مجلة الرسالة/العدد 103/القاضي النسوي

مجلة الرسالة/العدد 103/القاضي النسوي

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 06 - 1935



للأستاذ قدري حافظ طوقان

ما أكثر الذين لم يوفّهم التاريخ حقّهم من البحث والتنقيب وقد أحاط بهم الغموض والإبهام وراحوا ضحية الإهمال فلا ترى لهم اسماً في الكتب التاريخية ولا ذكراً في معاجم الأعلام والعلماء! من هؤلاء الذين كاد يطغى عليهم النسيان أبو الحسن علي أحمد النسوي، فهو من رياضي القرن الخامس للهجرة من بلدة نسا بخرا سان، لم يكتب عنه إلا ما لا يشفي غلة المنقب، وقد أهملته المصادر إهمالاً معيباً، وإذا أطلعت على تاريخ الرياضيات (لسمث) وجدت عنه نبذة لا تتجاوز عشرة كلمات، وهي أن النسوي ألف في الحساب الهندي وشرح بعض المؤلفات لأرشميدس؛ وتجد أيضاً في كتاب آخر يبحث في الأرقام الهندية العربية تأليف سمث وكاربنسكي: إن النسوي من الذين استعملوا كلمة الهندي لتدل على الحساب في القرن الحادي عشر قبل الميلاد. وأما كتاب الآثار الباقية فيقول عن النسوي إنه لم يتمكّن من العثور على شيء عن حياته، ومع ذلك فقد استطاع أن يكتب عنه بصورة أوسع من غيره من المؤلفين معتمداً في ذلك مقدمة كتاب المقنع لصاحب الترجمة. ومن هذه الترجمة يفهم إن النسوي ينتسب لمجد الدولة بن فخر الدولة حاكم العراق الفارسي. ويقال إن مجد الدولة هذا طلب من النسوي أن يؤلّف له كتاباً في اللغة الفارسية يبحث في الحساب الهندي على أن يكون موافقاً لديوان محاسبته يمكن الانتفاع منه، قد كان ما أراد الحاكم وخرج الكتاب إلى الناس فانتفع منه وعنه اخذوا الشيء الكثير لمعاملاتهم؛ وقد اطّلع شرف الدولة أمير بغداد على هذا الكتاب، ويظهر أنه رأى فيه فائدة وانتفاعاً فأمر النسوي بأن يؤلّف له كتاباً باللغة العربية يكون على نمط الكتاب المذكور، وقد كان لشرف الدولة ما أراد، فأخرج النسوي كتاباً سمّاه (المقنع) وقد وفّق فيه كثيراً، فيقول عنه صالح ذكي: (إن المقنع هو نموذج حقيقي يدلّنا على المرتبة التي بلغها الحساب الهندي في العراقيين العربي والفارسي في أوائل القرن الحادي عشر للميلاد. .) ولهذا الكتاب مقدمة ينتقد فيها الذين تقدّموه من المؤلّفين الرياضيين وينتقد فيها أيضاً معاصريه من واضعي كتب الحساب، وينحى باللائمة على كل هؤلاء ويقول إنه وجد تشويشاً وتطويلاً في الكتب الحسابية التي وضعها الكندي والانطاكي، كما أنه وجد في مؤلّفات علي بن أبي نصر في الحساب تفصيلاً لا لروم له، وإنه هناك كتباً أخرى (في الحساب) للكلوازي فيها صعوبة وفيها التواء وفيها تعقيداً لا تعود على القارئين بالفائدة المتوخّاة. ويقول أيضاً إنه لا يريد أن يجعل بحوثه في كتابه تدور على موضوع واحد، وإنه لا يريد أيضاً أن يحذو حذو الدينوري الذي ألّف كتاباً عنوانه يدل على إنه كتاب يتناول موضوعات الحساب المختلفة بينما هو في الحقيقة يتناول حساب النجوم فقط وليس فيه تعرّض لأي فرع من فروع علم الحساب، وهذا (على رأيه) ما لا يجيب أن يكون؛ والنسوي لا يريد أيضاً أن يكون في كتابه هذا مثل كوشيار الجبلي الذي وضع كتاباً في الحساب تعب منه الإيجاز وعنوانه لا يدل بحال من الأحوال على ما تضمنه من بحوث حسابية وأعمال رياضية

