مجلة الرسالة/العدد 1017/الأدب والفن في أسبوع
مجلة الرسالة/العدد 1017/الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
التقيت في ندوة (الشورى) بالسيد عبد القادر المغربي وكيل المجمع العلمي في دمشق وعضو مجمع فؤاد الأول لغة العربية، فقد جاء مصر لحضور دورة المجمع اللغوي، الذي انعقد يوم الاثنين الماضي، وقد لقيت (المغربي) فتيا كأنما هو في الشباب وليس في سن التاسعة والثمانين. . .
كانت ضحكاته وطريقته في الحديث، ونظرته، تنم عن نفس ما تزال شابة فتية، فإذا ذكرنا أنه حضر إلى مصر لأول مرة عام 1905 ليعمل مع الشيخ محمد عبده، ثم اشتغل بالصحافة، وبدأ عمله في (المؤيد) في نفس العام بمقال عنوانه (مصر ومراكش والقاضي شمهورش). . . عجبنا للحيوية التي أفاضها الله على الرجل العلامة. . الذي يحضر إلى مصر بالطائرة. . .
وكالعهد بالذين يزورون ندوة (الشورى)، وكلهم مشردون ومجاهدون ورجال كافحوا الظلم، لقينا السيد عبد القادر المغربي، الذي هاجم الاستبداد في فجر النهضة، ووقف مع شكيب أرسلان وعبد العزيز جاويش يهاجم الملك حسين في جريدة الشق. . في اتجاه نحو انفصال الترك عن العرب.
وقد حدثني السيد المغربي بأنه اضطر بعد هجرته إلى مصر هربا من الظلم والاستبداد، ثم بعد عودته على أثر إعلان الدستور العثماني وخلع عبد الحميد، إلى أن يتحول من الإصلاح الديني إلى الإصلاح اللغوي.
وفي هذا الصدد سمعت السيد بشير الإبراهيمي الزعيم الجزائري يتحدث إليه فيقول أنه كان يلتهم كل ما يكتبه في اللغة، وأنه ترك في الدراسات اللغوية أثرا ضخما، ووصل إلى قمة التقدير حينما قال له: إن السطر من هذه الكتابات يساوي مجلدا. . .
والسيد عبد القادر المغربي هو حفيد البطل المجاهد (درغوس) الذي استشهد في الحرب العثمانية في موقعة (مالطة) ودفن في ليبيا، ويطلق على ضريحه هناك (طرغود رئيس) وقد هاجرت أسرته إلى الشام منذ 250 سنة.
وقد كتب السيد عبد القادر المغربي في مجلة البينات الجزء الأول سنة 1907 فصلا مط عن برنامج الإصلاح الإسلامي، ما يزال حتى اليوم مرجعا للدعاة والعاملين في هذا الحقل.
وقد شهد السيد المغربي خلال حياته الطويلة المباركة، التي نسأل الله أن يمد فيها، حلقات النهضة العربية والإسلامية منذ فجرها على يد جمال الدين الأفغاني حتى الآن، فهو بذلك من أقدر من يؤرخها ويصور زواياها المختلفة، وقد طلبت إليه ذلك غير أنني لقيته معرضا عن هذا الاتجاه.
وقد اكتفى بتلك الرسالة القصيرة التي كتبها عن (جمال الدين الأفغاني). . ونحن باسم المقدرين لأدبه وفكره نعاود الرجاء في أن يكتب تاريخ هذه النهضة بقلمه الرصين، ولا يظن على التاريخ بتسجيل مشاهدات معاصر فقد تفيد كثيرا في كتابة التاريخ. .
اتجاه الريح
أعجبني تصوير الأستاذ (وديع الفلسطيني) للمفكر في هذه الأيام حيث يقول في جريدة الإنذار: (الأديب في مصر محكوم عليه بالفاقة المبرحة حتى يهجر الأدب، والصحفي الشريف في مصر حتم عليه أن يشرب المر حتى يهجر الصحافة.
والمفكر في مصر يبقى دائما هدفا للريبة والشك حتى يتخلى عن تفكيره. والكاتب في مصر يبعث أثاث داره قبل أن يطبع كتابا من كتبه، والشاعر في مصر بائس حتى يترك الشعر، والثقافة في مصر محنة لأن الناس عنها معرضون، فتجارة الكتب إلى بوار، والأدب السمين ليس له طلاب، والناس لا تقرأ إلا قصص الجان، ومغامرات الفرسان، وفضائح الملك السابق، وتخريف المزيفين والهازلين).
