مجلة الرسالة/العدد 103/كيمياء الأفكار والعواطف

مجلة الرسالة/العدد 103/كيمياء الأفكار والعواطف

مجلة الرسالة - العدد 103
كيمياء الأفكار والعواطف
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 06 - 1935



للأستاذ أحمد أمين

كان القدماء يفهمون من (الكيمياء) الإكسير المنشود، الذي إذا عثر عليه وأضيف إلى الزئبق أو الفضة بكمية محدودة، تحت حرارة معينة، انقلب الزئبق أو الفضة ذهباً إبريزاً، وليس يعنينا هنا أن نبين ما أنفق الناس من جهد في الوصول إليه، ولا ما أنفقوا من مال وزمان في سبيل العثور عليه، ولا ما ملئت به كتب الفلسفة الإسلامية من جدل في إمكان ذلك أو إستحالته، إنما يعنينا هنا أن نقول إن العلماء والأدباء نقلوا استعمال هذه الكلمة إلى المعاني بعد أن كانت قاصرة على المادة، فسمى (الغزالي) كتاباً من كتبه (كيمياء السعادة) يعني بذلك الإكسير الروحي الذي إذا عثر عليه الإنسان حظي بسعادة، وقد استعملها ابن الرومي استعمالاً ظريفاً في معنى قريب من هذا، فقال يهجو أبا الصّقر

عَجبَ الناس ' مِنْ أبي الصّقْ ... رِ إذولّي - بعد الإجارة - الديوانا

إنّ للجَدّ كيمياَء إذا مَا ... مَسّ كلباً أحاله إنسانا

يفعل الله ما يشاء ' كما شا ... ء متى شاء كائناً ما كانا

ثم سار الزمن الذي يغير كل شيء، فغيّر - فيما غيره - مدلول كلمة (الكيمياء) وجعله قسيماً للطبيعة، فكما أن الطبيعة اختصت بالظواهر التي تغير صفات الأشياء ولا تغير جوهرها، اختصت الكيمياء بدراسة الظواهر التي تغير جوهر الأشياء، فاتسع مدلولها، وصار آخر ما تفكر فيه تحويل المعادن إلى ذهب إن كانت تفكر فيه، والذي أريد أن ألفت إليه النظر في مقالي أن هناك كيمياء في الأفكار والعواطف تشبه تلك التي في المادة، إلا أنها أعقد منها، وأصعب حلاً، وأغمض اكتشافاً - وإلى الآن لم توضع كتب - على ما أعلم - في كيمياء المعاني على كثرة ما وضع في كيمياء المادة - وإن كانت كتب علم النفس أحياناً تمس هذا الموضوع مسّاً رفيقاً.

فلكيمياء الأفكار والعواطف فصول وأبواب لا عداد لها، قد ينطبق عليها في كثير من الأحيان فصول الكيمياء المادية وأبوابها، ففي كيمياء المعاني ترشيح وتبخير وذوبان كالتي في كيمياء المادة، وفيها تبلور وتقطير، وفيها عناصر ومركبات ومخاليط، وفيها أحماض وأملاح وقواعد، وفيها جزيئات وذرات لها أوزان وكثافات - ولها رموز وقوانين أدق من رموز الكيمياء المادية وقوانينها، ولها معادلات أصعب حلاً وابعد منالاً

هل علمت - مثلا - أن الماء يتكون من غاز الأوكسجين والأيدروجين بنسبة واحد من الأول واثنين من الثاني باعتبار الحجم - فكذلك الشأن في الأفكار والعواطف، فقد يكون لديك فكرة من نوع ما، أو عاطفة من نوع ما، ثم تسمع فكرة من محدث أو تقرأ فكرة في كتاب، وتكون فكرتك من وزن خاص، والفكرة التي سمعتها أو قرأتها من وزن آخر، فتتحد هاتان الفكرتان، وتتولد منها فكرة جديد لا هي من النوع الأول وحده، ولا من النوع الثاني وحده، بل هي نوع خاص، علاقته بالفكرتين كعلاقة الماء بالأوكسجين والأيدروجين

وهل علمت أنك إذا ملأت قارورة ثلثها بالأوكسجين وثلثيها بالهيدروجين ثم قربت فوهتها من لهب تسمع لذلك دوياً هائلاً؟ كذلك الشأن في العواطف، فقد يكون لديك عاطفة من نوع خاص، ثم تسمع خطبة من نوع يناسبها فتنفجر نفسك لهذا الاتحاد انفجاراً هائلاً، وتحس ناراً تملأ نفسك، وتذكى حسك - أو ليس الغضب يحمر وجه صاحبه وتنقدح عيناه، ويجعله يقذف بالكلمات الحادة العنيفة، ولا تهدأ ثائرته حتى ينتقم - ضرباً من ضروب هذا التفاعل الذي يشبه تفاعل الغازين؟ أو ليست الحماسة تدفع الجندي ليرمي بنفسه في خط المار، ولا يقيم للحياة وزناً، أثراً من آثار ما يسمع من كلمات القائد وما يشعر من جو وبيئة؟ أو ليس الحب يذيب النفس، ويرهف الحس، ويملأ القلب أسى حيناً، وفرحاً وغبطة حيناً إلا نوعاً من هذا التفاعل دونه التفاعل المادي، والاتحاد الكيماوي؟

