مجلة الرسالة/العدد 103/الطائشة

مجلة الرسالة/العدد 103/الطائشة

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 06 - 1935


للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

تتمة

وهذا محصّل رواية (الطائشة) نقلناه من خط الكاتب على مساق ما دونه في أوراقه، وعلى سرده الذي قصّ به الخبر. وقد أعطانا من البرهان ما نطمئن إليه أن هذه. (الطائشة) هي من تأليف الحياة لا من تأليفه، وأنه لم يخترع منها حادثة، ولم يأتفك حديثاً، ولم يزدها بفضيلة، ولم ينقصها بمعرّة؛ وأشهد على قوله كتب صاحبته الأديبة المستهترة التي لا تبالي ما قالت ولا ما قيل فيها. وهذه الكتب رسائل منها الموجز ومنها المستفيض، وهي بجملتها تنزل من الرواية منزلة الشروح المفتنة، وتنزل منها الرواية منزلة اللمع المقتضبة؛ وكل ذلك يشبه بعضه بعضاً، فكل ذلك بعضه شاهد على بعض

قال كاتب (الطائشة):

كنت رجلاً غزلاً ولم أكن فاسقاً، ولست كهؤلاء الشبّان الذين أصيبوا في إيمانهم بالله فأصيبوا بإيمانهم بكل فضيلة، وذهبوا يحققون المدنية فحققوا كل شيء إلا المدنية ترى أحدهم شريفاً يأنف أن يكون لصاً وأن يسمى لصاً، ثم لا يعمل إلا عمل اللص في استلاب العفاف وسرقة الفتيات من تاريخهنّ. وتراه نجداً يستنكف أن يكون في أوصاف قاطع الطريق، ثم لا يأبى إلا أن يقطع الطريق في حياة العذارى وشرف النساء.

أكثر أولئك الشبان المتعلمين يعرضون للفتيات المتعلمات بوجوه مصقولة تحتمل شيئين: الحب والصفع. . . ولكن أكثر هؤلاء المتعلمات يضعن القبلة في مكان الصفعة، إذ كان العلم قد حلل الغريزة التي فيهن فعادت بقايا لا تستمسك، وبصّرهنّ بأشياء تزيد قوة الحياة فيهن خطراً وتوحي إليهنّ وحيها من حيث يشعرن ولا يشعرن، وصوّر في أوهامهم صوراً محل الصور التي كانت في عقائدهن، وأخرجهن من السلب الطبيعي الذي حماهن الله به؛ فلهنّ العفة والحياء ولكن ليس لهنّ ذلك العقل الغريزيّ الذي يجيء به الحياء والعفة، وكثيرات منهن يخشين العار وسمته الإجماعية ولكن خشية فقهاء الحيل الشرعية قد أرصدوا لكل وجه من التحريم وجهاً من التحليل، فأصبح امتناع الإثم هو ألا تكون إليه حاجة. . . .

والعقل الذي به التفكير يكون أحياناً غير العقل الذي به العمل؛ ففي بعض الجاهلات يكون العقل الحياء والعفة والشرف والدين ـ غريزة كغرائز الوحش، هي الفكرة وهي العمل جميعاً، وهي أبداً الفكرة والعمل جميعاً لا تتغير ولا تتبدّل ولا يقع فيها التنقيح الشعريّ ولا الفلسفي. . . . وما غريزة الوحش إلا إيمانه بمن خلقه وحشاً؛ وكذلك غريزة الشرف في الأنثى هي عندي حقيقة إيمانها بمن خلقها أنثى.

وشرف المرأة رأس مال للمرأة، ومن ذلك كان له في أوهام العلم اشتراكية بحسبه تنظر فيه نظرها وتزيغ زيغها وتقضي حكمها، وأكثر من عرفت من المتعلمين والمتعلمات قد انتهوا بطبيعتهم العلمية إلى الرضى بهذه الاشتراكية، وإلى التسامح في كثير، وإلى وضع الاعتذار فيما لا يقبل عذراً، ومن هاهنا كان بعض الجاهلات كالحصن المغلق في قمّة الجبل الوعر، وكان بعض المتعلمات دون الحصن، ودون القمّة، ودون الجبل، حتى تنزل إلى السهل فتراهنّ ثمّة.

لقد غفلت الحكومات عن معنى الدين وحقيقته، فلو عرفت لعرفت الإنسانية لا تقوم إلا بالدين والعلم كليهما؛ فإن في الرجل إنساناً عاماً ونوعاً خاصاً مذكراً، وفي المرأة إنسان عام كذلك ونوع خاص مؤنث. والدين وحده هو الذي يصلح النوع بتحقيق الفضيلة وتقرير الغاية الأخلاقية، وهو الذي يحاجز بين الغريزتين وهو الذي يضع القوة الروحية في طبيعة المتعلم؛ فإن كانت طبيعة التعليم قوية كانت الروحية زيادة في القوة، وإن كانت ضعيفة كما هي الحال في هذه المدنية لم تجمع على التعلم ضعفين يبتلي كلاهما الآخر ويزيده.

