مجلة الرسالة/العدد 105/من مشاهير الشرق

مجلة الرسالة/العدد 105/من مشاهير الشرق

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 07 - 1935


1 - طائفة البهرا في الهند ومجالسهم في عدن

بقلم محمد نزيه

منذ عنيت الصحافة المصرية بأنباء الهند، وهي تذكر عن مكاتبيها في تلك البلاد النائية جماعة البهرا وشيخ البهرا بكثير من الإجلال والعناية، ولقد طالما رأيت مذ شهدت الشيخ ومسست حياة جماعته أيام رحلتي في الهند أنهما حقيقان بعدة فصول تجمع إلى طرافتها فائدة التعريف بجماعة من جماعات الإسلام لها خطرها في الهند، على الرغم من أنها قليلة العدد لا يكاد أفرادها يجاوزون الثلثمائة ألف هندي مسلم، إلا أن التماسهم أرقى وسائل التعاون وأجدى أسباب الارتباط قد أغناهم عما يراد بالكثرة من قوة وعتاد

والبهرا طائفة من طوائف الشيعة يطلق عليها في العربية اسم (الشيعة الداوودية) نسبة إلى رئيسها الأول، وقد كان باليمن ثم انتهى به العزم إلى الهند، فحط الرحال في صحبة من أتباعه بمدينة كجرات، على ساعات بالقطار من (بمبي)، منذ نيف ومائة سنة، وبمبي إذ ذاك في عالم الغيب

وإذا كانت جماعات الشيعة قد عرفت بأوضاعها الخاصة وتقاليدها المستقلة في الدين والاجتماع، فإن شيعة البهرا أو شيعة الداوودية قد عرفت في جماعات الشيعة نفسها بعقائد وتقاليد تدير حولها سياجاً يفصلها عن غيرها فصلاً تاماً؛ فهي تعتقد أن المهدي المنتظر سيكون من سلالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وتذهب إلى تخصيص فرع معين من فروع الدوحة النبوية، على أن المهدي سيكون من ثمره، أو على أن نبوة المهدي تكمن فيه، وهي إذ كانت لا تعرف موعد ظهور الرسول الجديد، لا تفتأ تنتظره دون تعجل ولا ملالة، وتتمثله في واحد من الأحياء الذين ينتظمهم هذا الفرع المعين، فإذا حان حينه فقد استخلف على رسالة المهدي وريثاً من أبنائه، وما تزال أمانة النبوة تتنقل في صندوقها المقفل من وريث إلى وريث، ومن عصر إلى عصر، حتى يتهيأ الزمن لاستقبال هذه النبوة الجديدة، وحتى يرى الله أن قد استفحل الضلال فلا مناص من إنقاذ الدنيا، فيأمر فإذا بصاحب الصندوق قد فتحه وأصاب فيه عدة النبوة وخاتمها، وإذ ذاك يظهر المهدي المنتظر. أما هذا الذي تكمن فيه نبوة المهدي، فيظل نكرة لا يعرف سره من الناس إلا الشيخ الأعلى لجماعة البهرا، يجتمع به كل ليلة في خلوة مهيئة بالمسجد الخاص، وما يزال هذا أمره حتى يقبل اليوم الذي يسفر فيه الناس

وشيخ البهرا هو همزة الوصل بين المهدي المنتظر وأتباعه، وهو مستودع سره ومثار نجواه، يستشيره ويستلهمه ويخرج بتعاليمه على الناس؛ وأما الطائفة فتنشر الدعوة إلى المهدي المنتظر، وتنشرها بأن تزين مبادئها للناس، وما تزال ماضية في مهمتها حثيثة السير حيناً ووئيدته حيناُ حتى يدخل المسلمون جميعاً في طائفة البهرا، يقدسون مذهبها، ولا يحيدون عن عقائدها

