مجلة الرسالة/العدد 1016/رد على مقال
مجلة الرسالة/العدد 1016/رد على مقال
العدالة الاجتماعية في الإسلام
للأستاذ محمد رجب البيومي
كنت اقرأ في مجلة الثقافة الغراء فصولا مختلفة في قواعد النقد الأدبي ومذاهبه للأستاذ عز الدين إسماعيل، فألمح أضواء التوفيق فيما أطالع، وأتصور أن الكاتب سيخطو بالنقد الأدبي خطوة موفقة حين ينتقل من القواعد المذهبية إلى التطبيق، ولكني شعرت بمرارة لاذعة حين قرأت ما كتبه بالعدد الأخير من مجلة الثقافة خاصا بنقد كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام، فقد، قضى على كل أمل كنت أرجوه منه.
وكتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام كتاب مرموق في المكتبة العربية وقد ظهر منذ سنوات، كما تعددت طبعاته المرة بعد المرة، فمن يحاول أن ينقده اليوم فلا بد أن يقدم للقارئ مآخذ هامة ظهرت لديه بعد القراءة الطويلة، والتمحيص الدقيق، وكنت أنتظر ذلك من الناقد الفاضل ولكن الريح قد أتت بما لا يشتهي الملاح.
بدأ الأستاذ نقده الثائر بقواه (ويجدر بي قبل أن أطيف بالقارئ في أرجاء هذا الكتاب أن أنبهه إلى خدعة كبارة، وهالة باطلة نسجها الإمحال في وقت من الأوقات عن شخصية المؤلف، فأخذ مكانه بين الرعيل الثاني من المفكرين في مصر الحديثة، وإن أظهر ما تتسم به مؤلفات الأستاذ سيد قطب هو الضحالة والصحافية، وصياغة أفكار الآخرين من جديد).
فالناقد الفاضل يعلن صراحة أن كتاب العدالة قد شق طريقه إلى الرواج لظهوره في وقت ممحل جديب، توقف فيه التيار الأدبي عن سيره المتواصل، وهذا قول باطل، إذ أن السنوات الأخيرة قد قذفت إلى المطبعة عشرات الكتب الإسلامية والأدبية لعشرات من أفاضل المؤلفين، ولم ينفرد كتاب العدالة بالظهور، ليقال إنه لقي ما لا يستأهله من الرواج والذيوع، كما يحدد الناقد الفاضل مكانة الأستاذ قطب فيضعه في الرعيل الثاني من المفكرين في مصر الحديثة، وقد كان الأستاذ قطب من الرعيل الثاني فعلا قبل أن يبدأ سيله الزاخر في السنوات الأخيرة بكتاب العدالة وما تبعه من المؤلفات، أما الآن فلا ينكر عليه منصف مكانه المنفوس في الرعيل الأول من الكتاب. وليس هذا بكثير على كاتب مجاهد دفع عن زملائه معرة الجبن والخمول، فمهد للثورة الأخيرة بقلمه، واندفع سنوات متلاحقة يحارب الفساد في الصحف الحرة النزيهة كالدعوة واللواء والرسالة والاشتراكية وروز اليوسف، حتى ليجوز أن نشبه موقفه من النهضة الأخيرة بموقف فولتير من الثورة الفرنسية. ولكن الأستاذ عز الدين يقسم الأدباء إلى درجات متفاوتة ثم يعز من يشاء ويذل من يشاء دون عدالة وإنصاف.
وهذه السرعة الحميدة الخصيبة في الإنتاج كانت سيئة شنيعة لدى الناقد الغيور، فجعلته يحكم على إنتاج قطب بالضحالة والصحافية، ثم يزيد فيزعم أنه يسرق أفكار الآخرين. وإذا أعوزه الدليل على ذلك، تعدى كتاب العدالة الذي أرهق نفسه في نقده، واندفع يقول:
وإن شئت فارجع إلى كتابه (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) وهنا تستطيع أن تدرك تماما أن الكاتب أعاد أفكار أبركرمي وتشارلتن، ولا نسون التي سبق أن ترجمت إلى العربية فإذا بحثت عن جديد يختص به المؤلف أعياك البحث دون جدوى.
