مجلة الرسالة/العدد 104/شمس الدين السخاوي

مجلة الرسالة/العدد 104/شمس الدين السخاوي

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 07 - 1935


2 - شمس الدين السخاوي

حياته وتراثه

للأستاذ محمد عبد الله عنان

ولنستعرض الآن تراث السخاوي وآثاره، بعد أن أتينا على حوادث حياته وظروف تكوينه؛ وللسخاوي تراث حافل ينم عن غزير مادته ونشاطه؛ ولقد تلقينا منه الكثير، وتلقينا بالأخص أهمه وأقيمه. ويعني السخاوي في ترجمة نفسه بتعداد رسائله ومؤلفاته؛ ويستغرق تعدادها عدة صفحات من ترجمته؛ ويضم هذا الثبت الحافل كتباً ورسائل في عدة فنون مختلفة؛ ولكنا نستطيع بوجه عام أن نقسم آثاره إلى قسمين: قسم الحديث، وقسم التاريخ

وقد كان السخاوي كما رأينا محدثاً كبيراً، انتهى إليه علم الحديث في عصره؛ بيد أنه كان أيضاً مؤرخاً بارعاً، ونقادة لايجاري؛ والجمع بين الحديث والتاريخ خاصة لكثير من أقطاب المؤرخين المسلمين مثل كتاب السيرة، والطبري، والذهبي؛ وعلم الحديث بما يحتويه من قواعد الإسناد وتمحيص الرواية، والجرح والتعديل، خير معوان للمؤرخ الناقد على تحري الحقائق؛ وهكذا كان السخاوي محدثاً ومؤرخاً؛ وكانت براعته النقدية في التاريخ ترجع في كثير من الوجوه إلى براعته في الجرح والتعديل كمحدث؛ وهذه الصبغة النقدية البارزة هي التي تسبغ على آثاره التاريخية قوتها وطرافتها

ويحدثنا السخاوي في ترجمته بأنه شرع في التأليف (قبل الخمسين)؛ ولكن هنالك ما يدل على أنه وضع بعض التصانيف قبل سنة 870هـ، أعني وهو في نحو الأربعين من عمره؛ فهو يحدثنا أنه لما حج للمرة الأولى سنة 70، قرأ بعض تصانيفه في مكة، وإذا فهو قد بدأ التأليف في سن متقدمة؛ بيد أنه أنفق شبابه في استيعاب النصوص والمراجع، ونزل ميدان التأليف مزوداً بمادة غزيرة؛ ولبث مدى الثلاثين عاماً التالية يخرج الكتب والرسائل تباعاً، ولم ينقطع عن الكتابة حتى أعوام حياته الأخيرة

وبدأ السخاوي التأليف في ميدان الحديث، فوضع فيه عدة كتب ورسائل يعنى بتعدادها في ترجمته، ولكنا لم نتلق منها سوى القليل؛ وأشهرها كتاب (المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة)، وهو من كتب الحديث المتداولة، ومنها (فتح المغيث بشرح ألفية الحديث) و (الغاية في شرح الهداية) و (الأخبار المكللة في الأحاديث المسلسلة) و (شرح الشمائ النبوية للترمذي) و (التحفة المنيفة فيما وقع من حديث أبي حنيفة)، وعدة كتب ورسائل أخرى في شرح متون الحديث، وعدة حواش وذيول لبعض كتب الحديث المعتبرة يذكرها كلها في ترجمته، ولا يتسع هذا المقام لذكرها

وكتب السخاوي في هذه الفترة الأولى أيضاً عدة رسائل عن رحلاته المختلفة؛ منها الرحلة السكندرية وتراجمها؛ الرحلة الحلبية وتراجمها؛ الرحلة المكية؛ والثبت المصري؛ وفيها يصف تجواله ودراساته في تلك الأنحاء؛ ووضع كتاباً في تراجم شيوخه وأساتذته اسمه (بغية الراوي فيمن أخذ عنه السخاوي)

