظمة الدنيوية).

وعلى هذا الأساس يمكن تفسر نجاح هذا الدين في الطبائع النسوية (والدليل الواضح على ذلك هو أن أول مبشر بهذا الدين كانت امرأة: هي مريم المجدلية التي نسج المسيحيون حولها هالة من القداسة ووضعوها في منزلة الأصفياء والأولياء المختارين من قبل السيد المسيح). ويقول شلر مستطرداً (ولكن بصورة جدية، وهل يمكنك أن تجد إنساناً متثقفاً بدون أن يلتجئ في ساعاته الحرجة إلى الفلسفة؟ أما أنا فإنني مقتنع تماماً، بأنه إن وجد إنسان من هذا النوع فهو مجبر على مسايرة الاتجاه الجمالي، لأن المزاج الجمالي لا يحتاج إلى الاقتناع الذي هو وليد التأمل والتفكير، ولا يحتاج إلى العقل المجرد إلا متى اصطدمت الاحساسات الطبيعية بالقانون الأخلاقي. والطبيعة الشاعرية السليمة لا تحتاج إلى مثل هذا القانون الصلب، أو حتى حقوق الإنسان أو الميتافيزيقية السياسية كما تدعوها أنت (يقصد جوته)، ويمكنك أن تضيف إلى ذلك أيضاً، بأن هذه الطبيعة لا تحتاج إلى الآلهة ولا إلى الخلود، وما هذه النقاط الثلاث (وهي الآلهة والخلود والقانون الأخلاقي) التي تدور حولها كل المناقشات والتأملات الفلسفية بأكثر من تسلية لمثل هذه الطبيعة الشاعرية وهي لهذا السبب ليست أموراً ضرورية مطلقاً).

وهذه الفقرة الأخيرة غريبة في مدلولها، لأنها إن كانت صحيحة فهي تعتبر طبيعة شلر بالذات (طبيعة شاعرية غير سليمة) لأننا نجد هذه النقط الثلاث بارزة في مؤلفاته وبحوثه - وقبل أن ننهي موضوعنا هذا علينا ألا ننسى ملاحظة لها علاقة وثيقة بموضوعنا، وهذه الملاحظة تتلخص في السؤل الملح الذي يوجهه كل من درس الآداب الألمانية وهو: أيهما أشعر جوته أو شلر؟ ولنا إذا سمح لنا أن نقول: إن هذا السؤال تافه وغير ذي موضوع لسنين: فأولاً أن شلر وجوته يختلفان في مواهبهما اختلافاً كلياً سواء كان ذلك في مساعيهما أو في المجالات الثقافية العامة. ثانياً: إذا كان السؤال يعني - على العموم - المفاضلة بينهما في عظم الشأن وأهمية كل منهما بالنسبة للأدب الألماني أو الآداب العالمية، فجواب هذا السؤال واضح كل الوضوح وهو لا يحتج إلى تفسير مسهب، ولو وضعنا هذا السؤال أما شلر الحي الخجول لانتفض متعجبا من ذلك.

ولم يعرف أحد خيراً منه بأن جوته ولد شاعراً، بينما هو اصبح كذلك بتأثير المحيط (والفرق شاسع بين الطبع والتطبع). فكما كان الأول بديهياً بروحه وانطباعاته وإيقاعه الجميل، كان الثاني مدرسياً، وعامل التكلف بين نغماته. زد على ذلك بأن جوته عاش حتى اكمل رسالته الشعرية بعد أن صقلت موهبته وتهذبت ألفاظه حتى بلغت مبلغ الكمال في الإيقاع الموسيقي وفي الأداء الشاعري، بينما نرى الثاني تخطفه يد المنون وهو لم يزل غض الإهاب شاباً في روعة الرجولة وازدهارها: ولهذا السبب اثر بالغ في تقصيره عن اللحاق بجوته وعذره واضح جلي.

يوسف عبد المسيح ثروت