مجلة الرسالة/العدد 105/قلب فتاة

مجلة الرسالة/العدد 105/قلب فتاة

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 07 - 1935



للآنسة ابنة الشاطئ

لعلها حنقت على حينما تقدمت إليها في لوعة صامتة ثائرة ورجوتها أن تبكي وان تسرف في البكاء؛ ولعلها أنكرت مني أن أفاجئها في وحدتها وقد استنامت إلى أحزانها وأسلمت أفكارها إلى ذلك الفضاء الرحب الواسع الذي نود لو نفر إليه، وان كنا نجهل أين مكانه منا وأين السبيل إليه! لقد كنت اعلم يقيناً أن هذه الكلمات التي اصطلحنا على تسميتها كلمات المواساة، والتي تعود المرء منا أن يلقيها على مسامع المحزون، لا تحمل عن هذه المسكينة شيئاً مما ترزح تحته من أعباء أثقال، وكنت اعتقد أنني إذا كنت لا املك إلا الوقوف بجانبها افرض عليها سماع كلمات المواساة المحفوظة، واحتم عليها أن تزدردها كلما تزدرد قطع الثلج، فخير لها أن تظل هكذا في ذهولها وأطرافها، لعلها واجدة من خداع الخيال ما ينسيها شيئاً من رهبة الحقيقة الواقعة، ولو إلى فترة قصيرة! لكني كنت احبها، وأتألم لها، وكان هذا الحب من القوة والعنف، بحيث ينكر علي أن أظل واجمة وهي تكاد تحترق أمامي في صمت، وان اقف مكتوفة الايدي، بينما أرى ذرات كيانها المضطرب تكاد تتبخر في الفضاء الأثيري المخلخل بعد العاصفة. . . آه! كم كنت أود أن احترم صمتها، وان اتركها في جلستها المفجعة ومكانها المنفرد؛ ولكني خشيت أن يهدمها الحزن المكتوم. وكان لابد لي أن أقول شيئاً، فلم أجد ما أقوله إلا أن اخذ رأسها بين يدي وألح عليها أن تمعن في البكاء

لم تكن هذه الفتاة من أولئك الفتيات اللائى يحملن قلوبهن في اكفهن ويخرجن بها إلى الأسواق للبيع أو الاستئجار، وكان كل من يعرفها لا يكتم إعجابه بذكائها وجاذبيتها وسمو اخلاقها، ولكنها كانت لا تكترث لشيء من هذا إلا كما يكترث الغني ببضعة مليمات! كانت تعلم يقيناً أن اثمن شيء لديها، هو قلبها الحي الكبير، وكانت تعتز به اعتزاز الإنسان باثمن ما يملكه؛ وكلما أثنى الناس على ذكائها أو حسنها، ابتسمت ابتسامة يتجسم فيها عدم الاكتراث، وتساءلت في نفسها: إذا كان هذا هو مقدار احتفال الناس بتلك الظواهر المادية التافهة، فكم يكون مدى احتفالهم بالكنز الذي في صدرها؟! ذلك القلب المليء بالحياة، الشغوف بالتضحية، النزاع إلى المثل العليا، والذي يود لو تتاح له الفرصة لإسعاد الآخرين!

ولقد أحبت هذه الفتاة! أحبت بكل ما في طبيعتها من إسراف وغلو، وبكل ما في قلبها من قوة وحياة، وما في نفسها الشعرية من ثورة وحرارة! وكان حباً نبيلاً تسامى شيئاً فشيئاً حتى تخلص من أدران الماديات. . . ولعل الشاب الذي أحبته لم يكن بادئ ذي بدء يفهم معنى ذلك النوع من الحب، ولكنه أدرك على ممر الأيام أنها قدمت إليه قلباً من ذهب، وحباً نبيلاً أشبه بالخيال لغرابته وندرته، فهاله ما قدمت، وصمم على الاحتفاظ بحبها حتى يضمهما اللحد، وعلى أن يمهد لها حياة سعيدة ولو كلفه ذلك حياته. واستبد به بعد ذلك حب قوي غلاب جعله يرى الحياة بدونها جحيماً لا يطاق؛ وكان كلما تسامى إليها وتوغل في فمها ودراستها، اتضحت له قيمة ذلك الحب الذي لا يعرف الأثرة ولا الاستهتار، وغمرته لذة روحية تجعله في شبه ذهول. . . ذهول الحالمين السعداء

