مجلة الرسالة/العدد 104/القصص

مجلة الرسالة/العدد 104/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 07 - 1935



من أساطير الأغر يق

هرقل في سبيل التفاحات الذهبية

للأستاذ دريني خشبة

7 - خيول ديوميديز

وكان للملك ديوميديز، ملك تراقيه، يقتني مجموعة طيبة من خيول السباق التي لا يشق لها غبار، ولا تباريها خيول في مضمار؛ ولكنها لم تكن كهذه الخيول التي يقتنيها الناس، بل كانت بالوحوش أشبه، والى السباع أقرب، لأنها لم تكن تذوق الحشيش ولا تُسيغ النبات، بل بالعكس، كانت لا تأكل إلا اللحم تنهشه نهشاً. .

وكانت تأبى لحم الحيوان والبهائم، وتستطيب لحم الإنسان وتستلذه، ولم يكن الملك القاسي يبخل عليها به. ولكي يوفر لها هذا الغذاء الغريب، أصدر أمره بالقبض على كل أجنبي تطأ قدماه أرض البلاد بدون إذن من الملك! فلما نمى الخبر إلى يوريدوس، أرسل هرقل لمعاقبة ديوميديز ولتخليص الناس منه ومن خيوله

وشد هرقل رحله إلى أرض تراقيه، ودخلها غير مستأذن ولا مستأنس، فلما سأله ديوميديز في ذلك، انقض عليه كأنه الحتف، واقتلعه من عرشه كأنه نبتة ومضى به إلى خيوله فألقاه إليها. . .

وانقضت الخيول على الملك فمزقته تمزيقاً، واغتذت بلحمه الملكي الفاخر!! وطرب الشعب لتخلصه من حاكمه الظالم، ونثر الورد والريحان تحت قدمي هرقل، ومضى البطل فألجم الخيول كلها، وساقها هدية غير مبرورة إلى يوريذوس!!

8 - منطقة هيبوليت مليكة الأمازون

وكانت ليوريذوس ابنة ذات كبرياء وذات خيلاء، مشغوفة باقتناء الحلي والجواهر النادرة، تضحي في سبيلها بسلام المملكة وأرواح البرايا، إذا اقتضت الحال حرباً من أجل ياقوتة أو زبرجدة!!

وكان أبوها الأفين يلبي رغباتها ولا يكاد يرفض لها أمراً، فلما وصفت لها منطقة هيبوليت، مليكة الأمازون، وما رصّعت به من اللآلئ، ثار في نفسها فضول الذهب، وألم بها مرض الحصول عليه. فانطلقت إلى أبيها تبكي، وتشكو العطل وقلة الحلية، ولو أن خزائنها تحوي نصف ثروة المملكة

وسألها أبوها ما بكاؤها؟ فتاهت قليلاً ودلَّت، ثم ذكرت منطقة هيبوليت!!

وربت الملك على كتفي ابنته، ودعا إليه هرقل، وأمره بالذهاب إلى الأمازون والحصول على منطقة الملكة ولو أدّى دمه ثمناً لها!!

أما الأمازون، فقبيل عظيم من النساء المحاربات، يحيين حياة عسكرية حافلة بضروب من الشجاعة تحيّر الألباب وتذهل العقول. فمنهن فريق يعمل في الحصون ويسهر على قلاع المملكة، وفريق للغزو ومناوشة الأعداء، وثالث يقوم بمهمة الشرطة والعسس، ورابع للعمل في الأسطول الذي يلقي الرعب في الشواطئ. . . . . . لإ

إلخ

ولا يعيش بين شعب الأمازون أحد من الرجال، فإذا جازف رجل، وانسرق بينهن، ترصّده الموت في كل مكان!

وكانت مملكتهن في جزيرة نائية قاصية، ذهب هرقل في البحث عنها كل مذهب، واستعان بأقربائه من الآلهة ليرشدوها إليها

ونصح له أحدهم أن يدع هذه الرحلة القاسية إلى مملكة الأمازون، ولكنه أبى، لأن مجازفاته التي يتعرض بها للهلاك، إن هي إلا ثمن الحرية التي ينشدها ويحلم دائماً بها!