والكتابان اللذان خدعنا بهما للمؤلف، وخيل إلينا أن فيهما من الأصالة ما ينفي عنه تلك الصفة، وهما التصوير الفني للقرآن، ومشاهد القيامة في القرآن، هذان الكتابان، بكل أسف ليس فيهما من أصالة الفكرة شيء؛ فقد تلقف الأستاذ سيد قطب أصل الفكرة من الأستاذ العقاد وراح يضخمها حتى ظفر من هذه الضخامة بقدر يملأ كتابا)!!
ونحن ننقل هذا الكلام لنسجل على الناقد غفلته، فكتاب النقد الأدبي لا يعيبه إطلاقا_على فرض التسليم بما ذكره الناقد - أن يفيض بآراء أبركرمي وتشارلتن ولانسون، إذ أن الناقد المعاصر لا بد أن يحيط بالثقافة الغربية في موضوعه، وإذا ظهر في النقد الأدبي كتاب يخلو من الإشارة إليها في صفحاته فقد سقطت قيمته الأدبية دون نزاع، والناقد الجريء يتعمد أن يغفل في كلامه حقيقة هامة، فالأستاذ قطب لم ينقل آراء هؤلاء النقاد إلا ليطبق عليها الآثار العربية من شعر ونثر، وقد فاض كتابه الجليل بالموازنة والتحليل، وهنا تتجلى ميزة قطب الأصيلة فهو باحث تطبيقي يزن الأثر الفني بميزانه الدقيق، وليس كمن يحشد لنا القواعد المذهبية في النقد الغربي من كل مكان، فإذا أراد تطبيقها على الأدب العربي اضطرب مقياسه، واختلج ميزانه، وغمره التلجلج والبهر والارتباك!!
وقد ادعى الأستاذ عز الدين أن كتابي التصوير الفني في القرآن، ومشاهد القيامة مأخوذان من الأستاذ العقاد، ولماذا؟ وأين الدليل؟ لأن العقاد قد كتب مقالة تشير إلى فكرتهما الأصيلة! فتلقف قطب الفكرة! وملأ بها كتابين كبيرين! وهذا يذكرني بما يقوله بعض الناس في معرض الفكاهة والتندر، من أن أوربا لم تخترع الطائرة، وليس لها أي فضل في اكتشافها على الإطلاق، إذ أن الجوهري وعباس بن فرناس قد هما بالطيران في يوم من الأيام، ثم أخذ الغرب الفكرة وادعاها لنفسه دون أن يقوم بمجهود!! وهكذا أخذ قطب مقالة الأستاذ العقاد فأفرغ فكرتها الموجزة في كتابين كبيرين، فيا للسطو الشنيع والجريمة النكراء!!