عرفته في أكتوبر سنة 1929، وكان لا يزال طالباً بالسنة الأولى بإحدى المدارس العليا، وكان تعارفهما طبيعياً ووليد المصادفة البحتة. فقد نزح والداه من الريف إلى القاهرة، ليحميا وحيدهما من بلدة المغامرة واللهو والفساد؛ واتخذت الأسرة مسكناً متواضعاً في بين كانت تسكن به أسرة الفتاة؛ ومرضت الأم مرضاً أقعدها عن مباشرة أعمال أسرتها الصغيرة، فتطوعت الفتاة لمساعدتها، لأنها جبلت على حب الخير؛ ثم كانت ساعة من تلك الساعات التي ينسى المرء فيها نفسه وتقاليده وأرادته، فتقابلت الفتاة المحتجبة الحريصة، بالفتى الشاب المثقف، ولم يكن لأحدهما يد في تلك المقابلة. كان ذلك في مساء ليلة ليلاء من ليالي الشتاء القاسية، وقد آوت الجنوب إلى المضاجع فراراً من ثورة الطبيعة؛ ولاذ الناس بالبيوت ينشدون الدفء في صمت وسكون. وكان هناك شعاع حائل ضئيل، ينبعث من نافذة الأم المريضة، ويفنى بعد قليل في جوف الظلام. وقد رقدت المسكينة حين استبدت بها نوبة قاسية أذهلتها عن كل ما حولها؛ وكان صوت الريح يذهب بأنات الأم العليلة، فلم يكن يسمعها أحد سوى الشبح الأبيض الواقف بجانب سريرها، كأنه ملاك هبط من السماء. كان هذا شبح الفتاة النبيلة الحنون التي قامت بتمريض العليلة. وفتح الباب فجأة، ودخل الابن الشاحب المحزون يصحبه الطبيب، فلم تتمكن الفتاة من الخروج، فقد كان عليها أن تصغي إلى تعليمات الطبيب، وان تشرح له ملاحظاتها عن درجة حرارة العليلة، وبصاقها وطعامها، ولم يتمكن الفتى من الخروج، فقد كان الممرض الليلي لامه، وكان عليه أن يصغي لما يقوله الطبيب، عن سير المرض؛ وهكذا جمعهما الحزن المشترك؛ وأنستها رهبة الموقف، وشدة تفجعها للمريضة وابنها، ما درجت عليه من تحفظ واحتجاب

وكان لابد للفتى بعد أن شفيت أمه أن يشكر تلك الإنسانية النبيلة، وكان لابد لها أن ترد على رسالته، لتؤكد له أن ما قامت إلا بواجبها الانساني، ثم اختفت تلك المراسلات الرسمية، لتفسح المجال للتراسل الأخوي والتفاهم الروحي، بين الشاب المعجب بنبل الفتاة، وبين الفتاة الثائرة الحنون؛ ووجد كلاهما لذة مبهمة في ذلك النوع من الإخاء والصداقة، ولذ لهما أن يفرجا عن أنفسهما بالكتابة، وكلاهما يفهم أخاه ويحيا في بيئة تكاد لا تسمح لهما باستنشاق الهواء

لم يكن مرض الأم الذي أصابها في شتاء عام 1929 والذي كان سبباً لتعارفهما، إلا نوبة من نوبات مرض صدري يرعى في رئتها ويأتي في مهل على ما احتازته المسكينة من جلد واصطبار، وهاقد تمكنت العلة منها وأصبحت شبحاً هزيلاً يدب إلى القبر، ويهدي أخر أنفاسه إلى حياتنا العاجلة

وقرر الأطباء أن تبادر العليلة إلى مصحة حلوان. . . وإلا عجل إليها الموت؛ ولكن كيف؟ أن الوالد الشيخ لا يملك إلا ما يسد به رمق أسرته الصغيرة، كان يملك بضعة فدادين في مديرية الشرقية، وكانت زوجته تملك شيئاً من الحلي، فبذلا كل ذلك عن طيب خاطر في تعليم وحيدهما، ولكنه نال شهادة التعليم ليعلقها على جدران الحجرة الحقيرة التي استأجروها أخيراً يقيموا بها. ثم قبع في كسر داره بجانب أمه العجوز المريضة، وأبيه الشيخ الفاني! وإلا فهل يجمع الصبيان في الطرق ليلقى عليهم الدروس، ويطبق مبادئ روسو وأراء فريدريك هربرت سبنسر مستعملاً (هدايا) فروبل و (جهاز) مدام منتسورى؟ أم يفتح مدرسة أهلية قد تراكمت المدارس في أحياء البلاد، وهو بعد لا يملك ما يشتري به الدواء لامه المصدورة العليلة؟

