مجلة الرسالة/العدد 104/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة/العدد 104/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة - العدد 104
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 07 - 1935


12 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

فرديريك نيتشه

للأستاذ خليل هنداوي

حاسته الفنية

لم يكن نيتشه مفكراً فحسب، بل كان فناناً ذا حاسة فنية عميقة، يدل على ذلك ميله خلال طفولته الأولى إلى الموسيقى وعشقه لأربابها. وهل كان إلا غرامه بها الذي جعله ينظر إلى (فاجنر) كمثل أعلى لموسيقى عصره؟ وقد انكب على تلقن أصولها ومبادئها في صباه الأول، ودفعته حاسته إلى نظم بعض المقاطيع الموسيقية. وما هي إلا خطوة واحدة لو خطاها نيتشه لأشرف على عالم غير عالمه، ولأشفى على وجود قد يبدل كل أفكاره وكل آرائه. وهو يقول عن نفسه (لو لم ترجح كفة التفكير عندي لكنت الآن موسيقياً!) على أن ذوقه الموسيقي لبث حياً في طوايا نفسه. يرتاح للموسيقى أينما صدحت، ويغيب في عوالمها حيث تفتحت عوالمها. وهو أكثر ما يطمئن لتلك العوالم الفنية المظلمة التي تذهل فيها النفس وتدرج إلى أعماقها حيث يلتقي الفيلسوف والفنان. وقد يؤاخي هذه الحاسة - عنده - حاسته الشعرية. فهو شاعر بالفطرة، يبدي آراءه الفلسفية بطريق الشعر؛ وله في الشعر جولات صادقة تدل على فن عميق وابتكار رائع. وهو وان صدف عن عالم الشعر فإن حاسته الشعرية لم تخمد، بل ظلت تعاوده في كل ما كتب وسطر. وإنشاؤه يغلب عليه الشعر والعاطفة. لا يرى قارئه في تأملاته عقل نيتشه وحده، وإنما هو واجد كل كيانه يفكر ويكتب، يطلع عليك بوجوده كله لا بفكره وحده

الانعتاق

تكاد تكون تفاصيل حياته الشخصية محدودة. فهو قد ولد عام (1844) في (روكن، حيث كان أبوه قسيساً. وقد تيتم في الخامسة من عمره. فأتم دروسه الثانوية وتوجه إلى الدروس العالية. وبينما كان يتهيأ للموضوع الذي ينال به (الدكتوراه) في (ليبزيج) دُعي ليكون أستاذاً في جامعة (بال) وقد مُنح (الدكتوراه) بدون أن يعرض موضوعه قضى ستة أعوام هادئ النفس في الجامعة يقوم بتدريس اليونانية، وهو خلال هذه الأعوام كالمقيد بصحبة أصدقائه لا يخرج من حلقتهم، وهؤلاء الأصدقاء هم زملاؤه وبعض رفاقه، أضف إلى ذلك بعض زيارات متتالية إلى منزل الفنان (فاجنر). وقد كان يختلس بعض الفرص فيذهب في بعض سياحاته القصيرة إلى البحيرات والجبال، ولم يعكر عليه هذا الهدوء إلا إعلان الحرب السبعينية، فهجر الجامعة وتطوع في الجيش الألماني، ولكن صحته خانته، فاضطر إلى العودة مريضاً، وأعظم ما قام به من الآثار الأدبية خلال هذه الفترة كتابه (نشوء المأساة) ونقده للحضارة الحديثة. في الكتاب الأول يعالج نبوغ اليونان وعبقريتهم المختلفة في الفنون، وفي الكتاب الثاني يعرض (تأملات في غير حينها) وهو ينطوي على أجزاء: في الجزء الأول يحمل على (دافيد ستراوس)، وفي الجزء الثاني يبحث فائدة التاريخ وأخطاره، وفي الجزأين الأخيرين يبسط عبقرية الفيلسوف (شوبنهاور) وعبقرية الفنان (فاجنر) معتقداً أن في إمكان هذين النابغتين أن يقودا الإنسانية إلى مثلها الأعلى