ووصل هرقل إلى المملكة، وتحايل حتى مثل بين يدي الملكة، فلقيته بما هو أهله من التجلة والإكرام، كابن إله عظيم. . وأبدى رغبته في الحصول على المنطقة الغالية التي تزين وسط الملكة، وتحلّي خصرها، ليقدمها ثمناً لحريته الضائعة، للفتاة المزهوة (أدميت) بنت ملك أرجوس. . .

وتبسمت الملكة، ووعدته أن تخلعها عليه، ليصنع بها بعد ذلك ما يشاء. ثم تفضلت فدعته إلى حفلة راقصة، وعشاء فاخر. . .

وهنا تبرز حيرا لتمثل دورها!!

لقد هالها هذا النجاح المطرّد الذي يظفر به خصمها في كل مكان، فتحولت إلى أمازونة جميلة، واندست بين رعايا الملكة، وألقت في روعهن أن هرقل هو ألد أعدائهن، وأنه إنما أقبل لسبي الملكة، وليفر بها إلى ملك أرجوس، وأنه اتخذ المنطقة تعِلَّة لذلك جميعاً، فثارت ثائرة الأمازون، وتجمهرن حول الملكة، وصارحنها بما قالت لهن حيرا. فأمرتهن بالحرب. . . ولكن هرقل، البطل الأعزل، انقض كالمنية على الأمازون ففرّق شملهن، وأظفرته شجاعته بهن، ثم هجم على الملكة فاختطف منطقتها، ونظر فرأى حيرا تشهد المعركة فوق رابية قريبة، فأشار إليها قائلاً: (وهنا أيضاً أنتصر عليك، وسأنتصر عليك دائماً!)

9 -

وطربت ابنة الملك بمنطقة هيبوليت أيما طرب، وكبرت في نفسها منزلة هرقل، فاستوصت به أباها خيراً.

واستجاب يوريذوس لشفاعة ابنته في هرقل، فلم يكلفه هذه المرة شططاً، بل اكتفى أن أمره بالتوجه إلى بحيرة ستيمفالوس ليبيد طيورها ذوات المخالب النحاسية التي تدوم فوق الماء الآسن وتغطس فيه تصيد السمك، ثم تذهب فتأكله قريباً من القرى، فتنتشر بذلك الأمراض والطواعين. ولم يكن أيسر على هرقل من أن يبيد هذه الجوارح ومعه قوسه المرنان، وفي كنانته سهامه التي رويت من دم هيدرا

10 - قطعان الجريونز

وكان يأوي إلى سفوح الجبال في مقاطعة أريثيا مارد مخوف مرهوب الجانب يدعى جريونز. وكانت له قطعان كبيرة من الماشية والغنم عرفت في سائر هيلاس بجودة ألبانها ونعومة أوبارها، حتى لكان يضرب بها المثل كلما فاخر الرعاة بقطعانهم

وطمع يوريذوس في نعم جريونز وشائه، فأمر هرقل أن ينصرف إلى أريثيا فلا يعود إلا بها

وأغذّ هرقل السير؛ وألقى المارد مُمداً في كهفه السحيق يغط في نوم عميق، فانقض عليه كأنه الشهاب الراصد، وقبض بيديه الحديديتين على عنقه الغليظ فلم يفلته إلا جثة لا نامة فيها ولا نفس! وساق القطعان، وتولى إلى ملك أرجوس بالثروة الطائلة، والوفر الكثير

وأرخى الليل سدوله، ولما يبلغ هرقل نصف الطريق، فأناخ في منحدر معشوشب، ولعبت سنة من النوم بعينيه فغفا، وأسكرته نسمات الربيع فاستسلم لأحلامه الخمرية الحلوة. . .

وكان يأوي إلى هذا الجبل، جبل آفنتين، مارد لص قاطع طريق، يدعى كاكوس، وجد هرقل غاراً في سبات ناعم، فذهب بنصف القطيع أو يزيد. . .