ثم ماذا؟ لقد لجأ الكاتب بعد هذه المقدمة إلى نقد كتاب العدالة، فأدهشني أن يعمد إلى التشويه دون أن يحترم عقول القراء؛ فهو حين يدلل على ضحالة قطب يزعم أنه استشهد بقوله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ليبين أن الإسلام لا يعادي العلم كغيره من الأديان. وهذا غير صحيح؛ إذ أن قطبا يعرض بعض الخصائص الحية في الدين الإسلامي، فيذكر أنه لا يعادي العلم، ولا يكره العلماء، وأنه لا يعتمد على الخوارق والمعجزات، ولا يقوم على الغيبيات في صميمه بل يقوم على المشاهد والتأمل والنظر في الكون. ثم يذكر النصوص الدالة على ذلك من القرآن، ويعقب عليها بقوله: وذلك طبيعي في دين يربط التقوى بالعلم، ويجعل العلم سبيلا إلى معرفة الله وخشيته (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فليت شعري كيف يكون الاستشهاد بالآية بعد ذلك دليلا على أن الإسلام لا يعادي العلماء؟ وأين تكون الضحالة إذن؟ أهي عند الكاتب المظلوم، أم لدى الناقد الممتاز؟
والمثال الثاني الذي استشهد به الناقد في مضمار الضحالة أعجب وأغرب من سابقه! فهو يزعم أن المؤلف يعالج المسائل الكبرى في تاريخ الإسلام ببساطة عجيبة، (حتى ليردها إلى محض الصدفة، ولا يكلف نفسه التغلغل في العوامل الاجتماعية والتيارات النفسية التي تعمل بقوة في مد الإسلام وجزره)، يقول الناقد ذلك، وتنتظر منه أن يدلك على مأخذ هام عرض له فلا تجد غير ما يضحك ويدهش؟ فقد استنفد الأستاذ قطب عشرات الصفحات في إيضاح حقيقة الإسلام في عصر الرسول وخلفائه الراشدين؛ وأسهب في دراسة دعائمه الراسخة في الحرية والعدالة والمساواة، ثم عرض إلى الحكم الأموي فأوضح ما دار على مسرحه من مآس دامية لا ترجع إلى طبيعة الإسلام بل هيأت لها المصادفة التعسة! أجل لقد فعل الأستاذ قطب ذلك وتدرج مع قارئه في التاريخ تدرجا منطقيا، ولكن كلمة المصادفة هذه لا تعجب الناقد، فيغفل جميع ما تقدمها من تمهيد، وما أعقبها من استنتاج ليخرج بدعوى عريضة جوفاء لن تجد من يطمئن إليها في كثير أو قليل!
والمؤلم المدهش أن الأستاذ عز الدين لا يفهم هدف الكتاب المنقود ورسالته فهو يحتم على مؤلفه أن يسهب في شرح البيعة لعلي وأن يفيد من التحليل الرائع الذي كتبه العقاد في عبقرية الإمام، وأنني ستجدني مضطرا أن أنبه الناقد إلى أن كتاب العدالة ليس كتاب تاريخ تراجع فيه مسائل البيعة والخلافة؛ فتذكر فيه مزايا علي كرم الله وجهه ومثالب معاوية الخلقية، ولكنه يحتاج إلى التاريخ بالقدر الذي يسعف بالحجة وينهض بالذليل، فكيف يفرض الناقد على المؤلف أن يندفع إلى استطراد متكلف لا يعنيه.
ويخيل إلى أن الناقد الألمعي لا يعرف شيئا عن الروح الإسلامية التي تغمر العالم الإسلامي الآن، فقد نسى المسلمون قوميتهم الضيقة وجعلوا الإسلام وطنهم الأول، وقامت جمعيات الإخوان المسلمين في شتى عواصم الممالك الإسلامية بمجهودها الناجح في هذا المضمار. والناقد الطلعة يجهل ذلك قطعا، فيتساءل عن الشخصية المصرية في القرنين الأول والثاني من الهجرة وعن الشخصية المصرية الحديثة، وعن الشخصية الهندية أيضاً (كذا)! كأن باكستان لم تشرق شمسها على الآفاق، ثم يتذرع بالمنطق التاريخي الموهوم فيسأل عن سر الحملة التي توهمنا بأننا تنكبنا الإسلام في حياتنا وروحنا نقتبس من هؤلاء وهؤلاء! أي والله، إنها توهمنا فقط أننا تنكبنا الإسلام؟! وإذا كان الناقد لا يعتقد مع الواهمين بأننا تنكبنا الإسلام عدة قرون، فلماذا يتحدث الآن عنه؟