وكل ما تدرك من فرق بين التفاعل المادي والتفاعل الروحي أنا استطعنا أن نخضع المادة لبساطتها فنحلل أجزائها بالكهرباء أو ما أشبهها ونقيس مقدار العنصرين أو العناصر المتحدة، ونعرف مقدار كل منها، ونرصد أثر التفاعل. أما في الأفكار والعواطف فليس الأمر بهذه السهولة، فلكل إنسان آراءه وعواطفه وهي تختلف فيما بينها كل الاختلاف، في جوهرها، وفي قابليتها لأفكار الآخرين وعواطفهم، فقد نلقي الكلمة على عدد محدود من الناس فنشعر بأن أثرها عند كل إنسان يخالف أثرها عند الباقين، كضوء النهار يفتح أعيننا ويغمض عين الخفاش، وقد يقرأ أحد كتاباً فيزعم أنه غيّر مجرى حياته، وقلّب تفكيره رأساً على عقب، وألهمه من المعاني ما استحال بها إنساناً آخر، وأحدث في نفسه ثورة فكرية لم يحدثها أي كتاب غيره، ويقرؤه إنسان آخر فلا يشعر هذا الشعور ولا قريباً منه ولا يحس له ميزة ولا يجد له طعماً، وهذا بعينه ما يحدث في الأجسام، تقرب عود ثقاب مشتعل من ورق فيشتعل، وتقربه من ثلج فيذوب، وتقربه من رخام فلا يشتعل ولا يذوب، وأؤكد لك أن الرواية تعرض في السينما أو تمثل في المسرح على عدد كبير من الناس تؤثر في كل راء بمقدار لا يتفق تماماً وأثر الباقين، وأن تأثر المشاهدين متعدد بتعدد رؤوسهم. ذلك [ان الرواية وإن كانت واحدة وممثلوها متحدين فإن هناك عاملاً آخر من عوامل الوزن مختلفاً كل الاختلاف، وهو عواطف الرائي وآراؤه، وأن نتيجة التفاعل تختلف دائماً باختلاف أحد الممزوجين المتفاعلين.

إن أردت التوسع في تطبيق هذه النظرية وجدت القول ذا سعة، فالبائع الناجح في المتجر ليس هو الذي يكثر الكلام أو يقل الكلام، وليس هو الخفيف الحركة، ولا هو المهندم الثياب، وإنما هو الذي يعرف شيئاً واحداً ويتقنه وهو (قانون التفاعل) ينظر إلى المشتري نظرة نافذة فيعلم نفسه، ويعلم نواحيها، ويعرف المواضع الحساسة منه، ويعرف في مهارة نقط التأثر عنده، ومقدار الأثر، ثم يستعمل في هذا العرض والكلام وما يتفق وما درسه من نفس المشتري، وإذا بما يصدر من البائع منسب لنفس المشتري ومنفعل معها على نحو خاص، وإذا الصفقة قد تمت في سهولة ويسر، على حين إن زميله ومن بجواره لا يبيع مثل بيعه لأنه يخطأ في فهم نفسية المشتري فيتفاعل تصرفه تفاعلاً عكسياً مع نفسية المشتري، فينتج من ذلك نوع من الغضب أو نوع من الكراهية أو نوع من الغضاضة ينتهي عادة بالأعراض عن الشراء، فإن سألت كيف جهل هذا وعلم ذاك، وأين درس أحدهما ولم يدرس الآخر فنجح الدارس وفشل الجاهل؟ قلت إن هذا الدرس لا يتعلم في المدرسة وإنما يتعلم في السوق، ويتعلمه من حسن استعداده الفطري وغريزته الطبيعية، بل إن شئت طبقة هذه النظرية على كل ناجح وفاشل في الحياة، فالمدرس الناجح من استطاع أن يتعرف نواحي تلاميذه ويعرف ما يلقى وما لا يلقى، وما يقال وما لا يقال، ويصدر منه ما يتفاعل وهذه النفوس، فيصدر من ذلك التفاعل عطف وحنان وحب، ورغبة في المعلم، ورغبة في علمه، ورغبة في ما يقول، وتأثر بما يشير إليه.

وما الأسرة السعيدة؟ وما الأسرة الشقية؟ أليست السعيدة من عرفت فيها الزوجة نفسية زوجها والزوج نفسية زوجته وعمل كل منهما على أن يصدر منه ما يتفاعل ونفس الآخر حتى ينتج هذا التفاعل تآلفاً، فإذا انحرف أحدهما عن هذا الوجه عن جهل أو عن علم ساء البيت ونشأ تفاعل من جنس آخر نتج عن البغض والكراهية والشقاق. الحق إن هذه كلها معادلات في الكيمياء النفسية تشبه تمام الشبه المعادلات الكيماوية التي تجرب في المعمل، ومع الأسف لم يصل الناس إلى حد بعيد في دراسة هذه الكيمياء النفسية ولم ينشئوا لها المعامل الناجحة نجاح المعامل للكيمياء المادية، والخطأ في النفس كثير الوقوع لصعوبة تعرف الذرّات النفسية وتكوين المعادلات الدقيقة. وإذا أدرك الإنسان هذا التفاعل واختلافه ودقته أدرك خطورته، وخاصة فيمن يتصل مركزه بنفوس كثيرين كالصحفي والأديب، والمعلم والخطيب، والزعيم، فقد يصدر عنه ما ينفعل ونفوس الناس فيكون سماً ناقعاً، وقد ينتج عنه ما يكون دواء ناجعاً.

أحمد أمين