واستيقظ البطل على رُغاءٍ يتجاوب في حدود الأفق، فلما تفقد قطعانه انطلق في أثر اللص حتى لحق به، وحطمه تحطيماً!

وقبيل شروق الشمس، كانت مدينة أرجوس كلها عند الأبواب تستقبل الرزق والغنم، وتهتف باسم البطل الحلاحل الذي بهرها بشجاعته، وخلب ألبابها بما أبدى، وما ينفك يبدي، من ضروب القوة والاستبسال

وأحس يوريذوس بما انطوت عليه قلوب الأهالي من المحبة والافتتان بهرقل، فتسخّط وحنق، وبيَّت الشر المستطير

11 - تفاهات هسبريا الذهبية

وأدركت حيرا ما ينقم الملك من هرقل، فوسوست إليه أن يأمره بالحصول على تفاحات هسبريا الذهبية، وهيهات هيهات أن يستطيع أحد الحصول عليها!

ولقد أهديت هذه التفاحات إلى حيرا، ليلة زفافها إلى زيوس، رب الأرباب، فيما أهدى إليها من تقدمات وتحف؛ أهدتها إليها (جي) ربة الأرض، فكانت أثمن الهدايا جميعاً وأغلاها. لأنها فضلاً عن أنها من الذهب الخالص، فقد رصعت بأندر اللآلئ، وزينت بصور الآلهة، ونقشت فيها حدائق الأولمب؛ ثم تستقل بميزة ندر أن تكون لحلية مهما غلت: ذلك أنها إذا غابت الشمس، وأقبل الليل بظلامه، شعَّت أضواءً ولآلاء قل أن تصدر إلا عن كواكب درِّي، أو شمس وضاءة، فتنقشع الغياهب وتنجلي الدياجير!

وحسبك أن تعلم أن حيرا نفسها لم تأمن آلهة الأولمب وحُرّاسها الغلاظ على هذه القُنْية النادرة، فأرسلت بها إلى الهسبريد، بنات هسبروس إله الغرب العظيم، ليحرسنها. ولتكون عندهن في مأمنٍ من كل ساربٍ بليلٍ، أو سارقٍ في نهار، وقد عرف الهسبريد لهذه التفاحات قيمتها، فعلَّقها في دوحة باسقةٍ في حديقة قصرهن المنيف، وأقمن على حراستها التنين الهائل لا دون، الذي قيل في صفته إن له سبعين ألف رأس في كل رأس سبعون ألف عين، وسبعون ألف ناب يتدفق السم منها جميعاً. ثم إنه يبلغ ألف ذراع طولاً وخمسين سُمكاً، وإن له لأظافر كأن كل واحد منها جراز هرمز، وإن له لفحيحاً تضيع فيه زمزمة الجن، ومُكاءُ الشياطين!!

وانقلب هرقل على وجهه في الأرض حيران!

أين هي تفاحات هسبريا هذه؟

(أفي الأرض أم في السماء؟ لأمضِ! فرب إله دلني إليها. . . .)

وشرّق وغرّب، وذرع الأرض من أقصاها إلى أقصاها، وانسرق إلى الكهوف والغيران، وأوْقل في الجبال، وتحدّر في القيعان، ومر بكل حنيَّة، ووقف عند كل عين، حتى كان لدى نهر أريدانوس، ووقف بشاطئه يتناجى؛ فخرجت من الماء النمير عرائسه، ورُحن يُسرِّين عن هذا اللاجئ الحزين

وإنه ليسائلهن عن تفاحات هسبريا، فيحدثنه ويتلطفن معه، ثم ينصحن له أن يطلق إلى نريوس إله البحر، عسى أن يهديه إلى ما يريد

ويهيم في الأرض محاذياً سيف البحر، حتى يكون آخر الأمر أمام شيخ هرم، وخط الشيب رأسه، وتدلى شعر لحيته الكث فوق صدره العريض ذي النتوء؛ وبرزت أهدابه حتى لكادت تحجب عينين تزدحم فيهما السنون، وتطل من حدقتيهما الأحداث!

