مجلة الرسالة/العدد 103/عرائس المولد النبوي في الأدب الفرنسي

مجلة الرسالة/العدد 103/عرائس المولد النبوي في الأدب الفرنسي

مجلة الرسالة - العدد 103
عرائس المولد النبوي في الأدب الفرنسي
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 06 - 1935



للأستاذ م. هداية

أليس غريباً هذا العنوان؟ أو ليس فيه إشارة لطيفة إلى تقصير أدبائنا؟ هنري تويل أديب فرنسي أقام في مصر ردحاً من الزمن حتى جعلها في أشعاره وطنه الثاني. وقد هام بجمال مصر وتقاليدها، وسجّل كثيراً من أعيادها القومية والدينية، ووصف كثيراً من شوارعها وجوامعها الأثرية أبرع وصف. وله ديوان مطبوع باسم (شرق وأدب) حوى الكثير من الأسرار الساحرة في مصر، أحس بها هو ولم نحس بها نحن! ولست هنا في صدد تعريف هذا الشاعر الثائر أو تحليله، وإنما قصدت أن أنقل إلى القرّاء (الرسالة) جزءاً نم قطعة له كتبها سنة 1923 وعلى أثر جولة جالها ليلاً بشارع الموسكي في مولد سيّدنا الحسين - قال:

(. . . وعلى جانبي الجامع كانت الأنوار المنبعثة من دكاكين الحلوى تشع في الليل المتأخر فتجعل منه ظهراً. وكانت هذه الحوانيت متقاربة متلاصقة: اتصل بعضها ببعض اتصالاً لا تقطعه ثغرة، حتى لا ترى من مجموعها سوى نضد واحد ممتد. وقد غطيت كلّها بأنواع شتّى من الحلوى: فمنها (الحمصية) وهي حلاوة رصعت بالحمّص، و (السمسمية) وهي مثلها إلا أنها بالسمسم - وهذه كثيراً ما يتهافت عليها صغار التلاميذ في الأيام العادية، فيقبلون على شرائها من الباعة المتجوّلين كل يوم منجذبين إليها بلذاذة طعمها وبجمال النداءات ذات النغمة الساحرة التي يغنّيها الباعة، مع الملبن الملفوف حول خيوط رفيعة. . . ثم (الجوزية) وهي نوع تتلاشى أمامه (النوجا) الفرنسية وتحسدها عليه مدينة مونتلمار. . . يلي ذلك صفوف طويلة من (العرائس) تكاد تتشابك أذرعتها فتخالها في مجموعها كأنها في موكب!

عرائس جذّابة، عذارى نم الحلوى! أبكار توشك أن تزف إلى عرسها قد صبوها صباً من السكر المذاب! وقد صبغوا لهن. . . خدودهن الصغيرة بشيء من (الأحمر. . .)، وكحّلوا عيونهن بالكحل الشرقي الساحر، ثم ألبسوهن فساتين ساذجة لوّنت بألوان زاهية من أصباغ اليمن. وأما الشعر فقد رصع بأنواع برّاقة من الخرز الفضّي الملوّن، وحجاب رقيق من الشاش المهلهل النسج زيّن أيضاً بفتائل من القصب الوهّاج، وأشرطة من الورق المذهّب، قد أسدل بلباقة وكياسة على رأسها، ثم تدلّى بعضه إلى الأمام ليحجب عنك أيها المحب الشغوف وجهها الحلو الباسم، فلن ترى جمال تقاطيعه إلا حين تكشف عنه بيدك - يوم الزفاف!

(كم حدّثتني نفسي في هذه الساعة أن أحمل واحدة من هذه العرائس المصرية الصغيرة فأضمها إلى قلبي، ثم اذهب بها هنالك، في ركن منعزل، نائياً عن أعين الناس، بعيداً عن كل ضوضاء، وفي هدوء وراحة نفس، أسبل عيني ثم أضع شفتي على شفتيها الحمراوين فأتذوّق منهما شيئاً. .!)

هكذا الشاعر يخلق من كل شيء جمالاً

وبينما أنا أمر ليلة المولد بهذه (العرائس) تذكّرت خيال هذا الشاعر فوقفت سابحاً في أحلامي. . .

ولكن جدة تقتاد حفيدين لها قد دفعتني على غير قصد واقتحمت الزحام. وبعد مساومة ليست بالطويلة خرجت تحمل (سريراً) صغيراً زيّن بأستار هفهافة من القماش الملوّن بالأحمر والمذهّب والمفضض، وأبت الطفلة إلا أن تحمل (عروستها) بنفسها، وأما الطفل فقد حمل حصاناً أحمر عليه فارس. . .

وهذا الثالوث المزاحم قد أخرجني من حلم ليدخلني في حلم آخر:

الجدة فخورة لأنها أنجزت تقليداً تعتبره مقدّساً، وهي مسرورة لأنها عاشت واشتركت في ذكرى الرسول للمرة السبعين

أما الطفلة فأي سرور يملأ قلبها! أنظر إليها وهي تجذب جدّتها من ملاءتها لتسرع الخطى. . . فهي تريد أن تصل البيت أسرع ما يمكن لترى أمّها عروستها الجميلة وسريرها البديع، وهي تريد أن تقابل صويحباتها زكية وتفيدة وإحسان لتقنعهنّ بأن عروستها أكبر. . وإنها تملك سريراً. .

وقد بلغ الثلاثة البيت؛ فالجدّة متذمّرة لأنها لم تجد الدكاكين مزدانة بالثريات والبيارق الحمر والخضر والصفر مثل (زمان). . ومحمود الصغير أقتنع مسافة الطريق بأن حصانه لا يستحق الاحتفاظ به طويلاً. . وانه لا يحقق له أملاً واحداً من آماله: هل أستطيع أن أركبه وأضربه بالسوط؟. . إذن. . . وبقضمة واحدة يطير رأس الفارس بأسنانه! ثم أبتدأ في رأس الجواد. . . أما فاطمة فعروستها سنحيا عندها طول حياتها، لأنها صورة منها، ولأنها تمثّل أحلامها الحلوة، فهي قطعة من نفسها! أنظر إليها الآن قد عادت فرحة بعد أن قابلت صويحيباتها، أنظر إليها قد جلست في انهماك ترتّب السرير (لعروستها) أستمع إليها الآن وهي تغنّي لها بصوتها العذب الحلو غير الفصيح أنشودة من أناشيد الزفاف!

انهض يا شاعري العزيز وتعال مسرعاً، ثم أنصت في جلال. تعال يا شاعري (فهاهنا سحر وجمال!)

م. هداية