ولهذا كله (يقول النسوي): فقد رأى الضرورة تدعوه أن يخرج إلى الناس كتاباً يتجنّب فيه الأغلاط التي وقع فيها غيره من إيجاز يجعل المادة صعبة غير واضحة، ومن إطناب يدخل إلى نفوس القارئين السائم والملل. وبالفعل أخرج للناس كتاباً كان فريداً في بابه جمع فيه أحسن ما في كتب المتقدّمين والمعاصرين، وقد أضاف إليه كثيراً نظريّاته ومبتكراته، ووضع كل ذلك في قالب سهل المأخذ لا صعوبة فيه ولا تطويل، يمكن للطالب والتاجر والراصد ولكل من يريد الوقوف على أصول المعاملات المتنوّعة في الأمور الحسابية أن يستفيد منه؛ ولقد جعل النسوي هذا الكتاب في أربع مقالات، تبحث الأولى في الأعمال الصحيحة، والثانية في الكسور، والثالثة في الأعمال الصحيحة مع الكسرية، والرابعة في حساب الدرج والدقائق. فالمقالة الأولى تتناول الموضوعات التالية: أشكال الأرقام وترقيم الأعداد، جمع الأعداد الصحيحة، ميزان جمع الأعداد الصحيحة، تضعيف الأعداد، طرح الأعداد الصحيحة، ميزان طرح الأعداد الصحيحة، تنصيف الأعداد الصحيحة وميزانها، ضرب الأعداد الصحيحة وأنواعه، ميزان ضرب الأعداد الصحيحة، تقسيم الأعداد الصحيحة وأنواعه، ميزان تقسيم الأعداد الصحيحة، استخراج الجذر التربيعي للأعداد الصحيحة، ميزان استخراج الجذر التربيعي للأعداد الصحيحة، استخراج الجذر التكعيبي للأعداد الصحيحة وميزان استخراج الجذر التكعيبي للأعداد الصحيحة. وأما المقالة الثانية فتبحث في الأبواب الآتية: ترقيم الكسور، جمع الكسور، طرح الكسور، ضرب الكسور، تقسيم الكسور، استخراج الجذر التربيعي للكسور واستخراج الجذر التكعيبي للكسور.

وتتناول المقالة الثالثة البحوث الآتية: الكسور المركّبة وترقيمها، جمع الكسور المركبة وطرحها وضربها وتقسيمها وكيفية استخراج الجذرين التربيعي والتكعيبي لها. وأما الرابعة فتتضمّن ما يلي: أصول ترقيم الكسور الستينية وكيفية جمعها وطرحها وضربها وتقسيمها، واستخراج الجذرين التربيعي والتكعيبي لها. ومن الإطلاع على محتويات هذا الكتاب يتبيّن للقارئ إن الكتاب قيّم وفيه بحوث تفيد الناس على مختلف طبقاتهم في متنوّع معاملاتهم. ومما يدل على طول باع النسوي في الرياضيات وعلو كعبه فيها اعتراف الطوسي بفضله وعلمه، فقد كان يلقّب النسوي بالأستاذ، ولهذا اللقب أهمّيته عند الطوسي، ولا سيما إنه من الذين يعرفون قيمة العلماء ومن الذين لا يخلعون الألقاب على الناس بدون إستحقاق؛ ولا عجب في أن يكون من المعجبين بالنسوي المقدّرين لنبوغه وعبقريّته، فلقد استفاد كثيراً من كتاب (تفسير كتاب المأخوذات لأرشميدس) في مؤلفه (المتوسّطات) وهذا الكتاب أي (كتاب التفسير) من الكتب التي كان لها أهميتها الكبيرة في تاريخ الرياضيات، وقد ترجمها إلى العربية ثبت بن قرة. قال صاحب كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون: (مأخوذات أرشميدس مقالة ترجمة منها ثابت بن قرة خمسة عشر شكلاً وقد أضافها المحدثون إلى جملة المتوسّطات التي يلزم قراءتها فيما بين اقليدس والمجسطي. . .) وكان للنسوي فخر تفسيرها وشرحها شرحاً دلّ على مقدرته وقوّة عقله. . .

نابلس

قدري حافظ طوقان