مجلة الرسالة/العدد 103/بين والد وولده

مجلة الرسالة/العدد 103/بين والد وولده

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 06 - 1935


مثل من الشباب الصالح

عرفت منذ أيام فتى غريض الشباب رقيق الإهاب وضيء الطلمة؛ يتكلم فيشع عقله في معانيه، ويشيع ذكاؤه في مراميه، ويسيل شعوره على ألفاظه؛ وهو لا يتكلم إلا عن العمل، ولا يناقش إلا في الواقع، ولا يرمي إلا إلى غرض؛ طموح النفس فلا يحصر أفقه يأس، ولا يحد غايته مطلب؛ بعيد الهمة فلا يضله شارد الخيال، ولا يغره خادع الأمل؛ رفيع الهوى فلا يشوب غرضه سوء، ولا يفسد طموحه أثره. نبت في أكرم المنابت من إقليم الغربية، فأبوه عميد أسرته، وزعيم بلدته، وسريّ نابه من سراة إقليمه؛ رباه في مهد النعيم، ونشأه في ظلال الغنى، وقلبه في أحضان الترف، فكان خليقاً أن يمسه الغباء وهو داء الغنى، وأن يصبه الخمول وهو بلية الترف، ولكنه لقوة الطبع واستعداد الفطرة شب ذكى الفؤاد إلى درجة الحكمة، مشبوب العزم إلى حد المغامرة؛ يذهب نفسه غالباً إلى الاعتداء الواثق، ويميل بحياته أحياناً إلى الجرأة المؤدبة، وينظر إلى غاية الحياة - وهو لا يزال في بدايتها - نظر الكيّس اللبيب المجرب، فيهاجم السياسيين من ناحية استخفافهم بالخلق، والموظفين من ناحية استهانتهم بالواجب، والفلاحين من حيث اعتمادهم في الإنتاج على القديم الرث، وفي العلاج على القدر والمصادفة. على أنه أمام أبيه - وهو قرة عينه - مثال البر ورمز الطاعة، فلا يفند له رأياً، ولا يعصى له أمراً، ولا يخالف له نصيحة.

تخرج منذ أسبوع في إحدى المدارس العالية، وكان الثاني في ترتيب الناجحين، وإن شئت فقل الأول، لأن الفرق بينه وبين سابقه لا يقدم لضآلته ولا يؤخر، فالوظيفة بحكم أوليته في النجاح ومعونة أسرته بالنفوذ، تنتظر في كل مكان وتطلبه في كل وزارة، ولكنه زارني منذ يومين فوجدته على غير عادته مشغول القلب منقبض الصدر مشترك الخاطر، لا أثر عليه لنشوة الفوز، ولا للذة الراحة، ولا لفرحة المنصب، كأنما هو آخر الدبلوم أو فقير متقدم من غير وسيلة!!

- مالك ساهم الوجه، مكروب النفس يا فهمي؟ هنيئاً لك الدبلوم والأولوية! فقال ولأسى يبين في صوته ولهجته: ليتني لم أنل هذه الدبلوم، ولم أحز خطر هذا السبق؛ فلقد كان في لذة المدارسة، وشهوة المنافسة، وترقب النجاح، وانتظار الحرية، رضىً لنفس الطامحة، وكفاية لقلبي الرغيب. أما الآن فالفراغ يثقل حتى يقتل نفسي، والوقت يطول حتى يمك روحي، والأمل يضيق حتى يظلم حياتي! أريد أن أعمل فيمنعني أبي، لأنه يضن بصحتي على مخاطر الفلاحة، وبراحتي على متاعب الفلاحين، وبسعادتي على هموم المسؤولية

- إذن ماذا يريد لك أبوك؟

- يريد لي الوظيفة! والوظيفة سجن لنفسي الطليقة، وتعطيل لملكاتي الموهوبة، ومحو لمعارفي المكسوبة، وقتل لآمالي الناشئة، وتوجيه لميولي الطبيعية إلى الغرض الذي لا أحب والقصد الذي لا أريد.

إن في مزارعنا الواسعة مجالاً فسيحاً لنشاطي، ومراداً بعيداً لعلمي، ومختبراً صالحاً لتجاربي، ومغرساً كريماً لآمالي فأنا أوثر أن أحمل عبء العمل عن والدي، وأستغل علمي وعملي في تحقيق مقاصدي، فأحافظ بالاستقلال الذاتي على خلقي وحريتي، وأساهم بالعمل المنتج في نفع أمتي وإسعاد أسرتي.

ماذا تجدي عليّ الوظيفة؟ عشرة جنيهات في الشهر؟ لقد كان أبي ينفق عليّ خمسة وعشرين وأنا طالب، فكم جنيهاً ينفقها عليّ وأنا موظف؟ إذن سينفق عليّ أضعاف مرتبي لأخدم غيره، وأفارق بيته، وأظل السنين الطوال موظفاً وضيع المكانة، مسلوب الإرادة، محدود الرزق، خامل الحياة!

إن شهادتي في فن الزراعة؛ والوظيفة الفنية كالوظيفة العلمية لا تصلح طريقاً إلى السلطان، ولا وسيلة للجاه، ولا أداة للثروة؛ إنما الفن مجده في استقلاله، وخيره في حريته. على أن وظائف الحكومة - بعد أن خفضوا أجرها، وأخسّوا قدرها، وحفوا طريقها بالمكارة، وهددوا معاشها بالنقص، وزعزعوا ضمانها بالكيد، ورعوا أمنها بالسياسة - أصبحت مطلباً لقصار الآمال، ومذهباً لصغار النفوس، وملجأً لضعاف الحيلة. فأما الذي يجد في نفسه شعور القدرة، وفي بيته رأس المال، وفي أرضه مكان العمل، ثم يتشوف إلى قيد الوظيفة وذل التبعية، فلا أدري بما أعتذر له أمام النبّل والرجولة؟

فقلت له وأنا موزع النفس بين الإعجاب به والرثاء له والحدب عليه: كلامك هذا يا بني عنوان عقلك وبرهان فضلك ودليل دعواك. وليت شعري ما حجة أبيك الكريم أمام هذا الخلق العظيم والمنطق الواضح! لعله من أولئك الذين يعتقدون أن الولد إذا دخل المدرسة، ثم خرج بالشهادة، ثم لم يوظف، كان ما أنفقه خسارة لا تعوض، وما تعلمه عبثاً لا يفيد فقال: كلا! إن أبي من أرجح الناس عقلاً، وأسدهم رأياً وأعلمهم بمزايا العمل الحر، ولكنها التقاليد الموروثة، والعواطف الغالبة، وسأنتهي آخر الأمر على هواي ومناي إلى رأيه فقلت له إذن دعني على الأقل أنقل عنك هذا الحديث ليكون خطاباً إلى أبيك، ودرساً لإخوانك، وموضوعاً للرسالة!

أحمد حسن الزيات