مجلة الرسالة/العدد 1021/فِي عَالِم الكُتُبْ: نَقْدٌ وَتَعرِيفٌ

مجلة الرسالة - العدد 1021
فِي عَالِم الكُتُبْ: نَقْدٌ وَتَعرِيفٌ
ملاحظات: بتاريخ: 26 - 01 - 1953



عبقرية المسيح

تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد

للأستاذ نقولا حداد

من يطالع هذا الكتاب للأستاذ العقاد يظن أن مؤلفه إكليربكي لاهوتي فيلسوف في اللاهوت المسيحي النظري.

بحث في أساس اللاهوت المسيحي بحثا شاملاً جامعاً لتاريخ النصرانية وما اكتنفها من النبوءات وما سبقها من الحوادث كما وردت أخبارها في الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) وفي نعض الكتب التاريخية وما توالى على اليهودية من عقائد وطوائف وديانات وما صاحبها من معتقدات أمم أخرى واصطدمت بها أو لامستها.

وأنا (أنا خصوصاً) لا أدري لماذا يجب أن يسبق المسيح أو محمدا نبوءات تنبه الناس إلى مجيئهما وتؤيد رسالة كل منهما ألا يكفي أن يظهر عيسى ومحمدا في الوجود الإنساني وأن يسلكا السلوك الذي علمناه، وأن تعلن تعاليمهما وتؤيد بأعمالهما حتى نقول هذا مسيح الله وهذا نبي الله؟ أما تكفي حياتهما وتعاليمهما شهادة لهما؟.

ولكن هكذا ألف الناس منذ القديم أن تكون حوادث العالم الدينية متعاقبة يرشح بعضها بعضا حتى لا يكون فيها لبس لا غش ولا تعمل ولا دعاو باطلة.

في كتاب عبقرية المسيح فصول عن الحالة الدينية في العالم والحالة في عصر الميلاد المسيحي. وفي تاريخ الميلاد من الحقائق التاريخية مالا نراه في الكتاب المقدس لا التوراة ولا الإنجيل. وهناك كثير من الأخبار ما لم يذكر الأستاذ مصادرها أو إسنادها وكنا نود أن لا يغفل هذا الواجب لكي يتأكد القارئ أن المؤلف حقق ودقق بعد أن درس وتعمق. فيكون ذلك أكفل لتقدير قيمة عمله وتنويرا للقارئ المحقق للمراجعة واستزادة من التحقيق والتوسع في المعرفة.

ثم استرسل الأستاذ في تفكيره اللاهوتي في فصول: (الصور الوصفية) و (الدعوة) و (اختيار القبلة) و (تجارب الدعوة) و (الشريعة) بحيث تعطي الكتاب القيمة التي تستحق أ تنسب للعقاد وتكون في طبيعة دراساته.

ثم توغل في شريعة الحب حتى أراك أن الناموس أو شريعة الناموس تعتبر ناقصة إذا لم تكن شريعة الحب التي هي محور سلوك المسيح وتعاليمه؛ وهي بيت للقصيدة في حياته كلها (بهذه الشريعة شريعة الحب (والمحبة) نقض المسيح كل حرف من حروف شريعة الأشكال والظواهر).

وفي الفصول الأخرى ترى أن العقاد لم يعبأ بالعجائب ولا بأخبار المسيح في مدة وجوده بين العالم ثلاث سنين، بل اقتصر على زبدة تعاليم المسيح التي صار بها يسوع بن مريم مسيحا.

وقد أحسن الأستاذ صنعا في إغفال تلك العجائب التي يظن بعض الناس أنها كانت الوسيلة الوحيدة لانتشار الدين المسيحي. وهذا الظن هو الضلالة التي يكرهها المسيح. ولما طلبوامنه آية من السماء قال: إذا كان إبراهيم ويعقوب وغيرهما من الآباء لم يقنعوكم فلا تقنعكم الآيات.

والحقيقة أن المسيح لم يأت إلى الأرض لكي يقيم عازر من القبر، ولا لكي يحول الماء إلى خمر، ولا لكي يمشي على الماء، ولا لكي يفتح عيون العميان، ولا لكي يقيم المقعدين، ولا ولا؛ وإنما جاء لكي يقول ثلاث كلمات: أحبوا أعداءكم. باركوا لأعنيكم. أحسنوا إلى من أساء إليكم. من لطمك على خدك الأيمن فحول له الأيسر إلى آخره. وبهذه الكلمات يسير الآن وراءه ألف مليون نسمة على الأرض وأن كان معظم هؤلاء أو جلهم لا يفعلون ما قاله المسيح ولا يفهمون ما يعنيه؛ فهم ضعيفو الإيمان ومنهم من لا إيمان لهم وإنما هم يفخرون بانتمائهم إلى صاحب هذه الشريعة شريعة الحب والتسامح وأكثرهم لا يؤمنون بغير الدولار والدينار.

وأما قول بعض الناس إن المسيح يطلب من الطبيعة البشرية مالا تستطيعه؛ لأنك لا تجد واحداً في الألف يحول لك الخد اليسر إذا لطمته على الخد الأيمن، ولا من يحب عدوه، ولا من بارك لأعنيه، فإن من الحق أن هذا القول صعب على الطبيعة البشرية ولكنه ليس مستحيلا عليها، والمسيح نفسه عمل بهذه النظرية التي ظنوا أنها مستحيلة.

فقد كان يقول وهم يبصقون عليه ويطعنونه بحربة: (يا رب اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ما يفعلون) ولم يثقل هذا على طبعه. وإذا كان كل واحد يفكر أن المسامحة تكسر الشر فيعد حين لا مود نرى أحداً ضرب على خد، القول: (لا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع باتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).

