مجلة الرسالة/العدد 104/دموع
مجلة الرسالة/العدد 104/دموع
من رسائل (الطائشة)
للأستاذ مصطفي صادق الرافعي
ورسائل هذه الطائشة إلى صاحبها، تقرأ في ظاهرها على أنها رسائل حب، قد كتبت في الفنون التي يترسل بها العشاق؛ ولكن وراء كلامها كلاماً آخر، تقرأ به على أنها تاريخ نفس ملتاعة لا تزال شعلة النار فيها تتنمى وترتفع؛ وقد فدحتها الحياة إذ حصرتها في فن واحد لا يتغير، وأوقعتها تحت شرط واحد لا يتحقق، وصرفتها بفكرة واحدة لا تزال تخيب
وأشدّ سجون الحياة فكرة خائبة يسجن الحي فيها، لا هو مستطيع أن يدعها، ولا هو قادر أن يحققها؛ فهذا يمتد شقاؤه ما يمتد ولا يزال كأنه على أوله لا يتقدم إلى نهاية؛ ويتألم ما يتألم ولا تزال تشعره الحياة أن كل ما فات من العذاب إنما هو بدأ العذاب
والسعادة في جملتها وتفصيلها أن يكون لك فكر غير مقيد بمعنى تتألم منه، ولا بمعنى تخاف منه، ولا بمعنى تحذر منه. والشقاء في تفصيله وجملته انحباس الفكر في معاني الألم والخوف والاضطراب
وقد اخترنا من رسائل (الطائشة) هذه الرسالة المصورة التي يبرق شعاعها وتكاد تقوم بازاء نفسها كالمرآة بازاء الوجه. وهي فيها عذبة الكلام من أنها مرّة الشعور، متسقة الفكر من أنها مختلة القلب، مسددة النطق من أنها طائشة النفس. وتلك إحدى عجائب الحب؛ كلما كان قفراً ممحلاً اخضرت في البلاغة وتفننت والتفت، وعلى قلة المتعة من لذاته تزيد فيه المتعة من أوصافه. ولكأن هذا الحب طبيعة تروى بالنار فتخصب عليها وتتفتق بمعانيها، كما تروى الأرض بالماء فتخصب وتتغطى بنباتها؛ فإن روى الحب من لذاته وبرد عليها، لم ينبت من البلاغة إلا أخفها وزناً وأقلها معاني، كأول ما يبدو النبات حين يتفطر الثرى عنه؛ تراه فتحسبه على الأرض مسحة لون أخضر؛ أو لم ينبت إلا القليل القليل كالتعاشيب في الأرض السبخة
إن قصة الحب كالرواية التمثيلية، أبلغ ما فيها وأحسنه وأعجبه ما كان قبل (العقدة) فإذا انحلت هذه العقدة فأنت في بقايا مفسرة مشروحة تريد أن تنتهي، ولا تحتمل من الفن إلا ذلك القليل الذي بينها وبين النهاية وهذه هي رسالة الطائشة إلى صاحبها:
. . .
ماذا أكتب لك غير ألفاظ حقيقتي وحقيقتك؟
يخيل إلى أن ألفاظ خضوعي وتضرعي متى انتهت إليك انقلبت إلى ألفاظ شجار ونزاع!
أي عدل أن تلمسك حياتي لمسة الزهرة الناعمة بأطراف البنان، وتقذفني أنت قذف الحجر بملء اليد الصلبة متمطية فيها قوة الجسم؟
جعلتني في الحب كآلة خاضعة تدار فتدور، ثم عبثت بها فصارت متمردة توقف ولا تقف؛ والنهاية - لا ريب فيها - اختلال أو تحطيم!
وجعلت لي عالماً، أما ليله فأنت والظلام والبكاء، وأما نهاره فأنت والضياء والأمل الخائب. هذا هو عالمي: أنت أنت. . .! سمائي كأنها رقعة أطبقت عليها كل غيوم السماء، وأرضى كأنها بقعة اجتمعت فيها كل زلازل الأرض! لأنك غيمة في حياتي، وزلزلة في أيامي
يا بعد ما بين الدنيا التي حولي وبين الدنيا التي في قلبي!
ما يجمل منك أن تلزمني لوم خطأ أنت المخطئ فيه
سلني عن حبي أجبك عن نكبتي، وسلني عن نكبتي أجبك عن حبي
كان ينبغي أن تكون لي الكبرياء في الحب، ولكن ماذا أصنع وأنت منصرف عني؟ ويلاه من هذا الانصراف الذي يجعل كبريائي رضى مني بأن تنسى!
ليس لي من وسيلة تعطفك إلا هذا الحب الشديد الذي هو يصدك، فكأن الأسباب مقلوبة معي منذ انقلبت أنت
ويخيل إلي من طغيان آلامي أن كل ذي حزن فعندي أنا تمام حزنه!
ويخيل إلي أني أفصح من نطق بآه!
عذابي عذاب الصادق الذي لا يعرف الكذب، بالكاذب الذي لا يعرف الصدق
كم يقول الرجال في النساء، وكم يصفونهن بالكيد والغدر والمكر؛ فهل جئت أنت لتعاقب الجنس كله فيّ أنا وحدي. . .
ما لكلامي يتقطع كأنما هو أيضاً مختنق؟
لشد ما أتمنى أن أشتري انتصاري، ولكن انتصاري، عليك هو عندي أن تنتصر أنت إن المرأة تطلب الحرية وتلج في طلبها، ولكن الحياة تنتهي بها إلى يقينٍ لاشك فيه، هو أن ألطف أنواع حريتها في ألطف أنواع استعبادها
حتى في خيالي أرى لك هيئة الآمر الناهي أيها القاسي. لا أحب منك هذا، ولكن لا يعجبني منك إلا هذا. . .!