فلان وفلان تعلّقا فتاتين جاهلة ومتعلمة؛ وكلتاهما قد صدّت صاحبها وامتنعت منه؛ فأما الجاهلة فيقول (فلانها) إنها كالوحش وإن صدودها ليس صدوداً حسب، بل هو ثورة من فضيلتها وإيمانها، فيها المعنى الحربيّ مجاهداّ ومتحفّزاً للقتل. . . .

وأما المتعلمة فيقول (فلانها) إنها ككل امرأة وإن صدودها ثورة ولكن من دلالها ترضى بها أول ما ترضى وآخر ما ترضى كبرياء الجمال فيها لا الإيمان ولا الفضيلة. فكأنها إيحاء للطامع أن يزيد طمعاً أو يزيد احتيالاً

وفلان هذا يقول لي: إن ضعفاء الإيمان من الشبان المتعلمين - وأكثرهم ضعفاء الإيمان - لو حققت أمرهم وبلوت سرائرهم، لتبيّنت أنهم جميعاً لا يرون قلب الفتاة المتعلمة إلا كالدار الخالية كتب عليها: (للإيجار). .

يقول كاتب (الطائشة):

أما أنا فقد صحّ عندي أن سياسة أكثر المتعلمات هي سياسة فتح العين حذراً من الشبّان جميعاً وإغماض العين لواحد فقط. . . .

وهذا الواحد هو البلاء كله على الفتاة فإنها بطبيعتها تتقيد ولا تنفصل إلا مكرهة، وهو بطبيعته قيده لذّته فيتصل وينفصل، غير أنها لا بد لها من هذا الواحد، ففكرها المتعلم يوحي إليها بالحياة لا يجعل في ذلك للتنكير عندها، والحياة نصف معانيها النفسية في الصديق؛ فالأنوثة بغيره مظلمة في حياتها راكدة في طباعها ثقيلة على نفسها ما دام (الشعاع) لا يلمسها. .

والدين يأبى أن يكون ذلك الصديق إلا الزوج في شروطه وعهوده كيلا تتقيد المرأة إلا بمن يتقيد بها، والعلم لا يأبى أن يكون الصديق هو الحب؛ والفن يوجب أن يكون هو الحب، وليس في الحب شروط ولا عهود إلا وسائل تختلق لوقتها وأكثرها من الكذب والنفاق والخديعة. ولفظ الحب نفسه لصّ لغويّ خبيث يسرق المعاني التي ليست له وينفق مما يسرق. وليس من امرأة يخادعها عاشق إلا انكشف لها حبه كما ينكشف اللص.

يقول كاتب (الطائشة):

تلك فلسفة لا بد منها في التوطئة للكتابة عن (عزيزتي رغم أنفي). ومن كانت مثلها في أفكارها واستدلالها وحججها وطريقتها ـ كان خليقاً بمن يكتب قصتها أن يجعل القصة من أولها مسلحة. .

لقد تكارهت على بعض ما أرادت مني ما دام الحب (رغم أنفي)، وما دامت السياسة أن أداريها وأتبع محبتها؛ غير إني صارحتها بكلمة شمسية تلمع تحت الشمس؛ إنها الصداقة لا الحب، وإنما هو اللهو البريء لا غيره، وأن ذلك جهد ما أنا قويّ عليه وفيّ به. قالت: فليكن، ولكن صداقة أعلى قليلاً من الصداقة. . . ولو من هذا الحب المتكبر الذي لا يصدق كيلا يكذب. . . إن هذا النوع من الحب يطيش بعقل المرأة ولكنه هو أول ما يستهيمها ويعجبها ويورثها التياع الحنين.

كتبت لي: أنا لا أتألم في هواك بالألم، ولكن بأشياء منك أقلها الألم، ولا أحزن بالحزن، ولكن بهموم بعضها الحزن، إنك صنعت لي بكاءً ودموعاً وتنهدات، وجعلت لي ظلاماً منك ونوراً منك، يا نهاري وليلي. ترى ما أسم هذا النوع من الصداقة؟

اسمه الحب؟ لا

اسمه الكبرياء؟ لا

اسمه الحنان؟ لا

اسمه حبك أنت، أنت أيها الغامض المتقلب. ألا ترى ألفاظي تبكي، ألا تسمع قلبي يصرخ، بأيّ عدل لك أو بأيّ عدل للناس تريد أن أحيا في عالم شمسه باردة. . . هذا قتل، هذا قتل

فكتبت إليها: إن لم يكن هذا جنوناً إنه لقريب منه

فردّت على هذه الرسالة:

أتكاتبني بأسلوب التلغراف. . . لو أهديت أليّ عقداً من الزمرد حبّاته بعدد من الكلمات لكنت بخيلاً، فكيف وهي ألفاظه؟ إني لأبكي في غمضة واحدة بدموع أكثر عدداً من كلماتك، وهي دموع من آلامي وأحزاني؛ وتلك ألفاظ من لهوك وعبثك.