وفي سنة 1876 عرا حياته الداخلية ما عرا حياته الخارجية من تطور وتبدل، وأعظم ما نزل به نزاعه مع صديقه (فاجنر) أضف إلى هذا ما حاق بصحته من سوء واعتلال، حتى منحته الجامعة فرصة يقضيها إذا شاء في إيطاليا أو على هضاب سويسرا. وبعد هذه الراحة عاد إلى بذل الجهود برغم أن صحته كانت تنذر ولا تبشر. فجمع سنة 1878 كتابه (أشياء إنسانية، إنسانية جداً) وكتاباً آخر يضم (آراء مختلفة) و (المسافر وظله) فزادت صحته ضعفاً حال بينه وبين التعليم، فاعتزل الجامعة لكي يجد المجال الفسيح والقوة الكافية لتتميم رسالته الفلسفية

وها هنا بدل القدر صفحة حياته، ومنحه حياة جديدة يغمرها الاعتزال، وحرية التفكير والانفصال، يكمل تحت ظلها هذه الرسالة التي خُلق لها

لم يكن ميل نيتشه إلى دراسة اللغات القديمة مجرد هوى أو هيجان ابن ساعة ثم ينطفئ. فقد مال نيتشه إلى هذه الدراسة بقلبه وعقله، ذلك لأنه يريد أن يظهر أمره في علم ضيق المساحة ليدرك العلم فضله. وهو أكثر الناس علماً بقيمة العلماء الناقصين الذين يعلمون كل شيء ولا يعلمون شيئاً. وها هو ذا الآن لا يريد أن يعرف كل شيء، وإنما يريد أن يعرف شيئاً معرفة متقنة، فبذل ما بذل من صبر وجهد بذل الأمين الراعي لأمانته. مدرعاً بالأناة التي لا غنى عنها للذاهب مذهبه. راضياً بأن يزهق روحه في سبيل العلم وخدمته. ولكنه سالك فيه مسلكاً جديداً لا أثر فيه للتعاليم الدراسة، وللتقاليد التي لا تجدي شيئاً. وهو يمزج هذه الدراسة مع الفلسفة والفن ويجعل من هذا المزج مزجاً جديدا

يعتقد نيتشه بأن المثل (الكلاسيكي) سيبقى خالداً لا يهدده الفناء. فلا العلم ولا الخلق ولا التثقيف بمستطيعة أن تنقذنا من البربرية إذا سلخنا المثل الكلاسيكي، وكفرنا بالبساطة الشريفة التي تتجلى في الفن اليوناني والبراعة اليونانية. وإذا شاء رسل العلم أن يجحدوا هذه البراعة وينكرونها على اليونان، فإنها براعة سائدة خالدة مسيطرة على براعتنا، تدل على أن اليونان كانوا أكثر توفيقاً منا في حل مسائل الوجود

وهكذا تظهر مهنة (دارس علم اللغات) مهنة جميلة سامية هو لا يعنى بإحياء الآثار العافية، والنصوص البالية، ولكنه كادح دائب على إحياء روح اليونان القديمة، يريد أن يتفهم كيف قدر لهذه الروح أن تتسامى وتتعالى في الآثار التي تركتها، والفنون التي أنجبتها، والمؤثرات التي تركت تأثيرهم بادياً في أدبنا وفلسفتنا، فجعلت منهم أساتذة لا يزال الغرب يتلقن عنهم. هذا هو أدب نيتشه يوم دخل جامعة (بال) مدرساً. يقول في إحدى محاضراته (إن دراسة علم اللغات ليست بآلهة شعر ولا بنبية رحمة، لكنها رسولة الآلهة، والآلهة، والآلهة في القديم كانت تهبط على القرويين المحزونين. واليوم تهبط هذه الرسولة على عالمنا القاتم الألوان، المظلم الرسوم، المفعم بالآلام والشقاء الذي لا يشفى، حاملة إلينا بلسم العزاء، عارضة علينا بأحاديثها تلك الوجوه الجميلة المتألقة في قطر خصب أزرق سعيد)

(يتبع)

خليل هنداوي