وشيخ البهرا في العالم هو اليوم مولانا طاهر سيف الدين، وهو الذي يقيم على جماعاتها في كل بلد توجد بها شيخاً من قبله يأتمرون بأمره وينتهون بنواهيه - وقد رأيت أول من رأيت من أولئك الشيوخ، في عدن، بعد أن علمت أنه من أجل أهل الإقليم مقاماً، ومن أرفعهم شأناً، فإذا رجل يحف به الوقار، ويتهلل وجهه الذي استتر نصفه خلف لحيته البيضاء، بالبشاشة والأنس، حديد البصر، أخضر الأحداق، أبيض اللون، نحيل الجسم بعض النحول، يستر رأسه بعمامة بيضاء ويبتسم عن سنين أو ثلاث في فمه، فقد بلغ بالستين مبلغ الشيوخ - ولعل أبرز ما في الشيخ لحيته الطويلة ولسانه لعربي المبين: أما لحيته فكأنها قطن منقى، يتفرق على صدره خصلاً رقيقة منفوشة، إن تكلم اهتزت أطرافها، واتبعت في اهتزازها حركات فمه، كأن بين لسانه ولحيته صلة من فضل ومن وقار. وكأنما عاهد الشيخ نفسه على ألا ينطق بغير العربية الفصحى، فما سمعه الناس متكلماً إلا بها، وقد حاسب نفسه على الضمة والفتحة حساباً عسيراً

ولقد كنت في جملة من دعاهم الشيخ إلى مأدبة عشاء أقامها في دار البهرا بعدن، وهي من أفخم دور المدينة وأكثرها أناقة، تجمع بين منزل الشيخ والمسجد الخاص الذي لا يصلي فيه غير البهرا، ولا تصح صلواتهم في سواه. والشرفة الفسيحة التي يستقبل الشيخ فيها زواره، تحف بها حجرات كثيرة أعدت لشؤون الطائفة، وقد بنيت هذه الدار على نفقة (البهريين) المقيمين في عدن، وعددهم لا يجاوز الألف، كلهم ملتحون

كانت الشرفة الرحيبة التي هيئت ليستقبل الشيخ فيها ضيفه مفروشة بالحصير، وفي صدرها صفت الوسائد إلى الجدار، واتكأ على أوسطها صاحب الدار، ويطلق عليه في أساليب (البهرا) اسم (الداعي) لأنه أحد هؤلاء الدعاة العديدين الذين يكل الشيخ الأكبر إلى نشاطهم البارع، وذكائهم الخلاب أمر الدعوة إلى اعتناق هذا المذهب من مذاهب الشيعة في جهات كثيرة من أنحاء العالم، فكان الرجل لا ينهض من مجلسه إلا ليستقبل المدعوين من غير جماعة (البهرا) بينما يقبل المدعوون من هذه الجماعة وفيهم من يدخلون في وجوه عدن وخير تجارها، فيقدمون على الشيخ وهو مستو في مجلسه، حتى إذا صار كل منهم قيد خطوة منه انحنى كانحناء المصلي، وكاد يلمس الأرض بيمينه، ثم رفعها إلى مفرقه، وتراجع إثر ذلك إلى مجلسه من المكان

وطفق الشيخ يتحدث إلى خاصة مدعويه وأقربهم إلى مجلسه، وهو لا يفتر عن رعاية المدعوين جميعاً، يقسم بينهم بشاشة محياه، ويلقي عليهم من نظرات عينيه أشعة تحمل في حرارتها معاني الشكر والترحيب والرعاية، وإنك لتنظر إلى هاتين العينين فتلمح في إشراقهما عواطف الحدب والرفق والإشفاق

اكتمل المدعوون عداً في أربعة صفوف طوال ثم دار اثنان أو ثلاثة من البهرا بأباريق الماء بين الصفوف يصبون منها على الأيدي، وفي إثرهم حملة المناشف، وفي دقائق معدودة غسلت الأيدي جميعاً، وتهيأ القوم لاستقبال الطعام. وما هي إلا برهة يسيرة حتى مد المتطوعون للعمل من أبناء الطائفة سُمطاً طويلة من قماش أبيض على أديم المكان، ثم صفوا فوقها أطباقاً رحيبة من الليف، وثبتوا على كل طبق قاعدة أسطوانية جوفاء ترفع أخونة الطعام

انتظم المدعوون حول الموائد، وكنت في مائدة الشيخ، فلم نلبث أن توسط خواننا إناء صغير من البلور فيه ملح مجروش يضرب إلى الاحمرار، ولقد ماثلت جميع الأخونة خواننا فيما عليه، ولم يعسر على أن أدرك أن لابد للتقاليد البهرية من يصيب فيما يحتوي عليه هذا الإناء، ولم أتبين أنه الملح، وحرك الفضول يدي فتناولت أصابعي حصوات منه، فلم تكد تبلغ فمي حتى أحسست كأنما مسني عقرب

