مجلة الرسالة/العدد 1023/في عالم الكتب: نقد وتعريف

مجلة الرسالة/العدد 1023/في عالم الكتب: نقد وتعريف

مجلة الرسالة - العدد 1023
في عالم الكتب: نقد وتعريف
ملاحظات: بتاريخ: 09 - 02 - 1953



ضرب الكليم

ديوان شعر لشاعر الشرق والإسلام الدكتور محمد إقبال رحمه

الله

تعريب الدكتور عبد الوهاب عزام

للأستاذ مسعود الندوي

بين يدي الآن، ديوان (ضرب الكليم) الذي قام بتعريبه الأديب الألمعي والشاعر المفلق، صديقنا الأجل الدكتور عبد الوهاب عزام، أتصفح أوراقه وأسرح النظر في مرعاه؛ والذاكرة تستعيد بيت (إقبال) الذي شكا فيه عدم انتشار شعره بين الناطقين بالضاد:

لو أن من به عجم آتش كني أفروخت ... عرب زنغمة شوقم بنوزبي خبراست

(لقد أذكى شعري الجذوة الخامدة في بلاد العجم؛ لكن العرب لا تزال تجهل ما أبثه من تباريح الشوق والوجد) قال ذلك (إقبال) قبل نيف وعشرين سنة، حينما كانت مصر والأقطار العربية مفتتنة بأدب (تاغور) وشعره، ولا تكاد تلتفت إلى شعر (إقبال) وحكمته الخالدة المستفيضة من معين الكتاب والسنة، لما استولى عليها يومئذ من نزعات الوطنية المتطرفة. ولو عاش شاعرنا إلى هذا اليوم، لشاهد بعينيه أنه قد تبدلت الأرض غير الأرض، وقد هب القوم يستعيدون مجدهم العربي ويحلمون باسترداد عزهم الإسلامي الخالد، وذلك بفضل دعوة (الأخوان المسلمين) ورجالها العاملين المخلصين الذين حطموا قيود الفرعونية وفكوا أغلال الإقليمية والعنصرية وقاموا في الأمة ينادون باسم الإسلام، يحيون له ويموتون في سبيله. وهذا ما كان يدعوا إليه (محمد إقبال) الشاعر الحكيم بشعره الرصين البليغ الممتلئ حكمة وإيماناً. فما أحسن هذه الفرصة وما أوفق هذه الظروف الملائمة لترجمة (شعر إقبال) وعرضه على قراء العربية.

ومن أجل هذا وذاك كان سرورنا عظيماً إذ تصدى صديقنا النابغة الدكتور عبد الوهاب عزام لهذا العمل الجليل؛ ولعمري هو خير من كان يمكن أن يقوم بهذا الواجب الخط باكستان والبلاد العربية كلها، إذ لا يتأتى لكاتب أو شاعر باكستاني أن يفزع إلى شعر إقبال البليغ في قالب من العربية فصيح تبقى عليه مسحة من بلاغة (إقبال) وروائه: وقد جرب ذلك كاتب هذه السطور غير مرة فلم يكتب له النجاح. وكذلك لا يوجد في أدباء العرب وشعرائهم - فيما أعرف - من يعرف اللغات التركية والفارسية والإنكليزية حق المعرفة، وله اطلاع لا بأس به على الأدب الأردي، مثل الدكتور عبد الوهاب عزام. فإنه أحاط بمؤهلات الموضوع من جميع أطرافها. أقول في أدباء العرب وشعرائهم، وذلك بعد تتبع الأدب العربي الحديث منذ خمس وعشرين سنة. وجملة القول أن الدكتور عبد الوهاب هو خير من كان يمكن أن يعنى بتعريب شعر لإقبال ودواوينه بالفارسية والأردية. ومن حسن حظنا وحسن حظ الأدب والعلم أن انتدب لتمثيل أرض الكنانة في بلاد (باكستان) فلم تحظ بلادنا في الست سنين الماضية من استقلالها بسفير أو ممثل سياسي وافق طبيعة الباكستانيين وأذواقهم مثل الدكتور عزام، غير الأستاذ الأديب عمر بهاء الأميري وزير سوريا المفوض سابقاً، فإنه أيضاً استأنس به أهل هذه البلاد كما يستأنس أخ بأخيه، وذلك لحميته الدينية ونشاطه المحمود في حقول الأدب والاجتماع.

