مجلة الرسالة/العدد 1015/دموع البطل!

مجلة الرسالة/العدد 1015/دموع البطل!

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 12 - 1952



للأستاذ عمر عودة الخطيب

(شاهدت صورة للرئيس اللواء محمد نجيب يبكي متأثرا حين جاءته أم تحمل طفلها الصغير فوق ذراعيها ومن حولها أبناؤها الثلاثة تشكو له ما تعاني من حزن وما يقاسي أطفالها من بؤس فأوحت إلي بهذا المقال)

لا تموت الدموع إلا في عيون الجلادين القساة، والظالمين العتاة الذين يرتكبون جرائمهم الكافرة من غير أن يخفق لهم قلب أو يثور وجدان، أو يستيقظ ضمير. . . فهم كالوحوش الضارية تعدوا على الفريسة وتمزقها بأنيابها الحادة غير عابئة بالإناث والآهات. . . وهكذا كان الطاغية وأعوانه من السفاحين والإقطاعيين يرون الشعب التعس يكدح في سبيل اللقمة، ثم لا ينال أدنى الغذاء، ولا يظفر بأقل الكساء، ولا يجد ثمن الدواء؛ وهم في لهوهم ومجونهم غارقون، وفي أودية اللذة والضلال هائمون، يرون بأعينهم الأطفال الذين شردهم بغيهم، والصغار الذين يتمهم ظلمهم، والنساء اللواتي ترمن على أيديهم. يرون كل هذا فلا ينبض فيهم عرق بحنان، ولا تجود لهم كف بإحسان، ولا تبض عيونهم الجاحدة المتكبرة بقطرة من دمع، وما يرونه من مشاهد البؤس في الكبار والصغار والشيوخ والنساء يبكي الصخر الأصم. . . ولكنها القلوب التي تتضاءل أمامها الأحجار، ويتعلم الصخر منها دروس القسوة والجمود، (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار. . .)

هذه صورة الأمس المظلم المقيت، الذي ذهب يخزي الطغاة وعارهم، أما اليوم فقد أذن الله الرحمن الرحيم لهذا الشعب الصابر أن يقطف ثمرة الصبر التي أيعنت، وأن يستظل بفيء الحرية التي بسقت وأزهرت، والتي رواها بدمه، وغذاها بتعبه، وصانها بروحه، فخرج من صفوف الشعب القائد النجيب؛ فكان لمصر المنقذ المخلص، والحاكم العادل، والحارس الأمين، والبطل الحبيب، فالتف حوله الشعب المظلوم يشكو إليه ما لقي من عنت وأذى، كما يجتمع الأبناء حول أبيهم يبثونه ما بنفوسهم من جراح وآلام. . . فلم يترفع الرئيس عنهم، ولم يشمخ بأنفه كبرا عليهم، ولم يعتصم بحصن أو يتوارى في قصر، بل مشى بينهم فرحا بهم وفرحين به، يسمع إلى ما يقولون، ويحقق ما يأملون، ويلبي ما يطلبون، باسم الثغر، ثابت العزم، راسخ المبدأ. . . يأتيه المظلوم الصادق فيرفع عنه ظلامته، ويلوذ به الشيخ العاجز فيخفف من مصابه. . . وتجيئه هذه الأم المحزونة ومن حولها أبناؤها، وعلى وجوههم علائم البؤس، وفي صدورهم لذعة اليتيم، لأن من كان يطعمهم من جوع، ويكسوهم من عري قدمات. . . وتركهم صغارا حيارى يعانون قسوة الأيام، ولوعة الحرمان. . . فيذكر الرئيس البطل أن السماء قد أعدته ليكون أبا لهؤلاء اليتامى ولكل يتيم في مصر فقير. . . فلا يملك قلبه من البكاء، ولا يقوى على حبس الدموع في عينيه!

وكيف لا يبكي؟ وهو الأب الرحيم لهذا الشاب الذي أجاعه ظالموه وأذله حاكموه، وسرق حراسه الأشداء، وروعه طغاته الأقوياء. . . بل أنه ليبكي ويسكب الدموع. . . دموع الحزن العميق والفرح الغامر. . . لأن الله قد اختاره ليمسح ما بالقلوب من أحزان، ويطهر ما بالنفوس من أدران، ويداوي ما تركه الماضي من علل وأسقام. . . وقد أعانه الله فحطم (هبتل) البغي والضلال، وسحق أعوانه وعابديه، فهو يذرف دموع الفرح لما حقق لأمته وبلاده من حياة حرة كريمة. . . فإذا رجع من المعركة الظافرة إلى الشعب رأى ما خلفه فيه المقهورون من مآثم، وما تركوه من مظالم، وشاهد فصولا من البؤس حية لا يقوى على خلقها الخيال. . . فتثور فيه العاطفة الصادقة، ويشيع في أوصاله التأثر العميق، ويخفق قلبه الكبير بالعطف والحنان. . . فيبكي ويذرف الدمع السخين!

رعاك الله أيها البطل

إن هذه الدموع التي تنبع من قلبك الطاهر، وثيقة الرحمة والإخلاص، وبرهان البطولة والإيمان، وهي - لعمري - قصيدة لا يحسنها إلا من وهبه الله قلب ملاك وروح شاعر، ولها في القلوب فعل السحر. . . ويدرك معناها من خبر هذا الضرب من الشعر!

عمر عودة الخطيب