وقال الشيخ في صوت جهير بعد البدء بسم الله الرحمن الرحيم، وهو يضع سبابة يمناه وإبهامها في الإناء: (ليكن الملح فاتحة طعامنا حتى يكون بيننا) فإذا الجمع كله يذوقه. . . وجيء بجفان الأرز فكانت تقلب في الخوان جفنة تلو جفنة حتى اكتظ على سعته، ثم حملت صحاف الأطعمة إلى الشيخ، فكان يتناولها ويضعها بين يديه تحت المائدة، ثم يتولى سكب ما فيها على الأرز واحدة بعد واحدة، بين برهة وبرهة، وهو لا يفتأ يذكر الله ويذكر باسمه كلما فعل، فأما حرصه على أن يضع الطعام بيديه بين أيدي الطاعمين فلعل سببه أن أبناء طائفته يلتمسون في ذلك خيراً وبركة. . . بل لقد خيل إلي أنني أجد ما يلتمسون كلما رأيت الشيخ يخرج مما بينه وبين المائدة صحافاً من الطعام كان يشغلني ما أنا فيه، وربما شغل غيري عن رؤيته وهو يتناولها من الخدم المتطوعين. . . وكأنما كانت بسملته المرتفعة الرهيبة التي تصاحب يديه كلما ارتفعتا وبينهما لون من ألوان الطعام في طريقه إلى الأرز، توحي إلى الناس أنه يستنبته مما بينه وبين المائدة، وكان الطاعمون جميعاً يتناولون الأرز بأصابعهم إلا من طلب الملعقة من خاصة الضيوف

وما إن فرغنا من الطعام حتى عاد الناس إلى مجالسهم صفوفاً وطيف عليهم بأباريق الماء فغسلوا أيديهم، ثم بالمناشف فجففوها، ومرت دقائق معدودة، ثم أقبل الخدم يمرون بين الصفوف ينثرون عليها ماء الورد، ويبدون بعده زجاجات من عطر عربي فياح، فتمتد الأيدي، وتنال كل كف حظها منه، وفي إثر هذا وذاك يمضي حملة البخور في طريقهم وهم يديرون أوانيها حول الرؤوس ثم يدخلونها تحت الأثواب، فيتصاعد بخار المسك والعود من فتحاتها. . . وثم شيء اسمه (التمْبُل) وهو ورقة شجرة هندية تعرف بهذا الاسم، تطوى على مزيج من توابل مرة المذاق جميلة الرائحة، يقال إن بينها نوعاً مخدراً، يمر بهذا التمْبُل بين الصفوف رجال من البهرا، فيحبون كل مدعو بواحدة إلا من رفض، فما إن يطبق المرء عليها فكيه حتى تروعه منها مرارة بالغة، ولقد روعتني أكثر مما روعتني ملوحة الملح، فتلفت أبحث عن وسيلة للخلاص منها، ولما لم أجد حثثت أسناني على مضغها حتى أستطيع ازدرادها، وإن هي إلا دقيقة أو بعضها حتى خفت وطأتها على لساني، وما فتئت تخف حتى زالت، وهي تزدرد بعد ذلك فتتعطر بها روائح الأفواه، وتطيب أنفاسها. وغادرنا دار الشيخ وفي أثوابنا شذى المسك، والعود، وفي وجوهنا عبير ماء الورد، وفي أكفنا نفح الطيب، بل وفي أفواهنا أريج القرنفل. . . فكأنما لمسنا نسيماً رفيفاً من نسائم الجنة، يمضي في طريقه فيهمس في آذان أهل الأرض بما ينقله عن أهل السماء ولقد كان لي مع الشيخ بعد ذلك في مجالس أخر حوار لعله لم يسغه، ولم يقبل على الاشتراك فيه راضياً؛ فقد كنت أتبين رغبته عنه في صعوبة خلال أدبه الجم. . . ولكن طالب العلم من السفر حريص على أن يطل بعقله على كل ما عسى أن تراه عيناه

القاهرة

محمد نزيه