وبعد، فقد جلست الآن أمام منضدتي لكتابة كلمة أعرف بها ترجمة (ضرب الكليم) العربية إلى القراء وأنوه بالنجاح الباهر الذي أحرزه العرب في هذا المجهود الأدبي المشكور، لكن الحديث ذو شجون والقلم قد اشتطت به الأفكار، فمعذرة إلى القراء.

هذا الديوان يحتوي على 130 صفحة من القطع المتوسط (علاوة على المقدمة وكلمة التعريف). وفي أولها مقدمة (ومدخل) للمعرب بين فيه منهاجه في التعريب وعرف بفلسفة (إقبال) والقطب الذي تدور عليه رحى كلامه، حتى يسهل للقارئ، التفطن إلى دقائق تعاليمه وحكمه. وأيضاً شكر المعرب في المقدمة الذين ساعدوه على فهم شعر (إقبال) من أصدقائه في (كراتشي) عاصمة باكستان. ثم تتلوها كلمة لكاتب من كتاب باكستان ليشرح بها فلسفة (إقبال) وتعاليمه. والكلمة في الأصل مكتوبة بالأردية، عني بتعريبها أو بتعريب (الجزء الأكبر منها) صديقنا الدكتور السيد محمد يوسف الهندي، نزيل القاهرة - ولكني لم أجد مسوغاً لتحلية جيد هذه الحسناء بهذه القلادة الشوهاء - وكان من الميسور أن يجد المعرب في العاصمة رجالاً لهم معرفة دقيقة بفلسفة (إقبال) ويقدرون إن يشرحوها أحسن شرح بالعربية نفسها.

وهذا الديوان لباب تعاليم (إقبال) وحكمته، جادت به قريحته، وهو في المرحلة الأخيرة من مراحل حياته، وقد نضجت أفكاره وبلغت حكمته وفلسفته قمة العلو والكمال، إلى أن جعل ينشرها درراً منظومة وغير منظومة. فقد سمى هذا الشعر المبثوث في هذا الديوان (ضرب الكليم) أو إعلان الحرب على العصر الحاضر. ومن أجل ذلك، يعد هذا الديوان خير شيء لمن أراد الاطلاع على فكرة (إقبال) ونظريته في الحياة ومشاكلها ومسائلها المتنوعة المتشعبة.

أما هل نجح المعرب في إبراز محاسن شعر إقبال في حلة قشيبة من لغة الضاد، حتى يتأثر بها قراء العربية والناطقون بها، فهذا سؤال يصعب الجواب عليه بسهولة. فإن الترجمة - مهما أوتي المترجم من قوة الأداء وملكة البيان - قد تذهب في أكثر الأحيان برواء الأصل وبهائه في الشعر. والذي يقدر على أن يبقى على طلاوة الأصل وما له من تأثير بعد الترجمة، فلا شك أنه ممن بلغ قمة الإعجاز وارتفع فوق المستوى البشري المعتاد في الأداء وقوة البيان. هذا في الشعر. أما في النثر، فله شأن آخر، وفيه متسع للقول. وإذا نظرنا من هذه الوجهة إلى ديوان (ضرب الكليم) المعرب، رأينا أن المعرب قد نجح في مسعاه وأدى إلى قراء العربية معاني شعر (إقبال) السامية بدقة وبأمانة وبأسلوب عربي نقي، قلما نظفر بمثله عند جمهرة الكتاب. وذلك أقصى ما يقدر عليه كاتب وشاعر مهما كان من قدرته البيانية ولكته الأدبية. والمعرب الفاضل يستحق أجمل الثناء وأسنى كلمات الشكر من جميع المولعين بإقبال والمفتتنين بشعره.

والكتاب مطبوع طبعاً أنيقاً على ورق جيد، عنيت بنشره جماعة الأزهر للنشر والتأليف، إلا أننا ما رأينا وجهاً لإدخال أداة التعريف على (باكستان) في (سفير مصر لدى الباكستان) فإنه خطأ شائع، ينبغي تجنبه. والدكتور عزام قد استعمل الكلمة (باكستان) مجردة عن لام التعريف في المقدمة مراراً فلعل هذه الزيادة ممن تولى الطبع والنشر. وعلى كل، فلجماعة الأزهر للنشر والتأليف، شكري وتقديري وتحياتي.