ما كان ضرّك لو كتبت لي بضعة أسطر من تلغرافات روتر. . . ما دمت تسخر مني أأنت الشباب وأنا الكهولة، فليس لك بالطبيعة إلا الانصراف عني، وليس لي بالطبيعة إلا الحنين إليك؟

لا أدري كيف أحببتها ولا كيف دعتني إليها نفسي، ولكن الذي أعلمه أني تخادعت لها وقلت أن المستحيل هو منع هذا الشر، والممكن هو تخفيفه؛ ثم أقبلت أرثى لها، وأخفف عنها، وأقبلت هي تضاعف لي مكرها وخديعتها، وكان الأمر بيننا كما قالت: في الحب والحرب لا يكون الهجوم هجوماً وفيه رفق أو تراجع.

إن المرأة وحدها هي التي تعرف كيف تقاتل بالصبر والأناة؛ ولا يشبهها في ذلك إلا دهاة المستبدّين

سألتني أن أهدي إليها رسمي؛ فاعتللت عليها بأن قلت لها: إن هذا الرسم سيكون تحت عينيك أنت رسم حبيب، ولكنه تحت الأعين الأخرى سيكون رسم متهم وظننتني أبلغت في الحجة وقطعتها عني؛ فجاءتني من الغد بالبرد المفحم، جاءتني بإحدى صديقاتها لتظهر في الرسم إلى جانبي كأنني من ذوي قرابتها. . . فيكون الرسم رسم صديقتها، ويكون مهدى منها لا مني، وكأنني فيه حاشية جاءت من عمة أو خالة. . . .

وأصررت على الإباء، ونافرتني القول في ذلك، تردّ عليّ وأردّ عليها، وتغاضبنا وانكسرت حزناً وذهبت باكية؛ ثم تسببت إلى رضاي فرضيت.

حدّثتني أن صديقتها فلانة استطاعت أن تستزير صاحبها فلاناً في مخدعها في دارها بين أهلها منتصف الليل؛ قلت وكيف كان ذلك؟

قالت إنها تحمل شهادة. . . وهي تلتمس عملاً وقد طال عليها؛ فزعمت لذويها أنها عثرت في كتاب كذا رقية من رقي السحر، فتريد أن تتعاطى تجربتها بعد نصف الليل إذا محق القمر؛ وأنها ستطلق البخور وتبقى تحت ضبابته إلى الفجر تهمهم بالأسماء والكلمات، ثم إنها اتّعدت وصاحبها ليوم وأجافت باب دارها ولم تغلقه، وأطلقت البخور في مجمر كبير أثار عاصفة من الدخان المعطّر وجعل مخدعها كمخدع عروس من ملكات التاريخ القديم، وبقي صاحبها تحت الضبابة يهمهم وتهمهم. . ثم خرج في أغباش السحر.

هكذا قالت؛ وما أدري أهو خبر عن تلك الصديقة وفلانها أم هو اقتراح عليّ أنا من (فلانة) لأكون لها عفريت الضبابة. . .؟

لم يخف عليها لذعة حبها وقعت في قلبي، وأن صبرها قد غلب كبريائي، وأن كثرة التلاقي بين رجل وامرأة يطمع أحدهما في الآخرـ لا بد أن ينقل روايتهما إلى فصلها الثاني، ويجعل في التأليف شيئاً منتظراً بطبيعة السياق. . . وإلحاح امرأة على رجل قد خلها وجفا عن صلتها، إنما هو تعرضها للتعقيد الذي في طبيعته الإنسانية. فإن هي صابرته وأمعنت فقلّما يدعها هذا التعقيد من حلّ لمعضلتها. وبمثل هذه العجيبة كان تعقيداً وكان غير مفهوم ولا واضح، وقد ينقلب فيه أشد البغض إلى أشد الحب وقد تعمل فيه حالة من حالات النفس ما لا يعمل السحر. وكذلك يقع للرجل إذا أحب المرأة فنبت عن مودته فعرض للتعقيد الذي في طبيعتها وأمعن وثبت.