وقد أخذ الأستاذ عز الدين يتحدث عن الصحافية التي تتمثل في جميع مؤلفات قطب، وعن مصادره الثانوية التي لا تصل إلى المراجع الأولى بحال، وأنت تسأل عن المصادر الثانوية هذه، فتجدها تتمثل في الكتب الحديثة مهما بلغت في الدقة والتمحيص! كأن كل مؤلف حديث لا يجوز أن يرجع إليه ألبتة!! وهذا رأي نسمعه لأول مرة، ونكتفي بتسجيله دون التعقيب عليه. فإذا سألت الناقد عن مظاهر الصحافية كما يفهمها وجدتها تتمثل فيما سماه بالأساليب الخطابية، والعبارات الطنانة!! مما لا يصبح في كتاب يستهدف إلى البحث العلمي السليم. وأحب أن ألفت الناقد إلى أن كتاب العدالة - فوق منزلته العلمية - ذو رسالة عملية، فقد ألفه كاتبه ليحدث انقلابا شعوريا عاصفا. وليطر بالنفوس الذليلة إلى آفاق العزة والكرامة في أوج الإسلام، وكتاب كهذا يجب أن يخاطب الوجدان والشعور، ويتغلغل إلى الخواطر والمسارب، وكان في طوق مؤلفه أن ينحو به المنحى العلمي الهادئ، ولكنه مصلح ثائر يحطم السدود، ويقتحم الحواجز. وكتب الثورة جميعها سماوية وبشرية، غربية وشرقية تخاطب العقل والشعور معا، ولا يعيبها أن تتلمس لها النقائص تلمسا، فيقال إن المؤلف يثبت الفكرة قبل أن يبحثها، إذ أن تقديم الفكرة لا يحول دون مناقشتها، ودفع ما يقف أمامها من الشبه المضادة، وإلا فستكون قليلة الجدوى فاقدة التأثير.
وقد عمد الناقد المغرض إلى المغالطة والتضليل فيما لا سبيل إلى دحضه فهو يقول (ولعل من صور اضطراب البحث في يد الكاتب أن تجده يقف بك أمام المشكلة في جوهرها ثم إذا به يحيلك على ما سيأتي حتى إذا مضيت قليلا فقد نسيت المشكلة ونسيت ما كان مفروضا قد يأتي لأنك تدخل في شيء آخر جديد).
يقف المؤلف في ص 19 ليضع هذه المشكلة الجوهرية؟ هل ما يزال في الإسلام عناصر صالحة للتطبيق في العصر الحديث؟ ثم يقول (هذا سؤال في الصميم) ولذلك لن يكون من المستطاع الإجابة الوافية عنه في هذا الموضوع فسنجيب عنه تفصيلا وتطبيقا فيما بعد (حتى إذا بلغت ص (216) وجدت إجابة باهتة)
والحق الذي لا يمتري فيه إنسان أن صحيفة 216 ليست وحدها هي الإجابة المطلوبة، بل إن الكتاب بجميع صفحاته إجابة مقنعة تدور حول هذا السؤال؛ بل من أجله قد كتب المؤلف كتابه من ألفه إلى يائه. ولن أعمد إلى تلخيص مواضيع الكتاب فيطول بي الحديث في غير طائل، ولكني أحيل الناقد إلى الفهرس فقط! وأعلن أسفي لناقد فاضل يعمد إلى هدم كتاب واضح دون أن يفهم مراميه! ولم يستطع الأستاذ عز الدين أن يخفي عن القراء ما تفيض به نفسه من التحامل المغرض والثورة على صاحب الكتاب، فهو يقرر فقدان الأصالة لدى المؤلف في كتابه لشيء واحد؛ هذا الشيء هو أن المؤلف قد نقل عشر صفحات عن أربعة مؤلفات وقد أثبتها متفرقة في مواضع شتى من كتابه، وأسند كل نص إلى قائله ومكانه؟ فيكون استشهاده بهذه النصوص المنقولة المسندة، دليلا قويا على فقدان الأصالة! مع أن صفحات الكتاب تستشرف إلى الثلاثمائة، وكان في طوق كاتبه أن يرجع إلى المصادر القديمة دون أن يشير إلى من نقل عنهم من المحدثين، ودون أن يؤاخذ جزاؤه أن يتهم بفقدان الأصالة، وقلة الابتكار.
لقد أسرف الأستاذ عز الدين إسماعيل في تجنيه دون مبرر يدعوه إلى ذلك، وقد دفعني الإخلاص للحق وحده أن أعقب على حديثه راجيا أن يتعود الإنصاف في آرائه المقبلة.
محمد رجب البيومي