ويزيدك رفعةً في عيني أنك لم تحاول قط أن تزيد رفعة في عيني
فالمرأة لا تحب الرجل الذي يعمل على أن يلفتها دائماً ليرفع من شأنه عندها
إن الطبيعة قد جعلت الأنوثة في الإنسان هي التي تلفت إلى نفسها بالتصنع والتزيد، وعرض ما فيها وتكلف ما ليس فيها؛ فإن يصنع الرجل صنيعها فما هو في شيء إلا تزيين احتقاره!
التزيد في الأنوثة زيادة في الأنثى عند الرجل، ولكن التزيد في الرجولة نقص في الرجل عند الأنثى!
ارفع صوتك بكلماتي تسمع فيها اثنين: صوتك وقلبي ليست هي كلماتي لديك أكثر مما هي أعمالك لدي وليس هو حبي لك أكبر مما هو ظلمك لي!
ما أشد تعسي إذا كنت أخاطب منك نائماً يسمع أحلامه ولا يسمعني!
ما أتعس من تبكيه الحياة بكائها المفاجئ على ميت لا يرجع، أو بكائها المألوف على حبيب لا ينال!
ولكن فلأصبر ولأصبر على الأيام التي لا طعم لها، لأن فيها الحبيب الذي لا وفاء له!
إن المصاب بالعمى اللوني يرى الأحمر أخضر، والمصاب بعمى الحب يرى الشخص القفر كله أزهار
عمى مركب أن تكون أزهاراً من الأوهام ولها مع ذلك رائحة تعبق
وعمى في الزمن أيضاً أن ينظر إلى الساعة الأولى من ساعة الحب، فيرى الأيام كلها في حكم هذه الساعة
وعمى في الدم، أن يشعر بالحبيب يوماً فلا يزال من بعدها يحي خياله ويغذيه أكثر مما يحي جسم صاحبه
وعمى في العقل، أن يجعل وجه إنسان واحد كوجه النهار على الدنيا، تظهر الأشياء في لونه، وبغير لونه تنطفئ الأشياء وعمى في قلبي أنا، هذا الحب الذي في قلبي!
ليس الظلام إلا فقدان النور، وليس الظلم في الناس إلا فقدان المساواة بينهم
وظلم الرجال للنساء عمل فقدان المساواة لا عمل الرجال
كيف تسخر الدنيا من متعلمةٍ مثلي، فتضعها موضعاً من الهوان والضعف بحيث لو سئلت أن تكتب (وظيفتها) على بطاقة، لما كتبت تحت اسمها إلا هذه الكلمة: (عاشقة فلان). . .؟
وحتى في ضعف المرأة لا مساواة بين النساء في الاجتماع، فكل متزوجة وظيفتها الاجتماعية أنها زوجة؛ ولكن ليس لعاشقة أن تقول إن عشقها وظيفتها. . .
وحتى في الكلام عن الحب لا مساواة، فهذه فتاة تحب فتتكلم عن حبها فيقال: فاجرة وطائشة، ولا ذنب غير أنها تكلمت؛ وأخرى تحب وتكتم فيقال: طاهرة وعفيفة، ولا فضيلة فيها إلا أنها سكتت
أول المساواة بين الرجال والنساء أن يتساوى الكل في حرية الكلمة المخبوءة. . .
لا لا، قد رجعت عن هذا الرأي. . .
إن القلق إذا استمر على النفس انتهى بها آخر الأمر إلى الأخذ بالشاذ من قوانين الحياة
والنساء يقلقن الكون الآن مما استقر في نفوسهن من الاضطراب، وسيخربنه أشنع تخريب
ويل للاجتماع من المرأة العصرية التي أنشأها ضعف الرجل! إن الشيطان لو خير في غير شكله لما اختار إلا أن يكون امرأة حرة متعلمة خيالية كاسدة لا تجد الزوج. . .!
ويل للاجتماع من عذراء بائرة خيالية، تريد أن تفر من أنها عذراء! لقد امتلأت الأرض من هذه القنابل. . . ولكن ما من امرأة تفرط في فضيلتها إلا وهي ذنب رجل قد أهمل في واجبه
هل تملك الفتاة عرضها أو لا تملك؟ هذه هي المسألة. . . إن كانت تملك، فلها أن تتصرف وتعطي، أو لا، فلماذا لا يتقدم المالك. . .؟
هذه المدنية ستنقلب إلى الحيوانية بعينها، فالحيوان الذي لا يعرف النسب لا تعرف أنثاه العرض
وهل كان عبثاً أن يفرض الدين في الزواج شروطاً وحقوقاً للرجل والمرأة والنسل؟ ولكن أين الدين؟ وا أسفاه! لقد مدنوه هو أيضا. . .! طالت رسالتي إليك يا عزيزي، بل طاشت، فأني حين أجدك أفقد اللغة، وحين أفقدك أجدها.
ولقد تكلمت عن الدين لأني أراك أنت بنصف دين. . .
فلو كنت ذا دين كامل لتزوجت اثنتين. . . . . لا لا، قد رجعت عن هذا الرأي. . .
(طنطا)
طبق الأصل
مصطفى صادق الرافعي
إلى (ب) في دمشق
خير ما أرى لك أن تدع للغد حل مشكلة اليوم، وليس بين اليوم والغد إلا أن تصبر، وأنت كالذي رأى نفسه في غبش الفجر ويزعم أنه أمسى. .
(الرافعي)