مسعود الندوي

شاعر الشعب تأليف الدكتور سامي الدهان

للسيدة وداد سكاكيني

تقتدي بعض دور النشر في مصر والبلاد العربية بما تصنع أمثالها في الغرب فإن ناشري الكتب يدأبون على إصدار سلاسل شهرية أو أسبوعية تشتمل على كل شائق وطريف يتعلق بالفكر والثقافة، فلما ظهرت سلسلة (اقرأ) ذكرت من فوري سلسلة (لو) الفرنسية، وقد استبشرنا الخير بظهور سلسلتنا العربية وفرحنا بالحلقات الذهبية التي ضمتها إذ شعت نوراً وجمالاً، ثم لم نلبث أن رأينا فيها حلقات من معادن لا يجوز أن تسلك مع الذهب في نظام واحد، فما كان في الدهر عقد ذهبي يجمع حلقات من نحاس أو قصدير.

فمن هذه الحلقات كتاب (شاعر الشعب) لمؤلفه الدكتور سامي الدهان؛ تناولته وأنا أحسبه دراسة أدبية مبسطة أو بحثاً مقرباً، وإذا به موضوع لا يرقى إلى الموضوعات المدرسية المنظمة، وقد سماه المؤلف شاعر الشعب ليستهوي الجمهور ببراعة العنوان دون أن يدل على المقصود، فمن هو شاعر الشعب؟ وأي شعب أراد المؤلف في ظاهر الكتاب؟

أما باطنه فهو يعنى بالكلام عن شاعر النيل حافظ إبراهيم الذي ملأ صيته الشرق، وليس بحاجة إلى دراسة خفيفة أو بحث مرتجل، فرجل الشارع بمصر والبلاد العربية سمع بحافظ إبراهيم، فما بالك بالمتعلمين والمثقفين؟ وإنما يعوز حافظ إبراهيم اليوم أن يتصدى لدراسته من يستطيع تحليل شعره وعصره وبحث حياته ووطنيته من شتى نواحيها متعمقاً فيها، مستغرقاً أطرافها وخوافيها.

ويبدو أن المؤلف الفاضل آثر الراحة ورضى الجمهور والناشر فقد بات أكثر أدبنا بضاعة مزجاة خاضعة لقانون العرض والطلب في عالم الاقتصاد، فلملم الدكتور الدهان أصول كتابه وفصوله من ديوان حافظ إبراهيم الذي نشرته وزارة المعارف المصرية سنة 1937 وشارك في جمع شعره وشرحه وتنسيقه الأساتذة الثقات أحمد أمين وإبراهيم الأبياري والمرحوم زين.

وقد كتب المقدمة الشاملة العالم البحاثة أحمد أمين فكان من أغرب ما صنع المؤلف أن أهمل ذكر هذا المصدر الفياض الذي استقى منه آمناً مطمئناً غير حاسب أي حساب للمطلعين المتتبعين، وكان يهون الأمر لو أن هذا المصدر لغابرين مغمورين، لكنه لمعاصرين مشهورين، وكانت أمانة العلم تقتضيه ألا يغفل ذكر كاتب المقدمة الذي كفاه عناء البحث والتنقيب.

وفي هذا المؤلف الصغير ناقض الدكتور الدهان نفسه كثيراً، فمرة يقول في أمر إيجاباً ثم يقول في هذا الأمر سلباً ونفياً، فمن أمثال هذا قوله إن حافظاً لم يتلق ثقافة عميقة واسعة ولا دراسة منظمة ثم يشيد في مكان آخر بوعي حافظ ومعرفته منساقاً مع المعجبين بثقافته، فيقول (ولا يخطئ الدارس حين يرى في مجلس الإمام، مدرسة عالية أو جامعة ثقافية يتخرج فيها الطالب كما يتخرج في الجامعة سواء بسواء. ولا حرج إذا وجدنا في صلة حافظ بهذه الدروس والمجالس صلة الطالب بالجامعة فقد أخذ بها حافظ وعب من منابعها فكان في دار الإمام يتلقى اللغة والحكمة ويقرأ الشرح في المنار ويتمرس بالشعر والوطنية).

ثم يسرد المؤلف أقوال صحب حافظ من أمثال البشري وبركات ومطران والعقاد وطه حسين حتى يملأ صفحات كتابه من هذه الأقوال دون تحليل لها أو تعليل لما جاء فيها. والأصل في الاستشهاد بالدراسات الأدبية أن يستنبط منه الباحث الحكم والدليل، ولكن الدكتور الدهان روى الأقوال ونقلها ليزيد في عدد الصفحات.