وجده جالساً القرفصاء مُقلِّباً ناظريه في مملكة الماء التي تتصل باللانهاية، فألقى عليه تحية هيّنة، رد عليها الشيخ بهذه العبارة:

(أيها الفتى لم قطعت عليّ تأملاتي؟!)

(فقال هرقل: (أستحلفك بسيد الأرباب يا أبتاه إلاّ ما أخبرتني عن حدائق الهسبريد، فتكون لك عليّ يد أذكرها لك أبد الدهر وأشكرها!)

وتجهّم نريوس وقال: (حدائق الهسبريد! أوْه! أنت هرقل إذن!)

فبهت هرقل وأجاب: (أي وحقك أنا هو، فمن ذكرني عندك!؟)

- (ليس هذا من شأنك يا بني، ولكن لعلك تبتغي تفاحاتها الذهبية؟)

- (أي وزيوس يا أبتاه!)

- (بشراك إذن! فلن يحصل عليها إلا أنت، ولكنك لست أنت الذي ستنفذ إلى حدائق الهسبريد! اذهب إذن فالتمس المسكين برومثيوس مكبلاً فوق جبال القوقاز، فأحسن إليه، وسله حاجتك، فهو وحده الذي يستطيع إرشادك إلى ما تريد. .!)

وشكره هرقل، وحياه، وأطلق ساقيه يطوي الفيافي إلى القوقاز. وهناك وجد برومثيوس والرخ ينوشه، بحيث يمزق كبده ويهر أه، ويغتذي به؛ فوتر قوسه، وسدد إلى الطير سهماً أصماه، وخلص إلى الإله البائس فأزال أصفاده، واحتمله إلى السفح، وما زال به حتى أقبل الليل والتأمت جراحه، ثم تحدث إليه عن حدائق الهسبريد وتفاحاتها الذهبية. فحدجه برومثيوس بنظرة فاحصة، وقال له: (لكأنك هرقل إذن؟)

- (أجل أنا هرقل يا أبتاه!)

- (وأنت عدو حيرا يا بني؟)

- (عدوها المبين يا أبتاه!)

- (مسكين!!)

ولم يلبث الفتى أن انهمرت عبراته، وطار لونه وهاجت في فؤاده البلابل والأشجان؛ ثم اتصل الحديث، وقال برومثيوس:

- (انطلق يا بني إلى أخي أطلس؛ هناك. . . هناك في إفريقية المظلمة شمالاً بغرب؛ تجده على قمة جبل شامخ يحمل السماء على منكبيه، ويتشح بوشاح من اللازورد يرفرف بين المشرق والمغرب. فأقرئه سلامي، وزُفّ إليه بشرى خلاصي مما أوقع زيوس بي، ثم حدّثه بحاجتك يقضها لك، فهو وحده يعرف أين حدائق الهسبريد، وهو وحده يستطيع أن ينفذ إليها، وهو وحده يستطيع قتل لا دون التنين الهائل الذي يحرس تفاحات هسبريا الذهبية؛ فإذا أتاك بها، فاحذر أن يأخذك بشيء من مكره، فإني علمت أنه بدأ يتململ من حمله الثقيل، ويود لو ينجيه منه أحد، ولو انتثرت الكواكب، وانتقض نظام الكون!)