فرضية المسيح بالتساهل والتسامح ليست فوق الطبع البشري بل هي تحت البشري وفي وسع كل إنسان أن يطبقها إذا أراد. وإذا كان الناس يتربون على هذه الوصية ويتعودونها يستسهلونها.

أعود فأقول إن المسيح لم يأت إلى الأرض لكي يعمل العجائب والخوارق وإنما جاء لكي يعلم الناس التساهل والتسامح والمغفرة، على نية أن العالم إذا سار كله على هذه السنة صار كله أمة واحدة وشعباً واحداً أو أسرة واحدة تتعاطف ويحب بعضها وتنتفي الشرور من بين أفرادها.

المسيح لم يأت لليهود وحدهم بل أتى لكل العالم بهذا المبدأ. وأظنه أول فيلسوف ظهر على الأرض بهذا التعليم. وكان قصده أن العالم كله يعتنقه بدليل أنه جمع تلاميذه وقال لهم: اذهبوا إلى جميع الأمم وتلمذوهم وعلموهم أن يحفظا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى أن ينتهي الدهر. وهو يعني أن رسالته هذه يجب أن تعمم كل الكون لعلها أن تكون الوسيلة الناجعة لانتشار السلام على الأرض.

فالمسيح لم يأت لأجل سلام اليهود وسلاستهم فقط بل أتى لأجل سلام كل العالم. وكان قصده أن يكون كل العالم أخوة. هذا ما عناه المسيح حين قال: احبوا أعداءكم، بدليل أنه لما اجتمع بتلاميذه قال لهم أذهبوا إلى جميع الأمم (لا إلى اليهود فقط) وتلمذوهم الخ. . على أمل أن تتطبع الأمم كلها بطبيعة السلام والمحبة والمسامحة فيسود السلام جميع الأمم.

هذه كانت رسالة المسيح على الأرض. ولكن اليهود في كل تاريخهم كانوا يقاسون من غزوات البابليين والآشوريين والفرس والرومان. وغيرهم فكانوا يتوقعون أن يظهر من بينهم ملك يقودهم للدفاع عن بلادهم ويخلصهم من هؤلاء الأعداء فكانوا يحتاجون إلى منقذ مثل موسى أو يسوع، فلما وجدوا أن يسوع هذا الذي شرع يعلمهم التعاليم المفيدة لهم اجتماعيا قالوا: لا. لا. ليس هذا هو الملك الذي ننتظره. ليس هذا هو القائد المنقذ هذا رجل أفاك. وصار الكهنة وجميع رجال الدين يرون أن تعاليمه هذه تحط من نفوذهم وتكسر شوكة غطرستهم وتزعزع سلطتهم فجعلوا يطلبون رأسه. وما أسهل أن يوغروا صدر بيلاطوس الوالي الروماني عليه بحجة أنه يدعي أنه ملك اليهود وهم يعترفون بملك أجنبي غير قيصر.

ولما مثل المسيح لدى بيلاطوس سأله هذا: هل أنت ملك اليهود؟ فأجابه: (أنت قلت؛ ولكن مملكتي ليست من هذا العالم) وهو يعني أنها ليست أجساداً بل هي أرواح تفهم وتعمل في أجساد الحق والعدل والصدق والتقوى.

ولطالما كان اليهود يحاولون أن يأخذوا عليه مأخذ ضد الشريعة لكي يشكوه للوالي فجاءوا غليه بزانية وقالوا (هذه ارتكبت جريمة الزنى، وفي شريعة موسى ترجم بالحجارة فماذا تقول أنت؟).

فما لبث أن قال بكل جرأة: (من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر).

وماذا كانت النتيجة: كانت أنهم جعلوا يخرجون من المجتمع واحدا بعد الآخر ولم يوجد بينهم من يجرؤ أن يعترض على حكم المسيح لا لأنه أثر عليهم بتصرفه تأثيرا عجيبا، بل لأنهم وجدوا أنهم ضعفاء جدا لدى مبينه وحجته فخافوا أن يبطشوا بع بل جعلت ضمائرهم تبكهم بفعل كلمته فصاروا يخرجون واحداً واحداً.

ثم التفت إلى الوانية وسألها: أين الذين شكوك؟ أما دانك أحد؟ قالت: لا. قال ولا أنا أدينك. أذهبي ولا تخطئ بعد. من ذلك الحين تابت مريم المجدلية الزانية وصارت قديسة.

كان لمنظره في مثل هذه المواقف سطوة أو صولة أو هيبة ليست لزعيم ولا لقائد ولا لحاكم. ففي ذات يوم جاء إلى الهيكل ورأى أدناس الناس فيه: صيارفة وتجارة حمام وتجار حيوانات إلى آخره، فجعل يقلب موائد الصيارفة وأقفاص الحمام وهو يقول: تباً لكم أيها الشرار! جعلتم بيت الله مغارة لصوص. فلم يجسر أحد أن يصده أو أن يقاومه أو أن يشاجره بل جعلوا يخرجون من الهيكل قانعين بالسلامة.

لم يشر الأستاذ العقاد إلى كيفية انتهاء حياة المسيح، ولكنه اقتنع مثلي أن سلوك المسيح الذي أشرنا إليه هو بيت القصيدة في حياته. وقد جاء وعلم وعمل ومضى ولا يزال إلى اليوم مثلاً للأمم وسيبقى هكذا عدة قرون.

وفي ضني أن الإسلام إنما هو استمرار للمسيحية؛ ولذلك كانت حياة محمد وتعاليمه موافقة كل الموافقة لحياة المسيح وتعاليمه المحبة والتواضع والمسامحة والدعوة إلى السلام. حبذا أن يفهم الناس أن سلامتهم ونجاحهم وسلامهم يتوقف على قدر ما يطيعون من تعاليم هذين المصلحين.

نقولا الحداد