على أن أهم ما في تراث السخاوي هو مجهوده التاريخي والأدبي، ففيه يرتفع السخاوي إلى ذروة القوة، وفيه تبدو شخصيته في أبرز خواصها ومواهبها؛ وقد انتهت إلينا نخبة من هذا التراث القيم. ومن الصعب أن نتتبع الترتيب الزمني في استعراض هذه الآثار؛ ولكن يلوح لنا أن السخاوي قد استهل مجهوده التاريخي بوضع كتاب (التبر المسبوك في ذيل السلوك) والسلوك الذي وضع هذا الكتاب ذيلاً له هو كتاب (السلوك في دول الملوك) لتلقي الدين المقريزي، وقد تناول فيه تاريخ دول المماليك المصرية حتى سنة844 هـ؛ وتناول السخاوي في كتابه تاريخ مصر الإسلامية من سنة 845 - 857هـ؛ وكتبه كما يقرر في مقدمته نزولاً على رغبة الداوادار يشبك المهدي وزير السلطان الظاهر خشقدم؛ وعني السخاوي بتدوين حوادث هذه الفترة المعاصرة بإسهاب، وذيل كل عام بوفيات أعيانه، واتبع فيه طريقة الترتيب الزمني؛ وكتب السخاوي أيضاً ذيلاً لكتاب شيخه ابن حجر (رفع الأصر عن قضاة مصر) وهو الذي يتناول فيه تراجم القضاة المصريين حتى عصره، وسماه (ذيل رفع الأصر)، وفيه يتناول تراجم القضاة المصريين حيث وقف شيخه ابن حجر وأعظم آثار السخاوي بلا ريب هو كتابه الضخم (الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع)، وهو موسوعة حافلة تقع في عدة مجلدات وينم عنوانها عن موضوعها، ويبسط لنا السخاوي موضوع كتابه في ديباجته على النحو الآتي: (فهذا كتاب. . . جمعت فيه من علمته من هذا القرن الذي أوله سنة إحدى وثمانمائة، ختم بالحسنى، من سائر العلماء والقضاة والصلحاء والرواة والأدباء والشعراء، والخلفاء والملوك والأمراء، والمباشرين والوزراء، مصرياً كان أو شامياً، حجازياً أو يمنياً، رومياً أو هندياً، مشرقياً أو مغربياً، بل وذكرت فيه بعض المذكورين بفضل ونحوه من أهل الذمة. . .) وقد هيأت حياة السخاوي نفسه وتجواله في مصر والشام والحجاز؛ ولقاؤه لمئات العلماء والأدباء في عواصم هذه الأقطار، وما قيده عنهم في مختلف رحلاته، مادة حسنة لكتابة المستقبل. وأنفق السخاوي بلا ريب أعواماً طويلة في إعداد مواده وتنظيمها واستكمالها؛ والظاهر أنه لم يبدأ في كتابة معجمه إلا في أواخر القرن التاسع حوالي 890هـ وأستمر في الكتابة فيه حتى سنة 897هـ أو 898هـ؛ يدل على ذلك أنه يصل في ترجمة نفسه حوادث حياته حتى سنة 897هـ، وأنه يذكر ضمن كتبه (كتاب التوبيخ لمن ذم أهل التاريخ) وقد كتبه حسبما يقرر في خاتمته بمكة سنة 897هـ؛ هذا فضلاً عن أنه يترجم لكثيرين توفوا سنة 897هـ

ويمتاز (الضوء اللامع) بقوة فائقة في التصوير ليس لها نظير في كتب التراجم الإسلامية، ويمتاز بالأخص بروحه النقدية اللاذعة؛ وهنا يبدو السخاوي في أعظم خواصه وكفاياته الأديبة نقاده لا يجارى؛ بيد أن هذه النزعة النقدية تحمله بعيداً في مواطن كثيرة، فينزع عندئذ إلى التجريح والهدم بقسوة، ويطبع نقده تحامل بين؛ وقد ترجم السخاوي كثيراً من أقطاب العصر، ولكن أحداً منهم - إلا شيخه ابن حجر - لم ينج من تجريحه اللاذع؛ وتراجم المقريزي وأبن خلدون وأبن تغري بردى والسيوطي أمثلة واضحة لهذه النزعة الهدامة، ففيها يبدو شغف السخاوي بالتجريح والانتقاص ظاهراً؛ وهو لا يكاد يطيق عبقرية بارزة من عبقريات هذا القرن إلا هاجمها بشدة؛ وهو يبدو في أحيان كثيرة في حملاته قوياً صارم الوطأة، غير أنه يبدو في أحيان أخرى سقيما تعوزه الحجة فينحدر عندئذ إلى ما يشبه القذف المجرد؛ وقد كان السخاوي أشد الناس شعوراً بقوته ومضاء قلمه، وكان كثير الاعتداد بهذه القوة، يشيد بها في مقدمة الضوء اللامع فيما يأتي: (ولكني لم آل في التحري جهداً، ولا عدلت عن الاعتدال فيما أرجو قصداً، ولذا لم يزل الأكابر يتلقون ما أبديه بالتسليم، ويتوقون الاعتراض عما ألقيه والتأثيم، حتى كان العز الحنبلي والبرهان بن ظهيرة المعتلي يقولان، انك منظور إليك فيما تقول، مسطور كلامك المنعش للعقول، وقال غير واحد ممن يعتد بكلامه وتمتد إليه الأعناق في سفره ومقامه، من زكيته فهو العدل، ومن مرضته فالضعيف المعلل. . . بل كان بعض الفضلاء المعتبرين يتمنى الموت في حياتي لا ترجمه بما لعله يخفي عن كثيرين. . .). ويفرد السخاوي لنفسه في كتابه، كما رأينا، ترجمة ضافية؛ ويذيلها بنبذ عديدة من أقوال شيوخ العصر وأعلامه في مديحه والإشادة بغزير علمه، والتنويه بنبوءة مركز الرياسة والزعامة في علم الحديث، ومنها ما خصه به بعض خصومه كالبقاعي قبل أن تنشب بينهما الخصومة، ثم يتبع ذلك بإيراد بعض القريض الذي قيل في مديحه وتقديره. وقد كان كتاب (الضوء اللامع) حادثاً أدبياً عظيماً؛ تردد في كثير من مواطنه أصداء تلك المعارك الأدبية الشهيرة التي نشبت مدى حين بين السخاوي وبين بعض أقرانه وتلاميذه ولا سيما البقاعي والسيوطي؛ واتخذت صوراً من العنف لم تعرفها الآداب العربية من قبل؛ وأستمر صداها يدوي مدى حين بعد وفاة السخاوي وخصومه، وكانت من أهم وأغرب الحوادث الأدبية في هذا العصر. وكتب السخاوي إلى جانب الضوء اللامع كتباً أخرى في التراجم منها حسبما يذكر كتاب (الشافي من الألم في وفيات الأمم) وهو ثبت لوفيات الأعيان في القرنين الثامن والتاسع مرتب حسب السنين، وعدة تراجم مطولة لبعض الأئمة؛ بيد أنه لم يصلنا من هذه الكتب سوى ترجمة شيخه ابن حجر في مجلد ضخم أسماه (كتاب الجوهر والدرر)، وقد حصلت دار الكتب أخيراً على نسخة فوتوغرافية لهذا الكتاب، وفي خاتمته ما يفيد أن السخاوي كتبه في مكة سنة 871هـ؛ وفيه يتحدث بإفاضة عن نشأة أبن حجر، وتربيته، وصفاته، ومواهبه، وعن حلقاته ودروسه وتصانيفه، ثم يورد مختاراته من كلامه وفتاويه، وما قيل في رثائه من نثر ونظم

