مجلة الرسالة/العدد 105/دولة المماليك في حكم التاريخ
مجلة الرسالة/العدد 105/دولة المماليك في حكم التاريخ
للأستاذ ظافر الدجاني
لعل تاريخ الشرق الأدنى في عهد الحكومة الإسلامية أحفل التواريخ بما يملك على النفس جوانب الفكر والخيال، ويوحي إليها أبلغ ضروب الحكمة والموعظة، لأنه كان مسرحاً لظهور بعض الدويلات الإسلامية الغريبة في نشوئها ومظاهر حكمها ومبلغ تأثيرها في مجرى تاريخه العام ولعل أغرب هذه الدويلات، دولة المماليك في مصر، التي اختلست من الدهر ما يزيد على خمسين ومائتي سنة، كان المملوك فيها مالكاً والمغلوب غالباً، فكان يتخللها من المؤامرات والدس وأهوال الاستبداد ما لا نظير له في تاريخ المجتمع البشري. على أنها والحق يقال ليست أول محاولات هذه الطائفة البشرية لاغتصاب الحكم والاستبداد به والانتقام من الجنس الإنساني عامة لما ألحقه بها من ضروب الفظاعة والقساوة، فقد شهد تاريخ رومة الخالد، قبل ظهور النصرانية، كثيراُ من هذه المحاولات الجامحة التي باءت جميعها بالفشل والخذلان بعد أن روعت العالم وضربت له مثلاً صارماً فيما يستطيعه أبناء المماليك، بل أبناء كل طائفة مظلومة، في ميدان التمرد والانتقاض ومقايضة الجور والأذى الصاع منهما بصاعين. ولعل هذه الدولة كانت أكبر انتصار أحرزته هذه الطائفة، بل لعلها أروع مظهر لجموح أخلاقها، وتعدد الخوالج التي كانت تتجاذب نفوسها وتتنازعها إلى مسالك الخير والرجولة وجلائل الأعمال ومفاوز الشر والجريمة والآثام!
ففي الحق أن هذه الدولة لعبت دوراً خطيراً على مرسح الحياة السياسية العمرانية في الشرق الأدنى حتى ليعزى إليها أكبر الفضل في صد هجمة التتر المنبعثة من أعماق المشرق؛ قال ابن خلدون: (حتى إذا استغرقت الدولة في الحضارة والترف، ولبست أثواب البلاء والعجز، ورميت الدولة بكفرة التتر الذين أزالوا كرسي الخلافة وطمسوا رونق البلاد، وأدالوا بالكفر عن الإيمان بما أخذ أهلها عند الاستغراق في التنعم والتشاغل في اللذات والاسترسال في الترف من تكاسل الهمم، والقعود عن المفاخرة، والانسلاخ من جلدة البأس وشعار الرجولة؛ فكان من لطف الله سبحانه أن تدارك الإيمان بإحياء رمقه وتلافي شمل المسلمين بالديار المصرية بحفظ نظامه وحماية سياجه بأن بعث لهم من هذه الطائفة التركية وقبائلها العزيزة المتوافرة أمراء حامية وأنصاراً متوافية يجلبون من دار الحرب إلى دار الإسلام في حقارة الرق) فكانت تنقضي أيام هذه الطائفة في التنقل من ميدان إلى ميدان، ومن حصن إلى حصن، في مختلف أنحاء سوريا وفلسطين، وقد اندحر التتر في أكثر من واقعة واحدة؛ كواقعة (عين الجالوت) التي كان النصر فيها حليف المسلمين، فهلك كتبوغا زعيم التتر، ومزقت جموعه كل ممزق كما هلك خليفته أيضاً وجموعه من بعده، عند ما حاربهم الملك الظاهر بيبرس، وردهم على أعقابهم خاسرين متعثرين في أذيال الهزيمة، وكانت سوريا في خلال ذلك ميداناً لجهاد هؤلاء المماليك العنيف ضد الحملات الصليبية فامتلأت بجيوشهم وزهرة فرسانهم، وما زالوا يذرعون أرضها صعوداً وصدوداً، متكاتفين متكالبين حتى انتزعوا السلطة من أيدي الصليبيين، واستخلصوا منهم القلاع والحصون، فافتتح الملك الظاهر بيبرس حصن صعذ وسيس، وسيس هذه كانت كعبة المجاهدين من أبناء المماليك لأنها مدينة نصرانية، فكان أهلها يظاهرون الأرض على جيوش المسلمين