وتلك كلمات صادقة، لأنها صادرة من قلب مأزوم. إن الأستاذ وديع صحفي وأديب مثقف، وقد عمل طويلا. . وكان كبير الأمل في أنه يستطيع أن يخدم بلاده عن هذا الطريق، غير أنه أحس بأن عليه أن يتخذ طريقا آخر. ويبدو أنه مع الأسف الموجع قد ودع الصحافة والدب بعد أن شعر بأنهما لا يكرمان المجاهد العامل إلى العمل في الميدان الاقتصادي. . .
تحول في الاتجاه العام
الأستاذ إبراهيم المصري كتب موفق، وهو أستاذنا منذ كان يكتب في الصحيفة الأدبية في البلاغ عام 1930، وأذكر أنه أرسل إلي ذات مرة وكنت في الريف يطلب إلي أن أرسل باسمه كلما أراد نشره في البلاغ.
وفي مقاله الأسبوعي في أخبار اليوم هذا الأسبوع عبارات قوية، تصور مدى التحول الذي وصلنا إليه أخيرا بعد أن اجتزنا فترة الانتقال الطويلة المريرة.
وخلاصة ما يقول الأستاذ إبراهيم المصري:
أولا: أن التعصب الثقافي قد استفحل في نفوسنا إلى حد أن أصبح تحقيق التفاهم بين عناصرنا المثقفة أمرا عسيرا شاقا.
ثانيا: تضاربت الميول والأهواء بين من تلقوا العلم في إنجلترا أو فرنسا أو أمريكا.
ثالثا: علينا أن نجعل ثقافتنا عالمية، فنقدس الفكر نفسه، لا الفكر الممثل في ثقافة معينة، وأن نقدس الفكر الحر لا الفكر المقيد بوجهات نظر خاصة.
رابعا: الأخذ بثقافة معينة ضرب من العبودية الفكرية سرعان ما تنتهي إلى عبودية سياسية واقتصادية.
خامسا: علينا أن ننهل من شتى ثقافات العالم، وعلينا أن ندرك أن ثقافة الهند والصين لا تقل عن ثقافة الفرنسيين والإنجليز.
وهذا الذي يصوره الأستاذ إبراهيم المصري هو لا شك (نقطة التحول) في ثقافتنا الحديثة في الشرق، فقد انتهى الزمن الذي كنا نؤمن فيه بالثقافة الغربية، أو الحضارة الغربية على أنها شيء مقدس. ولقد دب الشك في قلوب القوامين على هذه الحضارة أنفسهم، فلم يعد بد من أن نتحرر ونتحرز، ونستخلص ونوازن، وألا نتعصب لها، وأن نأخذ منها ما يزيد كياننا الشرقي قوة ويدفعنا إلى الأمام، ونحن متحررين، لا مقيدون.
الأدب السوري في طريق النهضة
تحدث الأستاذ سامي الكيالي صاحب مجلة الحديث الحلبية في الإذاعة المصرية عن الحركة الفكرية في سوريا فقال: إن ما نشر حتى الآن من الإنتاج السوري قليل بالنسبة لما في خزانات الكتب. وأضاف بأن المجمع العربي، والمعهد الفرنسي للدراسات قد قاما بطبع عشرات الكتب الأدبية والتاريخية وبعض دواوين الشعر والمؤلفات المترجمة في شتى الميادين من الأدب والتاريخ، وأشار إلى أنه إذا كان الجانب الأدبي أغلب على الأدب كمرجع ذلك إلى (أننا لا نزال في بدء حركتنا الفكرية ولأنه ألصق بالنفس من سائر فروع العلم).
وعندما تناول أثر النزعات الأدبية الغربية في الاتجاهات الحديثة في الأدب العربي السوري قال (لا نكران أن سوريا بعد أن ظلت في غيبوبة تحت حكم العثمانيين قد استيقظت على ماضيها وهو ماض ملئ بالأمجاد، وهي حريصة على ذلك التراث الضخم، وراغبة أن تظل وثيقة الاتصال به وأن تستلهمه في كثير من منازعها).