هرقل يصارع أنتيوس

وفي طريقه إلى أطلس، لقي من الأهوال والخطوب ما تفتأ تتحدث به الأيام إلى زماننا هذا. من ذلك أنه مرّ يقوم من الأقزام ضئال الأجسام قصارها؛ كانوا يؤجرون مارداً عظيم الجسم مفتول العضل: ليحميهم من جيرانهم الأعزّاء الأقوياء، وليدفع عنهم غائلة الغربان النحاسية التي كانت تتلف أعنابهم وتبيد زروعهم كلما تم نضجها في كل عام. وكان ذلك المارد - أنتيوس - ذا حول وذا طول، حتى لكان يخشاه الوحش، ويتخوفه الجن، وترجف من صولته أفعوانات البحار، فلما شهد هرقل يخبُّ في أفق البلاد كأنه جبل يتدهدى، أخذ أهبته لمنازلته، ولم تساوره ذرة من الشك أنه منتصر عليه

فلما وصل هرقل، حيا أحسن تحية، ولكن أنتيوس لم يجب، بل إنه سارع فأخذ بتلابيب البطل عابر السبيل!!

- (ماذا بك أيها الأخ! دعني فليست لي عندك حاجة!)

- (لا، لا نجوت إن نجوت! لا أرى إلا أن أصرعك!)

- (ولِمه؟!)

- (هذا ما لا أعرف، ولكن لا بد من أن أصرعك على أية حالة!)

وتصارع الخصمان، وأقبلت الأقزام ترى إلى هذين الجبلين يأخذ أحدهما بعناق الآخر فيلببه تلبيباً!

وكان أنتيوس كلما خانته قواه، وأيقن أن هرقل لا بد صارعه، وقف قليلاً على أديم الأرض يستمد منها قوة، ويستلهم الحول من أمه (جي). . .

فهو ابن جي إذن، ولن يسر ربة الأرض أن يصرع ابنها أحد، إذن فلتمده بكل ما في سرها من قوة ليصرع هرقل!

وخارت قوى البطل! وراح يلهث من شدة النصب؛ بيد أنه تنبه إلى السر آخر الأمر، عندما لحظ أن أنتيوس يزداد قوة كلما مست قدماه الأرض؛ فرفعه رفعة هائلة، ولم يمكنه من الوقوف لحظة على قدميه؛ ثم أخذ يضغط عنقه الغليظ العبل، حتى شهق شهقة كانت هي شهقة الموت. .!

فألقى به. . . ومضى لشأنه!!

وتلفت فرأى عرائس ماء يلعبن على الشاطئ، ويترامين بلآلئ مما يعد لديهن من حصباء البحر؛ فوقف غير بعيد وهتف بهن:

(يا عرائس الماء الجميلات! هل لكن أن تهدينني إلى أطلس الذي يحمل السماء، ويمسك كواكبها أن تقع!؟)

وفزع عرائس الماء وهرعن إلى البحر، ولكن فتاة جريئة وقفت ترقص على رأس موجة وقالت: (امض أيها الرجل حتى إذا لقيت السد الذي يفصل البحر المحيط من مائنا هذا (وكان البحر الأبيض)، فإذا استطعت أن تنفذ فانك تكون على فراسخ من أطلس. . .)

وشكرها هرقل، وانطلق. . .

وكان أمام السد؛ ولكنه كان جبلاً شامخاً ذا قُنن وقُلل وأحياد؛ فلما لم يستطع أن يتسلقه؛ ضربه بيمينه ضربة، وبشماله أخرى، ففتح ثغرات كبيرة نفذ منها، وترك الجبل وراءه أعمدة عالية، ما تزال تعرف إلى يومنا هذا بأعمدة هرقل!!

ونظر فما هاله إلا هذا الإله العظيم سامقاً في الأفق، يحمل على كتفيه العريضتين قبة السماء. والنجوم منتشرة حوله كأنها قطرات أمطار في يوم عاصف!

وتقدم هرقل فحيّا الإله الضخم، وحياه الإله الضخم بأحسن مما حيا هرقل، ثم أقرأه هذا تحية برومثيوس، وزف إليه بشرى خلاصه من الصخرة التي ظل مُكبّلاً فوقها أحقاباً وأحقاباً!

وطرب أطلس لهذه البشرى، وأفتر عن ثنايا كأنها قمم الجبال مُغطَّاة بالثلوج، ثم قال:

- (ومن أنقذه من عذابه الطويل يا صاح!)

- (أنا إن كان يسرك ذاك النبأ)

- (أنت؟ أنت من المكرمين إّن! مرحباً بك أيها المخلص الأمين!)