كان مرهف الحس مهذب الوجدان، وقد عز عليه أن يفقد أبوه ثروتهما في سبيله، حتى إذا ما بلغ مبلغ الرجال كان حميلة عليهما. كان يشعر بأنه مسئول عن كل ما أصاب ويصيب والديه؛ وقد عذبه ذلك الخاطر وأمعن في إيلامه، فاخذ يبحث عن عمل كل يوم، ولكن ما الذي يستطيع حامل دبلوم المعلمين العليا أن يعمله، وهو لا يملك إلا تلك الثروة العلمية المخزونة في دماغه، لا يدري كيف يستغلها! ولقد صبر على الجوع حيناً وتحمل الضيق أحياناً، ولكنه الآن لا يستطيع الصبر، إذ يرى أمه التي غمرته بالعطف والحنان، تجود بحياتها مع أنفاسها الخافتة اللاهثة؛ ويرى أباه يجلس ذاهلاً مطرقاً، ينظر نظرات حزينة جوفاء إلى تلك الإنسانية المخلصة الراقدة، التي قاسمته حلو العيش ومره ثلاثين عاماً، غمرته فيها بكل حب وإيثار؟!

وقف الشاب يوماً بين أبويه وقد نفد صبره وعذبه عجزه فرفع يديه إلى السماء في حركة ضارعة مبتهلة، وتساءل بصوت متهدج حزين:

(أبتاه.! ألا أستطيع أن اصنع شيئاً لها؟ حياتي يا أبي ما قيمتها إذا لم تكن لكما وفي سبيلكما؟ إلا يمكنني فداؤها؟ (فابتسم الشيخ الحزين بعد أن تحجرت الابتسامة في شفتيه أعواما، وقام إلى ولده البار يضمه إلى صدره، ويغمره بقبلاته، ثم اسر إليه أن لا وسيلة لإنقاذ الأم المعذبة إلا بزواجه من ابنة عمه التي ورثت عن أبيها كثيراً من المال والعقار

طعنة أصابت قلب الفتى فأدمته! لقد كان مستعداً للتضحية بحياته لأنها ملك له؛ أما أن يضحي بقلبه وقد وهبه، وبفتاته وقد وثقت به واطمأنت اليه، فهذا ما لا طاقة له به. . يتزوج؟ ولمن إذن يترك الفتاة الصغيرة المثقفة؟ لقد تمكن الحب من قلبيهما ثلاث سنوات، وكانا من الاعتزاز بهذا الحب بحيث لم يلوثاه باباحة منكرة! كانا يخشيان على حبهما وهو الثوب الأبيض الناصع، أن يلوثه القليل من الغبار، ولم تعد لهما حيلة في التخلص من سلطان هذا الحب الذي نما مع الأيام، فكيف يفرض عليه أبوه ذلك الثمن الغالي؟ لا. . أنه لن يحطم قلبها ولن يكفر بالنعمة التي منحته إياها. . أنه بشر ولاحتماله حد معقول؛ وقد احب بكل قواه؛ ولئن كان مسئولاً عن سعادة امه، فهو مسئول كذلك عن سعادة فتاته، فقد منحته الأولى حبها وحنانها لأن عاطفة الأمومة فيها أرادت ذلك، بينما منحته الثانية حبها منة منها وتفضلاً. . .

لقد يستطيع أن يخنق حبه ويحطم قلبه، ليشتري بذلك سعادة أمه، ولكنه لا يستطيع أن يحطم قلب فتاته الصغيرة النبيلة. . .

ولكن الفتاة كانت أقوى منه. . لقد أحبته حباً صادقاً، والمرأة إذا أحبت فعلت المستحيل في سبيل سعادة من تحب. . . لقد عجز عن السير في طريق التضحية الشائك، فلتحمله هي على كتفيها غير آبهة بالأشواك تمزق ثياب راحتها، وتسيل دماءها. ولقد أعماه الحب عن الواجب، فلتفتح بأناملها الرشيقة عينيه، وتوقظ شهامته ورجولته، وحسبهما سعادة بعد ذلك إنقاذ الأبوين الكريمين