ومن التناقض في الحقائق التي سردها المؤلف قوله إن حافظاً أجاد شعره في شبابه ونظم أحسن قصيدة وهو في الرابعة والعشرين؛ ثم ذكر بعد صفحتين (هذا بعض شعره وقد جاوز الخامسة والعشرين طبعه بطابع القدماء وليس فيه إلا تهويل وتزويق، ولا براعة تشع منه ولا اختراع).

ومرة يجد المؤلف مجال القول ذا سعة في الكلام على حافظ من ناحية معينة ومرة لا يتجاوز الصفحتين حيث ينبغي التفصيل والتعليل، وذلك حسب نطاق الاقتباس واختصار الأصل، والظاهر أن المؤلف الفاضل كان في كلتا الحالين من حكمه وكلامه خاضعاً لسياق نفسي واختيار متخطف عابر.

وإن أدب قال فلان وروى عن فلان من غير دليل أو تحليل قد فات أوانه إذ كان من بضاعة المرحلة الفائتة في أدبنا المعاصر.

وكنا ننتظر من الأستاذ الفاضل الدكتور سامي الدهان أن يتحفنا ببحث شائق عن حافظ في سورية ولبنان، فقصيدته الرائعة التي قال فيها:

حيا ربوع الحيا أرباع لبنان ... وطالع اليمن بالشام حياني

حافلة بصور المودة والعروبة ومباهج الطبيعة والجمال، وهي جديرة بالدرس والمقارنة، وفيها قال حافظ:

وقد وقفت على الستين أسألها ... أسوفت أم أعدت حر أكفاني

وقد اتفق أن كانت نهاية الشاعر بعد هذه الوقفة بشهور. على أن هذه الوقفة الشاعرة الملهمة كان جديراً بالمؤلف أن يستغلها لو مر بها، فإنها تصلح لانبثاق مسارح العاطفة من شاعر خالد اتفق له أن تنبأ بموته وصدقت نبوءته. لقد سبق المتنبي حافظاً إلى مثل هذه النبوءة المحققة حين فارق فارس فقال قبيل فراقها:

وأنى شئت يا طرقي فكوني ... أذاة أو نجاة أو هلاكا

ومن عجب أن يقول المؤلف: (إن حافظاً لم يحس بالطبيعة ولم يحدثها أو تحدثه، وكأنها لم تنقش في ذهنه إلا كما ينقش الأزميل في الماء أو القلم في الصحراء) وقد فاتته القصائد الوصفية التي نشرت في ديوانه الأخير من ص205 إلى ص239 وفيها مقطوعات وأبيات في وصف الطبيعة بين السماء والأرض، وما يزال في خاطري من عهد الدراسة قصيدة حافظ في وصف الشمس، وهل الشمس إلا أم الطبيعة ومحور الكون؟ وقد وصف شاعر النيل الزلازل والبراكين، وصور البحر وخفوق الرياح أروع تصوير، ولم يترك جنان الربيع ولا منازل الجزيرة في وطنه الجميل.

ولا ينبغي أن يغيب عن كفتي ميزاننا الأدبي الحديث أن حافظاً وشوقياً والبارودي وصبري قبلهما لم يعنوا بوحدة الموضوع كما نطالب بها اليوم شعرائنا، ولروح الشعر العربي طبيعة تختلف عن طبائع الشعر الغربي إذ أن شعرنا لا يخلوا من التنوع واختلاف الصور فيه على الرغم من كل تجديد.

وثمة كلمة نابية جاءت ص3 ذكرها المؤلف وهو يتحدث عن حافظ وشعره فقال (ظل يهذي حتى قال الشعر) وما كان حافظ مهذاراً في شعره ولا هاذياً، وإن النكتة التي شاعت في أحاديثه الخاصة لم تكن لتذهب من وقاره وقدره. ولعل المؤلف أراد أن يقول: حاول حافظ الشعر أو غرزم فيه حتى تمرس به.

وبعد فإن كتاب (شاعر الشعب) مثل الدراسات الخفيفة العابرة وما كانت منتظرة وهي على هذه الصورة من مؤلف ولا ناشر، على أن لمؤلف هذا الأثر الأخير آثاراً قيمة تشهد له بالبراعة والاقتدار.

وداد سكاكيني