مجلة الرسالة/العدد 105/من ذكريات مصر

مجلة الرسالة/العدد 105/من ذكريات مصر

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 07 - 1935



ساعات مع الكاظمي

للأستاذ كمال إبراهيم

مات الكاظمي! فطويت بموته للعبقرية صفحة زاهرة، كانت سامية المثال، علوية الروح، عراقية النشأة؛ نمت نبتتها متسقة الأصول على دجلة المبارك، وعلت دوحتها مبسوطة الأفانين على ضفاف النيل السعيد؛ وما زالت تصوب إلى السماء صعداً حتى اجتاحها للمنية إعصار شديد، فجالدها أعواماً، وغالبها أياماً، حتى هوى بها من باسق الذرى إلى الأرض، حيث النهاية التي لا تراغم، والقدر غير المدفوع

مات الكاظمي! فسكت لسان عربي مبين، كان فخر لغة الضاد، وحادي الأبناء إلى المجد، وباعث العزائم في الخطوب السود؛ وكان لسان العروبة الناطق بحقها في حياتها، ومخذمها المذرب عند الخصام، فكم ذاد عن الحسب الكريم، ونافح عن الحق الهضيم، وتغنى بالمجد القديم، يوم لم نكن نجد في هذه الأمة إلا الخافر لذمتها، والمنتهك لحرمتها، والكافر بنعمتها، والمظاهر لأعدائها عليها

وا لهفتا على العروبة الهضيمة! لقد أخرس الردى شاعرها الصيداح، فاشتملت بالأسى أباطح الحجاز، وصوحت أزاهير اليمن الخصراء، وحالت ربى حائل والرياض، وجلل السواد سواد العراق، وفاضت عيون النيل، وجرت باكية معولة عيون الشام ومحاجر لبنان، ترجع أنغامها الحزينة بنات الهديل بين لفائف الأغصان. .

كان الشعر العربي قد بلغ من الإسفاف الحضيض، فعدت به عن مجاراة الحياة أثقال تلك الصناعة الممقوتة التي حملها إياه شعراء الفترة المظلمة، وضيقت عليه الخناق تلك القيود المحكمة من زخارف اللفظ وبهارج البديع وأفانين الصناعة، حتى أخرجته عن طبيعته، وزاغت به عن سمته، فجاء متكلفاً نابياُ، وغثاً بالياً وجامداً بغير روح، لولا ذماء ضعيف يشعر ببقية الحياة. كان الشعر كذلك، وكانت البيئة الأدبية في العراق متأثرة كل التأثر بشعر (الأخرس، وصالح التميمي، والشاوي، والحبوبي، وأضرابهم) حتى أتاح القدر للشعر من نفخ فيه من روحه؛ فأطلقه من عقاله، وأنهضه من كبوته، وسما به صعداً إلى السماء يرف بجناحين من نور، بعد أن كاد يحثى عليه التراب في حفير مظلم عميق، وكفى الكاظمي سبقاً أنه بذ المتأخرين ومعظم المتقدمين في ارتجال الشعر من غير كلفة في أي غرض، تستقيد له شوارد القوافي بديهة حاضرة، وذاكرة نادرة، وحافظة وعيت من شعر الأولين عيونه، وما أجدر شاعرنا أن يكون لسان حاله ما قال (ابن هانئ الأندلسي) عن نفسه:

ما ضرني إن لم أجئ متقدماً ... السبق يعرف آخر المضمار

وإذا اغتدى ربع البلاغة بلقعاُ ... فلرب كنز في أساس جدار

وكما كان الكاظمي السابق في حلبة البيان، كان كذلك علو كعب في ميدان الجهاد والإصلاح. عرفت منه هذه النزعة وهو طرير لم يكتهل، وغرير لم يعجم حوادث الزمان، فكان صوته في الإصلاح يرن في مجتمعات بغداد، ولكنه كان قليل العائدة، حتى قدم الزوراء إذ ذاك رجل الإصلاح المشهور (الشيخ جمال الدين الأفغاني) فوجد شاعرنا فيه ضالته، فكان من أشياعه، فضاقت عليه البلاد بما رحبت، وقذفت به نوى شطون، شرق فيها وغرب، حتى احتضنته (مصر)؛ فألقى بها عصاه

وبوادي النيل الجميل حيث القوة تصارع الحق، والظلم يناهض العدل، والحرية تنتحب، يأبى الكاظمي إلا الصدع بالحق، فيقارع الاستعمار، ويتغنى بالحرية، ويشيد بمجد العرب الضائع، حافزاً للأبناء على استرداد ذلك المجد؛ وخلصت له في مصر صفوة ممتازة من أعلام البيان وقادة الفكر وزعماء الأمة، عرفوا له فضله، فصدقوه الولاء، وأحلوه السويداء. واستوثقت الصلات بينه وبين (الوفد المصري) فكانا لساناً من ألسنته مشرعاً لا ضد حزب من الأحزاب، ولكن ضد سياسة الاستعمار فحسب. . .

عرفت الشيخ الكاظمي أول هبوطي مصر (عام 1929) فكنت أسأل عنه من أتعرف إليهم، حتى أرشدني (محرر بالأهرام) إلى داره في (مصر الجديدة) فذهبت إليه في لمة من الإخوان، جئنا إليه من بلده، ومسقط رأسه. فما كان أشد ابتهاجه بنا، وطربه بمقدمنا، لقد استعاد بتلك الزيارة ذكريات ماضيه حلوة في العراق. فكان رحمه الله يحدثنا عن أيامه تلك بشوق وإقبال ليس فوقهما مزيد

وقد كانت داره مصاقبة لدار أستاذنا المرحوم (الشيخ عبد المطلب) وكانت بينهما صلة وثيقة، وصداقة قل أن تعرف بين الأصدقاء، فكنت أقصد (مصر الجديدة) في الغالب لزيارة الشيخين وتجديد العهد بهما؛ فأقضي ساعات هي أمتع ما تكون للنفس، وأشهى ما يلذ للعقل، ويقرأ عليّ شاعرنا ما استجد له من شعر

ما أنس لا أنس تلك الأيام السعيدة التي كنت أخرج فيها مولياً وجهي شطر (هليوبوليس) يحدوني الشوق إلى تلك العبقرية الفياضة، والصفحة النادرة، والشخصية الفذة، فأجلس إلى الشاعر، أتلقف من حكمته، والتقط من درر فوائده وجواهر فرائده، وشاعرنا محدث كما هو شاعر، يهدر كالسيل إن أفاض في الحديث، يصله ببعضه، ويزن مجلسه بطرائف الأخبار، وروائع الحكم، وأوابد الملح والمفاكهات؛ فلا تكاد تسأم له لهجة، ولا تمل منه لغة. وكان - رحمه الله - حريصاً على أن يكشف لنا عن صفحات القضية العربية في عهدها الأخير ويجردها بغير طلاء، ويجلو لنا حقائق التاريخ ناصعة غير مموهة، ويبعث فينا من روحه لمواصلة العمل والجهاد. . .

لقد كان شاعرنا ذخراً لأمته، ولكنه كان مضاعاً تنكر له وطنه الأول كما تنكر له دهره، وظل وفياً لهذا الوطن يلاحي عنه بمهجته، على حين لم يجد منه طوال حياته غير الجفاء ونكران الجميل، ظل وفياً له حتى قضى نحبه. فلما قضى نحبه جئنا بعده نذرف الدمع عليه نادمين. . .

فاذهب كما ذهب الوفاء فإنه ... عصفت به ريحاً صبا ودبور

(بغداد)

كمال إبراهيم

خريج دار العلوم