وهناك عدة مؤلفات تاريخية أخرى يذكر السخاوي أنه كتبها، ولكنها لم تصل إلينا مثل (التاريخ المحيط) الذي يشغل ثلاثمائة رزمة، وتاريخ المدنيين، وتلخيص تاريخ اليمن، ومنتقى تاريخ مكة، ثم طائفة أخرى منوعة منها: ختم السيرة النبوية لأبن هشام، القول النافع في بيان المساجد والجوامع، القول التام في فضل الرمي بالسهام، عمدة المحتج في حكم الشطرنج، الكنز المدخر في فتأوي شيخه أبن حجر، القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع؛ ومن هذا الأخير نسخة بدار الكتب

ونجد أخيراً في تراث السخاوي أثرين من نوع خاص ولهما أهمية خاصة، وقد انتهى كلاهما إلينا؛ أولهما كتاب (تحفة الأحباب، وبغية الطلاب، في الخطط والمزارات والبقاع المباركات) وهو دليل لخطط المشاهد والمزارات والبقاع المقدسة، ولا سيما مصر القاهرة؛ وفيه وصف لأحياء مصر القاهرة التي تقع فيها هذه المشاهد في أواخر القرن التاسع؛ وذكر لكثير من المشاهد والمدافن التي لم يمن بها المقريزي في خططه، ولا يزال الكثير منها باقياً إلى اليوم؛ ومن ثم كانت أهمية الكتاب في تاريخ الخطط المصرية، إذ نستطيع بالرجوع إلى معالمه أن نحدد كثيراً من مواقع القاهرة القديمة وأحيائها وشوارعها في القرن التاسع الهجري

وأما الثاني، فهو كتاب (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) وهو رسالة نقدية قيمة، يعرف السخاوي فيها علم التاريخ ويشيد بفضله؛ ويتناول طائفة كبيرة من المسائل والمباحث النقدية التي تدخل في حيز التاريخ؛ ثم يذيلها ببيانات ضافية لجميع المؤلفات التاريخية الإسلامية التي ظهرت في مختلف أبواب التاريخ وعصوره، مثل كتب السيرة، وكتب التراجم المختلفة، وما ألف في تواريخ الطوائف والجماعات المختلفة، مثل تواريخ القضاة والحفاظ والشعراء واللغويين والأطباء والأشراف والأدباء والعشاق والصوفية وغيرهم؛ فهو بذلك فهرس بديع شامل لأمهات الكتب التي وضعت في هذه النواحي المختلفة، ويتخلل ذلك مواقف نقدية كثيرة تجعل لهذا الأثر قيمة خاصة. هذا هو استعراض موجز لتراث السخاوي وآثاره، ولا ريب أن مجال البحث والقول يتسع لأضعاف هذا العرض الموجز، إذا أردنا أن نفي شخصية السخاوي ونواحيه الأدبية والنقدية المتعددة حقها من التحليل والبحث؛ وقد كان السخاوي بلا ريب من أعظم شخصيات مصر الإسلامية والعالم الإسلامي في القرن التاسع الهجري

(تم البحث)

محمد عبد الله عنان