ثم أضاف قوله (وإن ذلك لم يمنعها من أن تلتفت إلى الغرب وأن تأخذ عنه وأن تسير مسرعة الخطى في ركابه).
وقال الأستاذ الكيالي (إن سوريا مأخوذة بحضارة القرن العشرين، الحضارة التي ابتدعتها أوربا وصقلتها أمريكا، وهي تعيش في ظل ما ابتدعته، تقرأ أدب الغرب وعلمه وفلسفته، وتقتبس منه، وتتهذب بشتى مذاهبه، ولكن الحضارة الغربية التي كانت تنزل منزلة القداسة من نفس السوري قد تزلزل إيمانه بها أو كاد، وأخذ يفك بقيمتها الروحية بعد ما شاهده من هدر الكثير من المبادئ والمثل العليا.
وأضاف قوله (أن الأدباء السوريين يجارون مفكري الغرب في مناهجهم، ويقبسون من عملمهم، وفنهم، ولكنهم يحذرون كل الحذر من أن ينصهروا في البوتقه الغربية، وهم إذ يعالجون القضايا، يعالجونها بروح إيجابية حذرة مشدودة إلى الماضي الذي أبدع الحضارة العربية.
(وهم من تطلعهم إلى المستقبل لا يقطعون صلتهم بالماضي، بل لهم من الماضي هذا الحافز القوي، ممثلا في صور أولئك المغامرين الذين فتحوا الدنيا القديمة).
وأشار الأستاذ الكيالي إلى ظاهرة واضحة في الحركة الفكرية في سوريا وهي أنه لم تبدأ بعد المرحلة التي يستطيع فيها الأدب السوري أن يعطى كما يأخذ، وأن إنتاج سوريا الأدبي لم يصدر بعد إلى الخارج ولم يترجم إلى لغة أجنبية؛ ذلك لأنه - في رأي الأستاذ الكيالي - لا يزال ضعيفا.
وختم حديثه بقوله. . . (إن الأدب السوري اليوم ينفض عن نفسه غبار السنين ويسير سيرا وئيدا، ولا عليه أن يتعجل الزمن، ولكن المهم أن يتسم بطابع الخلود. . . ولن يطول الزمن قبل أن يعطي أعظم الثمرات).
هذه خطوة سريعة لمحاضرة الأستاذ الكيالي، ونحن نرى أن الأستاذ كان متواضعا غاية التواضع، فالأدب السوري بعيد الجذور في تربت الأدب العربي الحديث، هذا الأدب الذي بدأ في المهجر على يد جبران والريحاني ونعيمه وغيرهم. . . ثم مد جناحيه على سوريا ولبنان في صور أولئك الكتاب النابهين الذين نقرأ لهم أمثال كرم ملحم وألبير أديب وسامي الكيالي ومروان عبود. وغيرهم وغيرهم.
أمين الرافعي
يصادف موعد صدور الرسالة اليوم (29 ديسمبر) ذكرى (أمين الرافعي) فحق على الرسالة أن تحيي هذا الكاتب العظيم الذي توفى في هذا اليوم سنة 1927 وترك من ورائه ذكرا يعبق بالعطر المقدس، ويرسم صورة للبطولة المثالية في ميدان الأدب والفكر والصحافة والسياسة.
ولسنا الآن بصدد الحديث عن شمائل هذا الرجل العظيم، الذي عاش مؤمنا بفكرته، مجاهدا لها، في وقت كانت سحب الظلام تغمر كل مكان. . ولكننا نرجو في هذه المناسبة أن يتفضل شقيقه الأستاذ عبد الرحمن الرافعي فيتيح لنا الفرصة للقيام بواجب الذكرى نحو الكاتب الكبير، فهو وحده صاحب المفتاح الأول في تخليد ذكرى شقيقه.
رسالة الكاتبة مليحة
وصلتني في اللحظات الأخيرة، رسالة مطولة من الكاتبة العراقية النابغة (مليحة). . . تتحدث فيها عن الأدب النسوي وتعارض رأي الكاتبة المصرية (ليلى مسلم). . . وأرجو أن أفصل القول في الموضوعات التي عرضت لها كاتبة الرافدين في العدد القادم. . .
أنور الجندي