- لقد كدت ألقي بهذا الحمل الذي ترى لأنقذ أخي، ولكني خفت أن يهلك العالم بمن فيه. . . و. . . على ذكر أخي، كيف هؤلاء الناس الذين خلق؟ أبخير هم؟ وهل يخبتون له حقاً؟ إن زيوس مغيظ منهم، وامرأته حيرا محنقة كذلك، أعندك من أخبار هؤلاء شيء؟

- (عندي أشياء يا أبتاه. . أنا ابن زيوس من الكمين، وقد نقمت حيرا على والدتي، فأرادت أن تفجعها فيّ، وقد أغرت رب الأرباب بي، فقضى أن أخدم النذل يوريذوس سنة بتمامها أصدع له خلالها بما يأمر، وقد أرسلني أجوب الآفاق وأذرع الأرض من أجل تفاحات هسبريا الذهبية، وقد ذكر لي أخوك، بعد إذ أطلقته، إنك وحدك تعرف مكان حدائق الهسبريد وإنك وحدك تستطيع الحصول على هذه التفاحات، فهل أسعد بأن تؤدي لي هذه اليد؟ لقد كادت حيرا كيدها هذا، وإلا تنصرفي أكن من الهالكين!)

وشاءت الخيلاء في أعطاف أطلس، وسرت حميّا الزهو في ظهره الشاسع، فقال: (أجل يا صاح، لن يستطيع قتل لا دون غيري، ولن يدخل حدائق الهسبريد سواي، ولكن كيف أترك حملي هذا لآتيك بالتفاحات؟)

ونظر هرقل إلى القبة الهائلة نظرة تفيض كبرياء وقال: (أنا أحمل عنك هذه القبة يا أبتاه، حتى تعود بالتفاحات!!)

وما كاد يتم كلمته، حتى تقدم فركز كتفيه تحت السماء، وانطلق أطلس لأول مرة منذ أحقاب وأدهار، يمتّع نفسه بمشية حرة طليقة في حدائق الأرض الغنّاء!!

وغبرت أيام. . .

ثم ذكر تفاحات هسبريا، فذهب إلى حدائق الهسبريد، واقتحم الأسوار، وانقض على التنين لا دون فزلزلت الأرض تحتهما، ولم يدعه يفلت، برغم مرونته في الوثب وسرعته في الالتفاف، حتى خرّ صريعاً

ومد يده إلى الأيكة الذاهبة في السماء فتناول التفاحات المتلألئة الوضاءة، وعاد يزهو ويختال إلى حيث هرقل المجهود المتعب

وما كاد أطلس يلمح الحمل الثقيل الذي يؤود هرقل، حتى ذكر الأدهار السحيقة التي لبث يتململ طوالها تحت عبئه؛ فارتعدت فرائصه لمجرد فكرة العود إلى حمله الشاق. . . وبدا له أن يدع هرقل ويمضي. . . ولكن هرقل المتعب فطن إلى ما وقر في قلب أطلس؛ فناداه: (أبتاه! لعمري أن حملك لأخف من الهواء؛ ولعمري أنني لأستطيع أن أصمد له إلى نهاية الأبد!)

وبهت أطلس وقال: (إذن لتمض في حملك مادام يسرك!)

فأجاب هرقل: (ليس أيسر من هذا! ولكن هل تسمح فتحمل مكاني برهة حتى أضع حوّية فوق كتفيّ، فإني أشعر بنتوء في أديم السماء!!)

وقبل أطلس المغفّل، فنثر التفاحات من يده على الكلأ الأخضر، وتقدم فحل محل هرقل!!

والتقط صاحبنا التفاحات، وانطلق لا يلوى على شيء!!

وبعد رحلة طويلة مضنية، دخل على يوريذوس بالقُتْية الغالية التي خلبت لب فتاته أدميت؛ وخرت مغشياً عليها حين وقع بصرها عليها

(لها بقية)

دريني خشبة