ولكن كيف تقنعه بوجوب التضحية؟ حدثتها نفسها أن توهمه أنها تحب غيره، ولكنها رجعت عن تلك الفكرة الروائية التي فرضها (إسكندر ديماس) على المحبين، وعز عليها أن تلوث الحب العالي بمثل هذه الأفكار، وهو آخر ما تبقى لها من سعادة! وأشفقت على فتاها أن تنهدم المثل العليا أمامه فيجزع وربما جحد الفضيلة وأنكر الحياة! ثم فكرت في أن توهمه أن أباها يفرض عليها الزواج من غيره، ولكن هذا لن يفيد في إيقاظ نخوته وشهامته، وإذن فلتتقدم إليه في صراحة وحزم، لتعلنه أن حبها وقد تنزه عن الماديات، أضعف من أن يحتمل تبعة موت الأم الحنون، وجنون الأب الشيخ، وأنها تحبه إلى الدرجة التي تخشى عليه فيها من فقد احترامها له إذا قتل أمه بأنانيته. إنها تحبه، ولكنت هذا الحب نفسه هو الذي يفرض عليها أن تتنكر له إذا لم يؤدي واجبه كرجل وكابن، فإذا ما سألها عما ستفعله بنفسها بعده، أجابته في رفق حازم أن لا شأن له بها، وأن عليه أن يتزوج من ابنة عمه. . .

لها الله!! ما كان أنبلها وهي توصي حبيبها الذي انتزعته الأقدار منها بالرفق بابنة عمه وإسعادها وتمهيد الراحة لها؟!

لها الله!! ما كان أنبلها وقد وقفت تهمس في أذنه ألا يحدث أمه عن تضحيته، وألا يقدم إليها الدواء مسموماً بإشعارها أن حياتها أنقذت بهذا الثمن الغالي. . .

ما كان أنبلها وقد وفقت تبعده عنها أشد ما تكون حباً له وشغفاً به!!

من يدري؟! ربما كان هول الموقف قد شغلها عن النظر إلى الأفق البعيد، حيث تتجمع قطع الظلام ويتصل بعضها ببعض! وربما كانت تجهل أن انتزاع الكلمات التي حرضت بها الفتى على الزواج من ابنة عمه، أقسى وأشد إيلاماً من قطع لحمها وهي حية. . . ظنت نفسها سعيدة ساعة خضع الفتى لحكمها، وقامت تودعه وتشد على يده بكلتا يديها وهي تبتسم ابتسامة شاحبة ذاهلة، حتى إذا ما تركته وتزودت منه بالنظرة الأخيرة، أحست بالألم يحز في قلبها، فهرعت إليَّ - وأنا صديقتها الواحدة - كالمجنونة، تشكو وتلتمس التشجيع؛ ثم ركنت إلى الصمت والهدوء، ولكنه كان الهدوء الذي يسبق العاصفة! وكنت أعلم أن وراء مشيتها الميكانيكية المفجعة ما وراءها! وأن تلك البسمة الصفراء الباهتة المتحجرة على شفتيها، تخفي وراءها ناراً ترعى قلب الفتاة المسكينة. كان هدوؤها المصطنع يقتلني، وكنت ألمح عن كثب وميض النار تتأجج بين جوانحها وتختفي تحت رماد الحياء والمداراة، كزبد الأفران العالية، يبدو سطحه للعين ترابياً أدكن، حتى إذا انفرج الزبد نرى حممه! ولم أكن أرجو شيئاً، إلا أن يمن الله عليها بنعمة البكاء!!

كان حبها من نار ونور، فلما حرمت نوره، رأت أن تحترق بناره في صمت! فقد كان عليها أن تظهر للناس بسّامة ضاحكة وإلا ولغت ألسنة السوء في سمعتها، ولوثت حبها الطاهر النبيل، وعبثت بمستقبل الحبيب النائي البعيد!

وكان عليَّ أنا، أن أتغنى بشهامتها، وأن أؤكد لها أنها ظفرت من الحياة بأوفى نصيب، حين اشترت بسعادتها سعادة ثلاثة آخرين! وكانت تنصت لكلماتي أحياناً ثم يغلبها الضعف فتفر إلى حيث تختلي بنفسها لا لتبكي، فليتها كانت تفعل، وإنما لتحترق في صمت!

ولمحت عن بعد شبح العاصفة يقترب في بطء، فلازمت الفتاة وأنا أكاد أختنق من الحزن والألم؛ فلما أعلن أخوها أن فتاها تزوج بابنة عمه، أرسلت نظرات محمومة مبهمة جوفاء! وفي بطء حزين، قامت إلى حجرتها، فركضت وراءها، ولم أجد ما أقوله إلا أن أطلب إليها أن تسرف في البكاء، فقد هالني تحجر الدمع في مقلتيها أشد مما يهولني الصراخ والنواح وانهمار الدموع!!

ابنة الشاطئ