وكان العلويون والحشاشون، وهم من الباطنية، أصحاب سلطة ونفوذ، وكان قد دوخهم هولاكو في حملته المشهورة، ودمر حصونهم وقلاعهم فاستأصل أبناء المماليك شأفتهم، وحرروا سوريا من ربقة مظالمهم في عهد الملك الظاهر بيبرس المذكور. وكان الملك الظاهر بيبرس هذا قد استقدم ابن الخليفة الظاهر بأمر الله آخر خلفاء الدولة العباسية في بغداد، فأكرمه وقلده الخلافة ولقبه (المستنصر بالله)، فأصبحت القاهرة مركز الخلافة الإسلامية بعد أن كان مركزها بغداد. وبقيت هنالك حتى مقدم العثمانيين. ولكن الواقع أن سلطة هؤلاء الخلفاء كانت مقيدة لا تعدو أمور الدين والزعامة الدينية. وإنما أكد حاجة المماليك إلى هذه الخلافة الوهمية رغبتهم في وسم حكومتهم بطابع ديني شرعي حتى تنهض حجتهم ويستقيم أمرهم بين جماعات المسلمين
وأخيراً لا ينبغي أن ننسى أن هؤلاء المماليك قد خلفوا كثيراً من الآثار والأبنية التي تشهد لهم بالتقدم في فن العمارة وفي الري والعمران، فقد شيدوا المساجد والمدارس والقصور والمستشفيات، وعمروا القناطر والترع، وحفروا الخلجان، ووسعوا الأوقاف من كل ناحية. وكانوا يتبارون في ذلك حتى عمر القطر المصري والبلدان المجاورة التي خضعت لحكم المماليك بجليل الآثار. فعمر الملك الظاهر الحرم النبوي، وقبة الصخرة، وقناطر شبرامنت بالجيزة، وقلعة دمشق، وعمر المدرسة بين القصرين بالقاهرة، وحفر خليج الإسكندرية، وبنى قرية الظاهرية. وشيد الملك الناصر القصر الكبير الأبلق، وعمر الديوان الكبير والجامع الكبير الذي بالقلعة، وعمر المجراة وأجراها من بحر النيل إلى القلعة، وحفر الخليج الناصري، وعمر قناطر أم دينار
على أنه مهما قيل في حسنات هؤلاء المماليك فثمت ما يقال في سيئاتهم وفيما خلفوه من آثار البطش والجور والإرهاق، لخبث سيرتهم وعظيم جورهم، وغلبة القسوة وشهوة الاستبداد على طبائعهم، أولئك الذين كانوا في الأمس عبيداً أرقاء! فكان السلطان منهم مستبداً في أمره لا وازع يكفه عن عمل الموبقات؛ وكانوا فوق ذلك لا يعرفون (مبدأ الوراثة) في الحكم، فكان القوي منهم ينتهز الفرص للتفرد بالحكم والاستبداد بالضعيف، فكان ذلك الوقت وقت تشاغل وفرص، بل وقت مؤامرات تحاك في الخفاء، فلا يسلم منها الشعب، ويصيبه من جرائها كثير من الجور والإرهاق. وكانت الضرائب غير مقيدة بقانون أو وازع ديني أو إنساني، وإنما كانت تتفاوت في الزيادة والنقصان حسب الظروف والأحوال ومشيئة السلطان
ولم تكن مصر مع ما ذكرنا بأسوأ حالاً من سورية وفلسطين، ولا سيما وأن الأخيرتين كانتا ميداناً للحروب والمناحرات. وهكذا ضج الناس وعم الفقر، وانتشر الجهل والبلاء. وكان المجد العربي والعزة العربية والخلق العربي قد أمحت جميعها من أذهان العامة، فأصبح الناس لا يبالون بمن يولونه قيادهم، ويسلمون له زمام أمورهم، وإنما يطلبون العدل والإنصاف!
وفي وسعنا المضي في هذا السبيل القاتم، ولكننا نخشى ألا يكون في ذاك فائدة بعد أن دللنا بالقليل على الكثير، وهذه كتب التاريخ حفلة بمظاهر الجور بل بمشاهد الفقر والذل التي سادت الشرق العربي في ظل حكم المماليك
يافه
ظافر الدجاني
أ. ع