رأت الجمرة الأولى في قلبي فأضمرت فيه الثانية حين جاءتني اليوم بكتاب زعمت أن فلاناً أرسله إليها يطارحها الهوى ويبثها له الحنين والتياع الحب، ويقول لها في هذا الكتاب: أنا لم أشرب خمراً قط ولكني لا أراني أنظر إلى مفاتنك ومحاسنك إلا وفي عينيّ الخمر، وفي عقلي السّكر، وفي قلبي العربدة. جعلت لي نظرة سكّير فيها نسيان الدنيا وما في الدنيا ما عدا الزجاجة. . . ويختمه بهذه العبارة:

آه لو استطعت أن أجعل كلامي في نفسك ناعماً، ساحراً، مسكراً، مثل كلام الشفة للشفة حين تقبلّها. . .

عند هذا وقع الشيء المنتظر في الفصل الثاني من الرواية، وختم هذا الفصل بأول قبلة على شفتي (الممثلة).

قالت: هذه القبلة كانت (غلطة مطبعية) ومضت تسميها كذلك واستمرت الطبعة تغلط. . . وما علمت إلا من بعد أن ذلك الكتاب الذي استوقدت به غيرتي، إنما كان من عملها ومكرها.

وجاءتني اليوم بآبدة من أوابدها، قالت:

أنت رجعي محافظ على التقاليد، قلت لأني أرى هذه التقاليد كالصباح الذي يتكرر كل يوم وهو في كل يوم ضياء ونور

قالت: أو كالمساء الذي يتكرر وهو في كل يوم ظلام وسواد

قلت: ليس هذا إليّ ولا إليك، بل الحكم فيه للنفع أو الضرر

قالت: بل هو إلى الحياة، والحياة اليوم علمية أوربية، والزمن حثيث في تقدمه، وأصحاب (التقاليد) جامدون في موضعهم قد فاتهم الزمن، ولذلك يسمونهم (متأخرين). أما علمت أن الفضيلة قد أصبحت في أوربا زياً قديماً فأخذ المقص يعمل في تهذيبها، يقطع من هنا ويشق من هنا. .

أسمع أيها (المتأخر) وتأمل هذا الرهان الأوربي العصري أخبرتني صديقتي فلانة حاملة شهادة. . . أنها كانت في القطار بين الإسكندرية والقاهرة وكانت معها فتاة من جيرتها تحمل الشهادة الابتدائية؛ فجمعهما السفر بشاب وسيم ظريف يشارك في الأدب، غير أنه رجعيّ (متأخر). وصديقتي تعرف من كل شيء شيئاً، وتأخذ من كل فن بطرف؛ فجرى الحديث بينهما مجراه، وتركت الصديقة نفسها لدواعيها وانطلقت على سجيّتها الظريفة، ووضعت فن لسانها في الكلام فجعلت فيه روح التقبيل، ولم تبلغ إلى القاهرة حتى كانت قد سحرت ذلك (المتأخر) ووقعت من نفسه ودفعته إلى الزمن الذي هو فيه. فلما همت بوداعه سألهما: أين تذهبان؟ فأغضت صاحبة الشهادة الابتدائية، وأطرقت حياء ورأت في السؤال تهمة وريبة، فأنّبتها الصديقة وأيقظتها من حيائها، وقالت لها: ألا تزالين شرقية متأخرة. إن لم يسعدنا الحظ أن تكون لنا حرية المرأة الأوربية في المجتمع وفي أنفسنا؛ أفلا يسعنا أن تكون لنا هذه الحرية ولو في أنفسنا؟

ثمّ ردّت على الشاب فأنبأته بمكانها وعنوانها، فأطمعه ردّها فسألها أن تتنزه معه في بعض الحدائق، فأبت صاحبته الابتدائية ولجت عمايتها الشرقية المتأخرة، ورأت في ذلك مسقطة لها، فلوت إلى دارها وتركتهما إنساناً وإنساناً لا فتى وفتاة، وتنزّها معاً، وعرف الشاب الرجعيّ الحب والخمر التي هي تحية الحب

ولم تستطع الفتاة الماكرة أن ترجع إلى دارها وهي سكرى فأوت إلى فندق، وختمت روايتها بأعراض من الشاب أجابت هي عليه بقولها: ألا زلت (متأخراً). . . . .؟

قالت (الطائشة):

نعم يا عزيزي (المتأخر) إن مذهب المرأة الحرة. . . في الفرق بين الزوج وغير الزوج، أن الأول رجل ثابت، والآخر رجل طارئ. والثابت ثابت معها بحقه هو؛ والطارئ طارئ عليها بحقها هي. . . . فإن كانت حرة فلها حقها. . .

قال كاتب الطائشة: وهنا كاد الشيطان يرفع الستار عن فصل ثالث في هذه الرواية، رواية (الطائشة). . .

نقول نحن: وإلى هنا ينتهي نصف الرواية؛ أما النصف الآخر فيكاد يكون قصة أخرى أسمها: (الطائش والطائشة).

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي